أحمد عبدالله إسماعيل - رباع؟!

تساءلَتْ في صراع يستعر بداخلها:
"هل أستبدل ميكانيكي بطبيب؟! ماذا يقول الناس والأهل والمعارف على عتبات بيوت القرية؟! هل يشمت بي طليقي وعائلته؟!"
تجلس وحيدة تصارع حيرتها، لا تقوى على اتخاذ القرار؛ تعلم أن الناس سوف يلوكون سيرتها كثيرًا، لكن ليس في مقدورها التوقف عن التفكير، لم ولن تحجم عن الانشغال بهمِّ بناتها، ولا تكف عن التحسر على جمالها، هي نبتة خضراء، يصرخ جسدها بنضارة الشباب، تخشى أن تذبل، ويدهسها الزمن، ويطويها النسيان إن أقدمت على تلك الخطوة.
داهمتها ذكرى دأبت على مطاردتها، وترددت في أذنها صرخات وكلمات سحقت سعادتها:
"كفى يا مجنون، إنك تقتلني، لا أستطيع أن أتنفس؟! بدلًا من أن ترهبني صباح مساء، واجه إخوتك؛ فجميعهم يتنعمون بالميراث، ويتمتعون بملذات الحياة إلا أنت!"
بهذه الكلمات شهدت ابنتها ذات السنوات العشر بما علمت أمام محكمة الأسرة التي كتبت كلمة النهاية.
يحبس مطلِّقها أنفاسه، لزم بيته ضائقًا صدره، يندب حظه؛ فلم يجد سوى أن ينقل بثًّا حيًّا إلى كل جهات الاتصال لديه عبر الفيس بوك، راح يغني، بعين دامعة، وبصوت يغالبه النحيب، أغنية بناته المفضلة، ويروي كل التفاصيل المبهجة التي اعتاد أن تجمعه بهن؛ فتوسلت إحداهن لأمها التي تلاحقت ليالي الجحيم الطوال في مخيلتها كلما أغمضت عينيها أو حاولت الرضوخ أمام إلحاحها!
احتضنت بناتها الأربع، وأغلقت الباب في وجهه، وأجهضت كل محاولات الصلح بعد أن حلّقت في الفضاء الذي رُفعت الحواجز منه؛ فاتسع أمام عينيها، ها هي تتنفس الشهيق المنعش بعد أن حرمها منه مَن كان يُحصي عليها أنفاسها.
خرجت إلى عملها بالمستشفى الجامعي، أجرت جراحات ناجحة بالفم واللثة كالمعتاد، غير أنها في أثناء عودتها تستقل سيارتها، تذكرت كيف لفظ حبها له النفس الأخير في تلك الليلة، كلماته الصادمة ما يزال صداها يتردد في أذنيها، نظر لابنته الرضيعة ثم رمق زوجته التي كانت تئن من آلام النفاس، وقال في نبرة سخرية ولوْم:
- بنت رابعة؟! مبارك يا أم البنات!
ذرفت عيناها الدموع من تلك الذكرى المحبطة، غشى الأرض سحاب كالدخان، حينئذ وقع حادث تصادم؛ فتضررت السيارة للغاية بينما أصيبت المسكينة بجروح في الظهر والرقبة والساقين.
بعدما تماثلت للشفاء، توجهت إلى أشهر ورشة ميكانيكي؛ فحص السيارة ثم أخبرها بأتعابه.
حبست أنفاسها من الدهشة، ثم نطقت:
- تطلب قيمة راتبي في عام كامل مقابل عمل استغرق بضع ساعات؟!
هدأ من غضبها قائلًا:
- لا تنشغلي كثيرًا بهذا الأمر، الأهم أني كسبت عميلة مميزة.
تطلعت إليه في دهشة، وجدته -بخلاف مطلِّقها تمامًا- وسيمًا قسيمًا، أبيض الوجه، كثيف اللحية، باسم الثغر، هادئ النفس، حلو الكلام، تعجبت من أسلوبه وطريقته، وبخاصة عندما أقسم ألا يتقاضى أجرًا نظير عمله، مكتفيًا بقيمة القطع الجديدة التي استبدلها بالقطع التالفة؛ فسألته عن أسنانه، وأسعدها ردّه للغاية.
تردد على عيادتها؛ فرآها عن قرب، ترتدي لباسًا محتشمًا، أُسر بفعل نظرات عينيها الواسعتين وأهدابها المرسومة بدقة وصوتها الدافئ، مع أنه لم ير قسمات وجهها؛ إذ كانت ترتدي النقاب، وعلى الرغم من ذلك تولدت بينهما مشاعر جاهدت -أكثر من مرة- ألا تنمو أو تكبر.
جلست ساهمة تتساءل:
"هل يحبني حقًا؟! نعم، بكل تأكيد؛ فمنذ عرفته تتعطل السيارة أكثر مما تسير، وكلما تعطلت تذهلني المفاجأة؛ إذ أجده أمامي خلال دقائق معدودة، والأغرب أنه يصلحها من غير مقابل!"
قبل أن تنطق بما يؤرقها، أجاب على التساؤلات التي تتقافز من عينيها قائلًا:
- يعمل معي فريق عمل كبير معظمهم تخرجوا في الجامعة، وبخاصة كلية الهندسة.
- هذا غير معقول؟!
- تقطعتْ بهم السبل دون الحصول على وظائف حكومية أو حتى في أيّ مصنع؛ فعملوا بإصلاح السيارات.
- ألا يخجلون من العمل لديك؟!
- هم يعملون معي، ثم إننا لا نخجل مطلقًا من عملنا، تعبنا في البداية حتى أسسنا لأنفسنا اسمًا؛ فذاع صيتنا، يقصدنا العملاء من كل محافظات الجمهورية، نعم، أنا ميكانيكي لكني أعشق مهنتي.
- هل أنت متزوج؟
- نعم، ثلاث.
فقدت النطق من هول المفاجأة للحظات، ثم استجمعت قواها وقالت:
- هل تسير الحياة على كوكبكم بهدوء وتفاهم؟! كيف تسود المودة بينكم؟!
تبسم ضاحكًا من أسئلتها ثم أردف قائلًا:
- أعدك بالسعادة، وتجاوز كل الأحزان، إن قبلتِ...
بعد تفكير يؤرقه الخوف، قررت أن تظل على قيد الأمل؛ فهي تعلم أنها سوف تتألم إن بقيت بمفردها، لن يشعر بها أحد؛ لذلك حسمت أمرها الذي تعجب منه أهل القرية أيما عجب، تردد على ألسنة الجميع:
"تركت الدكتور ليكمل بها الميكانيكي الملتحي -شريف شيفروليه صاحب ورشة "السيارة المجنونة"- ما طاب له من النساء بعد مثنى وثُلاث!"
تساءلَتْ في صراع يستعر بداخلها:
"هل أستبدل ميكانيكي بطبيب؟! ماذا يقول الناس والأهل والمعارف على عتبات بيوت القرية؟! هل يشمت بي طليقي وعائلته؟!"
تجلس وحيدة تصارع حيرتها، لا تقوى على اتخاذ القرار؛ تعلم أن الناس سوف يلوكون سيرتها كثيرًا، لكن ليس في مقدورها التوقف عن التفكير، لم ولن تحجم عن الانشغال بهمِّ بناتها، ولا تكف عن التحسر على جمالها، هي نبتة خضراء، يصرخ جسدها بنضارة الشباب، تخشى أن تذبل، ويدهسها الزمن، ويطويها النسيان إن أقدمت على تلك الخطوة.
داهمتها ذكرى دأبت على مطاردتها، وترددت في أذنها صرخات وكلمات سحقت سعادتها:
"كفى يا مجنون، إنك تقتلني، لا أستطيع أن أتنفس؟! بدلًا من أن ترهبني صباح مساء، واجه إخوتك؛ فجميعهم يتنعمون بالميراث، ويتمتعون بملذات الحياة إلا أنت!"
بهذه الكلمات شهدت ابنتها ذات السنوات العشر بما علمت أمام محكمة الأسرة التي كتبت كلمة النهاية.
يحبس مطلِّقها أنفاسه، لزم بيته ضائقًا صدره، يندب حظه؛ فلم يجد سوى أن ينقل بثًّا حيًّا إلى كل جهات الاتصال لديه عبر الفيس بوك، راح يغني، بعين دامعة، وبصوت يغالبه النحيب، أغنية بناته المفضلة، ويروي كل التفاصيل المبهجة التي اعتاد أن تجمعه بهن؛ فتوسلت إحداهن لأمها التي تلاحقت ليالي الجحيم الطوال في مخيلتها كلما أغمضت عينيها أو حاولت الرضوخ أمام إلحاحها!
احتضنت بناتها الأربع، وأغلقت الباب في وجهه، وأجهضت كل محاولات الصلح بعد أن حلّقت في الفضاء الذي رُفعت الحواجز منه؛ فاتسع أمام عينيها، ها هي تتنفس الشهيق المنعش بعد أن حرمها منه مَن كان يُحصي عليها أنفاسها.
خرجت إلى عملها بالمستشفى الجامعي، أجرت جراحات ناجحة بالفم واللثة كالمعتاد، غير أنها في أثناء عودتها تستقل سيارتها، تذكرت كيف لفظ حبها له النفس الأخير في تلك الليلة، كلماته الصادمة ما يزال صداها يتردد في أذنيها، نظر لابنته الرضيعة ثم رمق زوجته التي كانت تئن من آلام النفاس، وقال في نبرة سخرية ولوْم:
- بنت رابعة؟! مبارك يا أم البنات!
ذرفت عيناها الدموع من تلك الذكرى المحبطة، غشى الأرض سحاب كالدخان، حينئذ وقع حادث تصادم؛ فتضررت السيارة للغاية بينما أصيبت المسكينة بجروح في الظهر والرقبة والساقين.
بعدما تماثلت للشفاء، توجهت إلى أشهر ورشة ميكانيكي؛ فحص السيارة ثم أخبرها بأتعابه.
حبست أنفاسها من الدهشة، ثم نطقت:
- تطلب قيمة راتبي في عام كامل مقابل عمل استغرق بضع ساعات؟!
هدأ من غضبها قائلًا:
- لا تنشغلي كثيرًا بهذا الأمر، الأهم أني كسبت عميلة مميزة.
تطلعت إليه في دهشة، وجدته -بخلاف مطلِّقها تمامًا- وسيمًا قسيمًا، أبيض الوجه، كثيف اللحية، باسم الثغر، هادئ النفس، حلو الكلام، تعجبت من أسلوبه وطريقته، وبخاصة عندما أقسم ألا يتقاضى أجرًا نظير عمله، مكتفيًا بقيمة القطع الجديدة التي استبدلها بالقطع التالفة؛ فسألته عن أسنانه، وأسعدها ردّه للغاية.
تردد على عيادتها؛ فرآها عن قرب، ترتدي لباسًا محتشمًا، أُسر بفعل نظرات عينيها الواسعتين وأهدابها المرسومة بدقة وصوتها الدافئ، مع أنه لم ير قسمات وجهها؛ إذ كانت ترتدي النقاب، وعلى الرغم من ذلك تولدت بينهما مشاعر جاهدت -أكثر من مرة- ألا تنمو أو تكبر.
جلست ساهمة تتساءل:
"هل يحبني حقًا؟! نعم، بكل تأكيد؛ فمنذ عرفته تتعطل السيارة أكثر مما تسير، وكلما تعطلت تذهلني المفاجأة؛ إذ أجده أمامي خلال دقائق معدودة، والأغرب أنه يصلحها من غير مقابل!"
قبل أن تنطق بما يؤرقها، أجاب على التساؤلات التي تتقافز من عينيها قائلًا:
- يعمل معي فريق عمل كبير معظمهم تخرجوا في الجامعة، وبخاصة كلية الهندسة.
- هذا غير معقول؟!
- تقطعتْ بهم السبل دون الحصول على وظائف حكومية أو حتى في أيّ مصنع؛ فعملوا بإصلاح السيارات.
- ألا يخجلون من العمل لديك؟!
- هم يعملون معي، ثم إننا لا نخجل مطلقًا من عملنا، تعبنا في البداية حتى أسسنا لأنفسنا اسمًا؛ فذاع صيتنا، يقصدنا العملاء من كل محافظات الجمهورية، نعم، أنا ميكانيكي لكني أعشق مهنتي.
- هل أنت متزوج؟
- نعم، ثلاث.
فقدت النطق من هول المفاجأة للحظات، ثم استجمعت قواها وقالت:
- هل تسير الحياة على كوكبكم بهدوء وتفاهم؟! كيف تسود المودة بينكم؟!
تبسم ضاحكًا من أسئلتها ثم أردف قائلًا:
- أعدك بالسعادة، وتجاوز كل الأحزان، إن قبلتِ...
بعد تفكير يؤرقه الخوف، قررت أن تظل على قيد الأمل؛ فهي تعلم أنها سوف تتألم إن بقيت بمفردها، لن يشعر بها أحد؛ لذلك حسمت أمرها الذي تعجب منه أهل القرية أيما عجب، تردد على ألسنة الجميع:
"تركت الدكتور ليكمل بها الميكانيكي الملتحي -شريف شيفروليه صاحب ورشة "السيارة المجنونة"- ما طاب له من النساء بعد مثنى وثُلاث!"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى