د. علي زين العابدين الحسيني - أولياء الأدب العشرة

لستُ أدري هل كنّا سنصل إلى ذروة الإبداع الثقافي لو لم يتح لكثير من أعلام الأدب والثقافة في حياتنا المعاصرة نشر تراثهم؛ كالوحيين، والنظرات، والعبقريات، والقطوف، والحصاد، والفيض، والنهضة!
إنّ حياتنا حافلةٌ بأعلام وأصحاب أقلام على اختلاف مشاربهم، ولا تزال الناشئة مقبلين على أدبهم قراءة ودراسة وعمقاً ونظراً، نعم هناك كثيرون من الأعلام لهم آثار ظاهرة، لكن جماعة منهم من خاصة الخواص، والذين يمكن أن أطلق عليهم "أولياء الأدب" في وقتنا الحاضر، فهم الذين مهدوا طريق الأدب والمعرفة لغيرهم حتى بات سهلاً، وشاركوا في وضع أحجار الأساس لحياتنا الثقافية، وساهموا في بعض فنون الإبداع الحديثة، وقد حصرت هؤلاء الأعلام في "أولياء الأدب العشرة"، فأولئك كانوا -لما اجتمع لهم من ضروب الثقافة وجودة الأسلوب ورقي الأعمال- صورة مصغرة لأولياء الثقافة وأربابها، فكانوا لغيرهم رموزاً ينتهجون نهجهم، ويقتدون بآثارهم.
أضف ما تراه مناسباً -كما يحلو لك- شرط أن يكون لذلك أهلًا، وأزل من قائمتي مَن لا تراه على هواك، فالأمر ليس حكراً على أحد، لكن ثق تمام الثقة أن محذوفك قد أشغل حياتنا الثقافية العامة، إذ لو كان غراً صغيراً لما التفت إليه الكُتّاب بمدح أو قدحٍ، ولما أشغلتَ نفسك بالالتفات إليه ذماً ونقداً، وتحقيراً تارة وتنديداً، فالصغير مهما بلغ لا يلتفت إليه أحدٌ.
لكلّ إنسانٍ اختيارٌ في القراءة، ودونك اختياري. وإنّي على ثقة أنّه من الخير للناشئين أن يطيلوا النظر في كتب هؤلاء المختارين، فإنّ القراءة للكبار أجدى لهم من التخبط، ولا يمكن للشباب أن يلبسوا رداء العظمة إلا عن طريقهم.
الرافعي
أحد أساطين العصر، منزلته سامقة، وشخصيته أصيلة، وأفعاله نبيلة، وآثاره إبداعية باقية، عميق الفكرة، جزيل العبارة، متوقد الذكاء، متمرد الطبع، رأس مدرسة نثرية فريدة، مهمته الأساسية في كتاباته الاعتزاز بالعربية، وإعلاء شأن القيم، وتجسيد الفضائل، تصوره وتصويره عربيان خالصان، من القلة القليلة النادرة التي حملت على كتفيها أعباء أمة بأسرها في ردّ شبهات المعترضين على العربية وفنونها، يكاد وحي قلمه أن يكون وحياً منزلًا!
المنفلوطي
أحد الكبار الذين أقاموا صرح الأدب العربي المعاصر، "حجة الله في الإنشاء" في الوقت المعاصر، فيض الشعور، عفو البديهة، سليم الذوق، قويّ الحافظة، يتلمس ألوان البديع، رسائله وقصصه داعية إلى الفضيلة، ناطقة بالأخلاق الرفيعة، مات منذ سنين وبقي أدبه حياً، قرأت له وانشغلت بكتبه زمناً حتى صرت أتحسس صدق مشاعره بين سطور كلماته، وأميل في كتابتي "القصصية" إلى أمثال "عبراته".
أحمد حسن الزيات
رائد مجلة "الرسالة" وعميد كُتّابها، و"رسالته الزياتية" معتنيةٌ بالأدب والثقافة، ناشرة لأعلام عصره، بقيت أنفاسه الأدبيّة في كتابات "تلميذه النجيب" محمد رجب البيومي، وبواسطة أستاذنا البيومي تعلقتُ بالزيات وكتاباته وعقليته، ومارست العكوف على نصوصه، وبه يتصل سندنا في الكتابة والإنشاء، فقد أخذت عن أستاذنا رجب البيومي أحد "خريجي" مدرسته، وهو أخذ عن أستاذه أحمد الزيات، وهو عن سيد بن علي المرصفي ومصطفى المنفلوطي وغيرهما.
عبد العزيز البشري
وليّ من أولياء الثقافة المعاصرين، شيخ الساخرين، وأستاذ الدعابة، الفكه، المرح، وأفضل من صور البيئة القاهرية بثقافتها وحيواتها ورونقها، وكتاباته على قلتها من أدب الأمم الباقية، أمضى من عمره ثلاثين عاماً في عالم الكتابة، إلّا أنّه من المقلين في النشر، يرجع ذلك إلى تأنقه في العبارة، واختياره للألفاظ والمعاني باعتناءٍ بالغٍ إلى حدّ التكلف في بعض الأحيان، فلا يأتي هوس الكتابة لديه إلا بعد فترات، قد تكون متقاربة أو متباعدة.
طه حسين
دائب في الإنتاج والإنشاء، وقبلهما كان دائباً في القراءة والبحث والمطالعة، متمرد الطبع، صعب المزاج، معتد برأيه إلى حد الاكتفاء بنفسه، حياته سلسلة متواصلة من الجهد وبذل النفس في سبيل فكرته، ولأسبابٍ كثيرة لا تخفى هُوجم من كثيرين، أصابوا الحق في بعضها، وتحاملوا عليه في أمورٍ، أشدها عندي ما سمعته عنه من أحدهم: أنه رجل لا يحسن الكتابة!!
في قصة حياته كفاح ذاخر بالقصص الملهمة، في "أيامه" سرد عظيم للحكائين، يظهر فيها علو قلمه، وقوة تصوره، ودقة تخيله، لولا ما تواتر عنه من أنه فاقد البصر لما تخيلت أن رجلاً "ضرير البصر" يصف أشياء كثيرة بهذه الدقة المتناهية.
زكي مبارك
أديب مطبوع، جميل الأسلوب، كثير النقد، ذو أسلوب تحليلي، قروي النزعة، بارز الإنتاج، قوي الحافظة، صليب الرأي، كتاباته واسطة العقد، يعبر فيها عن الأصالة العربية، ويغترف من الثقافة العالمية، أدخل نفسه في معارك كثيرة وخصومات متعددة، فأرهق نفسه بتحميلها أكثر مما تحتمل، يعتز بنفسه ورأيه إلى حد المخاطرة، يعيش في السماء ويحلم بالمدينة الفاضلة، يتأثر قلبه بما يسمعه ويبلغه، فينفعل قلمه بسرعة وبقسوة، ويخرج من تقدير مجهوده الثقافي إلى حدّ التفاخر به.
عباس العقاد
عبقرية ناقدة ثائرة، ذو بصر شديدٍ بضروب المعرفة، قارئ نهم، كثير الاطلاع، بارز الشخصية، متوقد الذكاء، سريع الفطنة، صادق المدح، لاذع الهجاء، عاش حياته مع الصراع، وبدأها بالصراع، رأس مدرسة "الديوان"، يعتد برأيه إلى حد العناد، تحامل في كتاباته على بعض الأدباء الفضلاء، وله في ردوده ميزة، أنه يواجه من يتصدى له علانية، ويدبر عمن يسئ إليه في الخفاء، شأنه شأن العربيّ الأصيل.
إبراهيم المازني
أديب مرح، فكه، خفيف الظل، ذو فيوضات معرفية، وذكريات متعددة، يضمن النكت في كتاباته كما يرسلها في مجالسه، انتمى لمدرسة "الديوان"، ثم خلع عباءتها، وإن بقي الانتماء كامناً في نفسه، تتجلى في كتاباته فن "المقالات القصصية"، وهو من رواده المعاصرين، ينتزع كتاباته من وحي حياته وبيئته ومخزون الحافظة، يرفرف بجناحيه على أبناء جيله، وقدرته أكبر من إنتاجه، يربأ بنفسه أن يغشى مواضع الهلكة والخصومة بسبب لقمة عيشه، وإن اضطر لذلك يقاتل مُعارضه بالتهكم عليه والسخرية منه أكثر من معارضته بالحجة والبيان.
أحمد أمين
عاش طيلة عمره مصاحباً للمعرفة، حريصاً على الثقافة، جامع لمدارس عديدة، أزهري التخرج، ثم ذهب إلى دار العلوم والقضاء الشرعي، وانتقل بعدها إلى التدريس في الجامعة، وانتهى به المطاف إلى عالم الكتابة فأنتج الأعمال النافعة، صنيعة توجيه البيئة، وإلهام الفطرة، مثال الفكرة السليمة، والثقافة القويمة، والرجولة الكاملة، قطعة خالدة من ثقافتنا المعاصرة، كتبه أنيقة الأسلوب غزيرة المعاني، خير ما يوصى بها للناشئة المتأدبين.
محمد رجب البيومي
أستاذي الأكبر مؤرخ الأزهر وأديبه، بحر العلوم والآداب، خريج مدرسة "الرسالة"، وأحد أركان الأدب المعاصر، صنيعة جهد الأعلام، يربط في كتاباته الشرق بالغرب، فيه فضيلة كبرى لم أرها في غيره أنّه ينهض بطلابه إلى المعالي كما ينهض بنفسه، فهو بحر متلاطم الأمواج في إفادة الآخرين، طيب القلب، وقور النفس، موطأ الأكناف، مصروف الهم إلى مشاريعه العلمية، لو ترك إلى حاله لما خرج من مكتبته ولا قام من قراءاته، كثير القراءة والكتابة على حد سواء، وافر الإنتاج، تجمع كتاباته بين الفائدة العلمية واللذة الروحية.

د. علي زين العابدين الحسيني- كاتب أزهري


مجلة النيل والفرات، عدد ٢٦، ١٥ سبتمبر ٢٠٢٢، كل الشكر والتقدير لأسرة التحرير

1674592049100.png 1674592071777.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى