إبراهيم العدراوي - صورة المحامي في الكتابات السجنية المغربية

يهدف هذا المقال إلى تحليل الصورة التي رسمها المعتقل السياسي السابق جواد مديدش للمحامي الأستاذ عبد الرحيم برادة في شهادته “درب مولاي الشريف، الغرفة السوداء”. ونفترض دراسة تمثيل المحاكمة في الكتابة عن الذات، يمكن أن تعيد بناء ذاكرة الفعل المدني في المغرب، وتؤسس لمقاربة أشمل لإنصاف نماذج بذلت مجهودات جبارة من أجل تحقيق العدالة، ونصرة المعتقلين السياسيين. ونعتمد في تحليلنا على منهجية تحليل الخطاب التي تنفتح على دراسات متعددة، ولكنها تركز أساسا على تحليل صورة “المحامي” داخل الخطاب، مستحضرين سياق الحدث الخطاب في مستوى التمثيل التاريخي من جهة، وسياق الكتابة عن الحدث في مستوى الكتابة عن الذات، من جهة أخرى.



1 – الدفاع في قضية التهمة فيها “المس بأمن الدولة”

يُعدّ حضور المحامي شرطا مهما من شروط المحاكمة العادلة، وتتضمن شهادة جواد مديدش إشادة كبيرة بالدور الذي قام به المحامون من أجل الدفاع عن المتهمين في القضايا الخطيرة، ومن ذلك تنويهه بالأستاذ عبد الرحيم برادة، يقول الشاهد: ” “قبل الأستاذ عبد الرحيم برادة، من هيئة محامي الدار البيضاء أن يتكفل بملفي، وتولى الدفاع عني. كانت بدايته في الدفاع عن معتقلين سياسيين ينتمون إلى حركتنا، في عام 1973. في المحاكمة التي أقيمت للماركسيين اللينينين. وقد أبان، يومئذ، عن كفاءة وحنكة وقابلية منقطعة النظير. وتلك الخصال كانت أسلحته في المحاكمة التي عقدت لنا، بعد عامين”. تبني الذات الشاهدة صورة لنموذج المحامي الذي امتلك الجرأة للدفاع في قضايا، تعدّ، في نظر الدولة حينها، خطيرة، وتهدد أمنها. وتضفي طابعا إنسانيا على العلاقة التي جمعتها بالمحامي، الذي لم يكن يكتفي بعقد لقاء شكلي مع موكله، بل كان يهتم بالوضع السيء للمعتقلين، ولاسيما تعرضهم إلى التعذيب الذي وصل حدّ القتل، وفي هذا المقطع، ينقل مديدش سؤال المحامي برادة عن مصير أحد المعتقلين، الذي سيتضح في ما بعد أنه “عبد اللطيف زروال” الشاب الذي مات بسبب التعذيب، يقول الشاهد: “استفسر محاميّ عن أحوالي الشخصية… كان ينظر إلي نظرة حادة من وراء زجاج نظارته ويلح في السؤال عن اسم؛ هو البقالي… قال لي أنه تعرض لتعذيب شديد نقل على إثره إلى مستشفى ابن سينا. ليلفظ أنفاسه الأخيرة. لم أكن أعلم بعد، أن المراد بالبقالي، في الواقع هو زروال”. إن نقل هذا الحوار يتضمن إشارات ضمنية إلى ما تعرضت إليه الذات الجماعية من تنكيل داخل المعتقل، قبل بدء المحاكمة، فقد كان من الممكن أن يكون الشاهد مكان الضحية.
يعمد مديدش إلى تمثيل علاقة المحامين بالمتهمين، بإيراد وقائع تبرز الضغط الذي مارسه رئيس المحكمة على المحامين، يقول: “لم يكن الرئيس يراعي جانب الدفاع نفسه. فقد كان يتهم المحامين بالتواطؤ مع المتهمين. وكان يهددهم بالمتابعة أمام مجلس تأديبي، إن هم أصروا على الاحتجاج على قراراته. تدخل أحد المحامين، لينبه الرئيس إلى أنه، بطرحه تلك الأسئلة المتعلقة بالقناعات الدينية، والصحراء، والاستماع إلى الإذاعات الأجنبية، يكون قد تجاوز صلاحياته. فردّ عليه الرئيس بقوله: إنك الآن تشارك المتهمين أفكارهم، وإنك تجازف بتعريض نفسك للمتابعة للأسباب نفسها، التي يتابع بها زبناؤك. وهو ما ردّ عليه الأستاذ عبد الرحيم برادة، الذي كان منزله واقعا تحت المراقبة، وكان يتنصت على هاتفه، بقوله: سيدي الرئيس، إنّ التهديدات لن تجدي، ولن تؤدي إلى شيء. وحدا حدوه نقيب المحامين، الأستاذ الناصري الذي أثاره سماع رئيس يخطب فيطنب في خطبته على هذا النحو. فهبّ واقفا من مكانه، متشنج الملامح من فرط الغضب، ليرافع بصوت رصين وهادئ… سيدي الرئيس، إنك تتعجل في عملك. واعلم أن المحامين الحاضرين هنا، هم أولا رجال قانون محلفون. وهم ثانيا يعتبرون جزءا لا يتجزأ من هيئة هذه المحكمة، ثالثا وأخيرا، أن يدافعوا عن المتهمين، جميع المتهمين. بغض النظر عن قناعاتهم والجنح التي يمكن أن يكونوا اقترفوها. وهذا لا يعني أن هؤلاء المحامين يشاركون من يقومون للدفاع عنهم أفكارَهم”.

2 – المحامي الغاضب للحق

تبني الذات الشاهدة إيتوس المحامي من خلال الخطاب المعروض؛ إذ تعمد إلى الوصف، وتقرنه بنقل مقاطع من المرافعات التي قدّمها المحامون أمام المحكمة، ويجمع الشاهد صفات، قد تبدو متناقضة، في وصف المحامي الناصري، ولكنها تبني صورة “المحامي الغاضب للحق”؛ فبدءا يصدّر تسمية المحامي بلقب الأستاذية، وذلك للرفع من قيمة الشخص، بخلاف ما فعله عندما تحدث عن المحاميين اللذين استقالا في بداية المحاكمة، واللذين يورد اسميهما مقرونين بمهنة المحاماة فقط، ثم يراكم أوصافا تدلّ على غضب المحامي للحق (فهبّ واقفا من مكانه، متشنج الملامح من فرط الغضب)، ويعمد الشاهد إلى انتقاء الفعل “هبّ” الذي يحمل معاني الوقوف بسرعة وحزم، كما أنه ركز على صورة الوجه، بانتقاء صفات الملامح التي تعكس ما يشعر به الإنسان داخليا، وما يسعى إلى إيصاله إلى الآخرين. ومقابل هذه الصورة التي تركز على الجوانب العاطفية في بناء إيتوس المحامي، يقلب الشاهد اتجاه الاستدلال، من خلال وصف طريقة حديث المحامي في المحكمة “يرافع بصوت رصين وهادئ”، وهي صفات تدل على التمكن من أدبيات المهنة، والثقة في النفس بعد الانفعال الذي عبر عنه الفعل “هبّ” وهو ردّة فعل غاضبة وسريعة على اتهامات القاضي، كما عبّر عنه تشنج ملامح الوجه الذي يكشف عن الانفعال الشديد، غير أن هذه الصورة الخارجية لبورتريه المحامي، قد تحولت، بفضل قدرة هذا المحامي المتمرس على امتصاص غضبه الشديد، وهو ما عبّرت عنه الصفتان: “رصين، هادئ” اللتان حددتا الصوت الذي رافع به، وقد شكلت الذات الشاهدة من الغضب انتصارا للحق، ومن الرصانة والهدوء في المرافعة، صورة النموذج الأسمى للمحامي الذي يجمع بين الغضب انتصارا لقيمة العدالة، وبين القدرة على تحويل الغضب والانفعال إلى موقف هادئ رصين يحكمه العقل والتبصر، وهو ما من شأنه التأثير في المخاطب من جهة، ومنح الثقة للمحاكمين من جهة أخرى. أمّا مضمون المرافعة الذي تفصل فيه الذات الشاهدة عن طريق التقسيم الذي جاء على لسان المحامي، فيتجه إلى الانتصار لحجج الدفاع، الذي هو انتصار لقضية الشاهد، وقد وظف المحامي الناصري مجموعة من الحجج، مثل حجة التعريف (المحامون رجال قانون محلفون)، وحجة التضمين (المحامون جزء لا يتجزأ من هيئة المحاكمة)، والقياس (المحامي مهمته الدفاع عن المتهمين بغض النظر عن التهم الموجهة إليهم، هؤلاء المعتقلون متهمون، المحامي يجب أن يدافع عنهم)، كما أن أسلوب النفي يهدف إلى تفنيد ادعاء رئيس المحكمة بأن المحامي يدافع عن أفكار المتهمين. ويلاحظ أن الحجج التي قدّمها المحامي الناصري تستند إلى القواعد والمبادئ القانونية، وعندما يوردها الشاهد في شهادته، ويفصل فيها، يسعى إلى إقناع المخاطب بتعرضه إلى محاكمة غير عادلة، ما دام لم يتمتع هو ورفاقه بحقهم في الدفاع عن قضيتهم، وهو ما يشهد عليه جزء لا يتجزأ من المحكمة، وهم المحامون. لقد تعرض المحامون إلى الظلم في هذه المحاكمة، كالمتهمين. يقول مديدش: “فلما انتهت النيابة العامة من مرافعاتها، طلب الرئيس من الدفاع أن يعد قائمة بالمحامين الذين سيتولون المرافعات. لكن لم يتسن للمحامين أن يقدموا تلك المرافعات أبدا. فقد كانوا والمتهمين في الهم سواء”. يصور الشاهد المحامين الذين دافعوا عن قضيتهم، مع بعض الاستثناءات، بأنهم نزهاء، وشجعان، وأنهم لم يرافعوا في جوهر القضية، احتراما لرغبة موكليهم، ونظرا إلى الانتهاكات الصارخة التي ارتكبت في تطبيق فصول القانون.

3 – المحامي الإنسان

إن صورة المحامي في “محاكمة” الشاهد تجمع بين النقد لموقف بعض المحامين الذين تحكمت في مهنيتهم خلفيتهم السياسية، واختلافهم مع موكليهم، وبين الاحتفاء بالمواقف الشجاعة لأغلب أعضاء هيئة الدفاع، التي تميزت بالكفاءة المهنية، واحترام أخلاقيات المهنة، وقاست إلى جانب المتهمين من ظلم رئاسة المحكمة. وإذا كان الشاهد في مقاطع كثيرة قد اعتمد سردا ينقل الوقائع الموضوعية التي يشهدها ويعيشها رفقة المتهمين الآخرين، فسيعود إلى ضمير المتكلم، ليسرد لحظة إصدار الأحكام في علاقته بمحاميه الأستاذ برادة. يقول: “كانت لحظة فادحة. ذهل المحامون الحاضرون في القاعة… فلم يتمالكوا أنفسهم من البكاء. دنا مني الأستاذ برادة، بعينين محتقنتين من كثرة البكاء. وخطى متثاقلة. ربت على كتفي بحنو، بيد مرتعشة. وقبلني على خدي وهو يهمس لي بصوت يتميز تأثرا وانفعالا: -تشجع!”.
لا ينفصل بناء صورة الشخصيات الفاعلة في المحاكمة، عن الحجاج بالوقائع، فالشاهد ينقل أحداثا من المحاكمة، ويجعلها حية أمام المخاطب، كما نلاحظ في لحظة إصدار الأحكام، فشكّل تصوير هذه اللحظة مجالا للتأثير العاطفي في المخاطب، فقد وصفها بالفادحة، ومن معاني الفادحة المصيبة والكارثة، وهذا الوصف يتناسب مع ردّة فعل المحامين والحاضرين التي يجسدها فعل “ذهل”؛ لأنّ الأحكام كانت ثقيلة جدا وقاسية. ولهذا، فإنّ المحامين، وهم ينتمون إلى مجال القانون الذي يستدعي تحكيم العقل، وإقصاء العواطف، لم يتمالكوا أنفسهم من البكاء، بل إنهم بكوا بكاء شديدا، وهذا ما يعبر عنه وصف عيني عبد الرحيم برادة، اللتين احتقنتا من كثرة البكاء، ويحضر المعجم العاطفي بقوة “يحنو، يد مرتعشة، قبّلني، تأثرا وانفعالا”، مما يبئر الجانب العاطفي الإنساني في هذا المحامي. وهذه اللوحة المشحونة بالعواطف الحزينة، تمارس تأثيرا قويا على المخاطب، الذي يشارك الذات في الإحساس بهذه المشاعر، وفي إدانة ما تعرضت إليه من قسوة.

4 – المحامي ولحظة
إصدار الأحكام

تعود الذات الشاهدة إلى لحظة إصدار الأحكام، وتفصّل تاريخها بذكر الساعة (الحادية عشرة)، والفصل الذي جرت فيه (تلك الليلة الشتوية)، وهو فصل يشعر بالبرودة والقسوة في هذا السياق، كما تصف أطوار المحاكمة بالخيالية، وهو وصف يوحي بأن ما وقع فيها، يتجاوز حدود العقل، يقول الشاهد: “في الساعة الحادية عشرة من تلك الليلة الشتوية، أدخلنا قاعة الجلسات التي احتضنت لبضعة أسابيع، الأطوار الخيالية لهذه المحاكمة”. وإذا كانت بداية إصدار الأحكام قد انطلقت في الساعة الحادية عشرة ليلا، فإنها استمرت إلى حدود الفجر، وهذا دليل على ثقل اللحظات، وعلى حجم المتابعين، وكثرة الأحكام، واستندت الذات الشاهدة إلى موضع الكم، لإبراز فداحة الأحكام، التي نعتتها بالفعل الانتقامي، الذي هدف إلى إقبار أحلام الشباب، برميهم في السجن سنوات طويلة بسبب مواقفهم، ونشاطاتهم السياسية. يقول مديدش: “شرع الرئيس في تلاوة تلك اللائحة الطويلة في نحو الساعة الحادية عشرة. لم يكن له أن ينتهي من تلاوتها إلا مع ظهور الخيوط الأولى من الفجر… لم يفلت أحد من انتقام أفزاز… وسقطت الأحكام نافذة، لا استئناف بعدها. فكانت خمسة أحكام بالسجن المؤبد. وواحد وعشرون حكما بالسجن ثلاثين سنة. وثلاثة وأربعون حكما بالسجن عشرين سنة. وسبعة وأربعون حكما بالسجن عشر سنوات… كانت لحظة فادحةً، ذهل المحامون الحاضرون في القاعة، لسماع تلك الأحكام الثقيلة، تسقط كشفرة المقصلة. فلم يتمالكوا أنفسهم من البكاء”. وتعبر جملة “سقطت الأحكام نافذة”، وهي جملة خبرية، تتضمن انتقاء معجميا للفعل “سقط” الذي يدل على قوة الوقع، وعلى صدور الأحكام من الأعلى، في إيحاء بأن القضاء مأمور من لدن السلطات العليا. وهذا البعد الحجاجي مضمر، إذ استعمل فعل “سقط” بدلا من “صدر”، كما أن وصف الأحكام بالنافذة، دليل على قوة وقع هذه الأحكام، فالفعل “سقط” يحمل في ذاته قوة وقع هذه الأحكام، وهو ما يحولها في أسلوب استعاري من أحكام صدرت شفهيا إلى أحكام محسوسة، وكأنها حجر قد سقط على رؤوسهم من السماء، لاسيما أن الفعل “سقط” في التمثل العربي محمّل بالدلالات السلبية، وهو في لغة القرآن، محمل غالبا بالعنف والعقاب الشديد، كما في الآية: ” أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم من السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ” (سورة سبأ، الآية 9). ويعزز النفي القاطع هذا الوقع، “لا استئناف بعدها”، وهو استثناء يؤدي وظيفة التأكيد من خلال تكرار المعنى، وتفصيله (نافذة/ لا استئناف بعدها)، ويضطلع النفي بدور حجاجي في تقديم المعطيات، وقد أدخله بيرلمان ضمن موجهات التعبير، “فهو لا يحضر إلا حينما نكون بصدد الحجاج؛ لأنه رد على إثبات فعلي أو محتمل حصوله من قبل الغير”.
وتنقل الذات الشاهدة حدث إصدار الأحكام، بتفصيلها من خلال الأرقام، التي تؤدي وظيفة دلالية، تعبر عن اقتطاع سنوات طويلة من عمر المعتقلين المحاكمين من أجل آرائهم ومواقفهم. ويقرن الشاهد هذه الأرقام بالزمن في عبارة “لحظة فادحة” التي تعبر عن حكم بلاغي، ينكر الأحكام القضائية، فصفة “فادحة” تعبر عن هول اللحظة، ووقعها الأليم على نفوس المتهمين والمحامين والحاضرين، وهي صفة منتقاة بعناية، لأن الفداحة هي المصيبة، والنكبة والكارثة. وقد اختزلت الصفة هذه المعاني كلها. ويعمد الشاهد إلى إبراز فداحة اللحظة، بوصف أثرها على المحامين، وهم رجال عدالة، يفترض أن يكونوا معتادين على تلقي سماع الأحكام في المحاكم. فجملة “ذهل المحامون” تعكس حدثا غير متوقع، وسببه “الأحكام الثقيلة”، ويناسب ردّ فعل الحامين “ذهل” صفة الفداحة التي تحدثنا عنها، لأنه ردّ فعل طبيعي إزاء المصيبة والكارثة المفاجئة، التي جاءت نتيجة “الأحكام الثقيلة”، وفي انتقاء صفة “الثقيلة” تحويل للأحكام القضائية إلى صخرة ثقيلة تسقط على رؤوس المتهمين بعنف شديد، وهذا ما يتناسب مع الفعل “سقط” الذي تحدثنا عن دلالته السلبية. ويؤدي تشبيه “تسقط كشفرة المقصلة” وظيفة حجاجية، إذ إن أحكام السجن الثقيلة تشبه حكم الإعدام بالمقصلة، بمعنى أن الأحكام لم تصادر حرية المتهمين فقط، بل صادرت حياتهم، وكأن المحامين يحضرون لحظات تنفيذ الإعدام في حق المتهمين، وهذه مبالغة تهدف إلى إثارة المتلقي، لكي يشعر بفداحة الأحكام وقسوتها، ولعل انتقاء جزء “الشفرة” من المقصلة، يعكس حدة الأحكام؛ ذلك أن الشفرة الحادة للمقصلة تفصل رأس المحكوم عليه بالإعدام عن بدنه بسرعة كبيرة، فتنقله من الحياة إلى الموت، ويظهر البعد الحجاجي في التشبيه في أن الأحكام قد نقلت المعتقلين في المحاكمة من الحياة إلى الموت، نظرا لثقل الأحكام التي وصلت حدّ السجن المؤبد. ويهدف التشبيه التمثيلي “الأحكام الثقيلة تسقط كشفرة مقصلة” إلى التأثير والحجاج؛ فالأحكام الثقيلة تسقط على المتهمين، كما تسقط شفرة المقصلة الحادة على المحكوم عليهم بالإعدام، وهو تشبيه يكشف عن قسوة هذه الأحكام، وعن سوداوية المصير الذي آل إليه المتهمون، بل عن قتلهم المعنوي بسبب سنوات السجن الطوال، وهي صورة تستدعي باتوس المخاطب، لأنه يستحضر صورة المحكوم عليه بالإعدام، وهو يضرب بشفرة المقصلة الحادة التي تفصل رأسه عن جسده، وهذه الصورة “الدموية” المؤلمة، تتناسب مع ردة فعل المحامين والحاضرين على تلك الأحكام الجائرة التي دفعتهم إلى البكاء. وإذا كان يفترض في المحامين أن يحضروا المحاكمة العادية، لاستئناف الأحكام التي لا تكون في صالح موكليهم، فإنهم سيجدون أنفسهم في محاكمة 1977، مستسلمين لا يملكون سوى ردّ الفعل الإنساني على الإحساس بالظلم، وتؤدي جملة (لم يتمالكوا أنفسهم من البكاء) وظيفة بلاغية، تتوجه إلى باتوس المخاطب، فالمحامي يتحول من إنسان صلب يؤمن بالقانون، إلى إنسان هش لا يملك وسيلة للدفاع سوى البكاء. تعيد الذات الشاهدة بناء صورة المحامي الذي كان يصيح ويحتج ويدافع بقوة القانون، ليتحول إلى إنسان يتجرد من إيتوسه المهني، ويلبس إيتوسه الإنساني المفعم بمشاعر الإحساس بوقع الظلم، من خلال البكاء الذي يحمل معاني الاستسلام والعجز والتحسر على الأحكام الصادرة.

5 – خاتمة

ركزت أغلب الدراسات النقدية على دراسة الكتابات السجنية في مستوى إبراز ما تعرض إليه المعتقلون من تعذيب وإذلال… وأغفلت، في اعتقادنا، جوانب أخرى مهمة، تتعلق بالأطر الاجتماعية والمدنية في بناء الذاكرة الجماعية. ونفترض أن إعادة قراءة هذه الكتابات/ الشهادة، يمكن أن يسعف في الكشف عن الأبعاد التنويرية في نضال المجتمع من أجل تكريس الحقوق المدنية والسياسية. ويمثل النموذج الذي قدمناه لتمثيل صورة المحامي في الكتابة عن الذات، بعدا موجها للبحث في صورة تمثيل المحاكمة، ومن شأن البحث المتعدد التخصصات في الذاكرة، بروافده التاريخية والسياسية والاجتماعية والحقوقية والبلاغية… أن يفتح طريقا إلى الماضي، متصلا برهانات الحاضر والمستقبل. تتجاوز صورة المحامي في الشهادة التي درسناها صورة المدافع عن المتهم، وتتعداها إلى الإنسان المناضل من أجل تكريس العدالة، والدفاع عن المبادئ والقيم الإنسانية الكبرى. ولعل دروس الماضي، تكون باعثا لنتأمل صورة المحامي اليوم… ونأمل في أن تبني نموذجا للمحامي الأستاذ الذي ينتصر للإنسان، ويعتبره قضيته الأساس، ومهنته النبيلة.

مراجع:

– جواد مديدش، درب مولاي الشريف الغرفة السوداء، 2007، ص138.
2جواد مديدش، درب مولاي الشريف الغرفة السوداء، ص139.
3-جواد مديدش، درب مولاي الشريف الغرفة السوداء، صص161-162.
4-جواد مديدش، الغرفة السوداء، ص 173.
5-جواد مديدش، الغرفة السوداء، ص174.
6-جواد مديدش، الغرفة السوداء، ص 78.
7-جواد مديدش، الغرفة السوداء، ص 176.
8-جواد مديدش، الغرفة السوداء، ص 178.
9 – Chaïm Perelman, Traité de l’argumentation, la nouvelle rhétorique, avec Lucie Olbrechts-Tyteca, P208.

الكاتب : إبراهيم العدراوي


بتاريخ : 27/01/2023




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى