يبدو المصطفى اجماهري كأحد بحارة غابرييل غارسيا ماركيز، غائصا في ذاكرة المدينة من دون أن يغرق، منقبا عن آثار العابرين والديار الدوارس بلا كلل. المظان غميسة ومتناثرة يحاول أن يستجمع مستحثاتها بحرص عالم آثار، في صمت جليل وبانضباط لا يخلو من قسوة، في أسفار لا تنتهي. مؤسسا لثقافة القرب التي من دونها لا يكتب تاريخ ولا تقوم للتخييل قوائم، يسد الفراغات ويملأ وحشة العدم كأنما يعالج أجزاء مربكة، بوزل، عبثت بها أياد خفية.
لكأن مدينة الجديدة قدر هذا المصطفى، ولكأنه قدر المدينة. هي مسقط الرأس وهو الابن البار. من هنا عبر الآباء والأجداد، الفاتحون والقراصنة، الصلحاء والشحاذون، المقاومون والمستعمرون، أمم وشعوب عديدة، تاركين خلفهم بعض البقايا المدونة تعهد هو، وسواه، أن ينقبوا عنها وسط صحراء النسيان والإهمال وسطوة الزمن. كان بوسعه أن يرتكن مستريحا إلى سروده العربية، التي راكم منها أربع مجاميع لا تخلو من خصوصية، ويكتفي بمرتبة عادية ضمن سلالة من القصاصين المتنوعين. ولأنه كان موقنا بأنه لن يكون “زفزافا” جديدا، حسب قوله، فإنه فضل، وهو الكاتب والصحفي، تغيير الوجهة واللغة نحو عوالم ما تزال بكرا أو تكاد، ولو أنها مليئة بالمطبات. يحركه إيمان لا يتزحزح بأنه ليست هناك رياح مواتية للنوتي الذي يعرف جيدا كيف يوجه أشرعته مثلما يقول إيميل سيوران. وبما أن الأقدار لا تصنعها الكتب، وحدها، وإنما يصنعها الرجال بالأساس، فقد كان من حظ المصطفى اجماهري، المتحفظ المحترس، أن صادف في مساره الحياتي والجامعي أشخاصا مائزين، كغي مارتيني، وعبد الكبير الخطيبي، وفاطمة المرنيسي، وزكي الجابر، كان لهم أثر حاسم في إعادة تشكيل وعيه وشحذ أسئلته. حدسوا فيه باحثا رزينا يعيد الاعتبار للمهدومة، أحد أسماء مدينة الجديدة، فصدق حدسهم. ولعل اقترابه من الثلاثي غـي مارتيني وعبد الكبير الخطيبي والجديدية نيلسيا دولانوي وآخرين من هذا العيار قد فتحت عينيه على آفاق فسيحة، منها أن بحر الثقافة الوطنية الهادر لا يتغذى إلا من الجداول والعيون المحلية النازة بقطرات شحيحة. وأن كتابة التاريخ الكبير لا بد لها من أن تعبر عبر التواريخ الصغرى للجهات والمدن. وبما أن مدينة الجديدة، في نظر اجماهري، هي أكبر من مدينة، قولا وفعلا، وإذا كانت كثير من المدن والقرى لا تعرف إلا بأوليائها ومبدعيها ومثقفيها، رجالا ونساء، فإن حاضرة الجديدة، إلى جانب تاريخها العريق، تضيئها منارات لألاءة في سماء الصلاح والجهاد والفكر والإبداع، أسماء بها يتشرف المكان ويغتني. إذ يكفي أن يذكر اسم إدريس الشرايبي أو عبد الكبير الخطيبي أو طه عبد الرحمن أو أندريه الباز، على سبيل التمثيل، كي تزهو هذه المصونة على سواها من الحواضر.
وليس من المبالغة في شيء القول بأن مدينة الجديدة وإقليمها صارت اليوم معروفة أكثر بفضل الأستاذ المصطفى اجماهري وصفوة من ذوي الغيرة على الفن والثقافة والإبداع. فهذا الرجل، فضلا عن هواجسه العلمية والمعرفية، تحركه غيرة على تاريخ الجديدة وضواحيها، تاريخ ظل متناثرا في الكتب والوثائق المظنون بها على غير ذويها من الباحثين والمختصين، فوطد العزم على ملء الفجوات وسد الفراغات لترميم ذاكرتها الجمعية وإعادة تقويم ما تزخر به من غنى فكري وحضاري، على مستوى الخيرات المادية والبشرية والرمزية، وما ينتظرها من مستقبل هي أهل له.
من ثم فنحن، مع الأستاذ المصطفى اجماهري، أمام مشروع شخصي يضاهي في طموحه رهان مؤسسات بأكملها. علما بأن العوائق كثيرة وكبيرة، ولعمرنا فإن هذا الباحث مؤهل، أكاديميا، لأن يبحر في تاريخ الجديدة بخبرة بحار أصيل، رايس بن رايس، بهدوء وبحس معرفي متيقظ. من هنا أيضا فإنه لا يمكن التفريق بين المصطفى اجماهري الباحث والمدقق، والمصطفى اجماهري الإنسان. فهو يشتغل في صمت ودأب وبتواضع كبير. لا يجد غضاضة في استشارة أصدقائه، في كثير من القضايا ويتقبل آراءهم بصدر رحب : صدر المعلم المقتدر والإنسان النبيل.
لقد راح يتقفى ظلال مدينة الجديدة منذ العهود الغابرة إلى اليوم، حيث سيكتشف إلى أي مدى هي موغلة في التنوع والقدم، في الغنى والانفتاح اللذين يليقان بمدينة سبق لها أن كانت ذات طابع كوسمبوليتي، وما يزال ينتظرها اليوم مستقبل كبير. هكذا فكلما حاول فتح باب تكشفت له دهاليز أخرى مستغلقة: موانئ وجاليات وقناصل وديانات، وثائق وشهادات وحكايات، شخصيات ومواقف، أولياء وقديسون ودراويش وما لا يحصى من الوقائع والأخبار، لاحقها، على مدى ثلاثة عقود، في سلسلة خاصة أطلق عليها اسم “دفاتر الجديدة”، هي الآن تربو على العشرين كتابا قد لا تقوى على إنجازها، كما أسلفنا، مؤسسات بحالها. والحبل على الغارب كما يقال. في غياب أي دعم أو مساعدة سوى عزيمة قوية وحب لا يعرف النضوب. وكلما توفرت لاجماهري فسحة، وسط هذا الانشغال، لجأ إلى ديدنه القديم، ديدن الحكي. الحكي الذي يمتح من التاريخ والذاكرة، تشهد على ذلك مجموعته القصصية “التين والعقاب” المقدمة من صديقه فؤاد العروي، وروايته الرقيقة “مسالك الانتظار” ، ثم سيرته الذاتية المنشورة عن دار لارمتان الفرنسية بعنوان “في ظل الجديدة”. هذه الجديدة الساكنة في القلب وبين الضلوع.
الحبيب الدائم ربي 02/05/2022
لكأن مدينة الجديدة قدر هذا المصطفى، ولكأنه قدر المدينة. هي مسقط الرأس وهو الابن البار. من هنا عبر الآباء والأجداد، الفاتحون والقراصنة، الصلحاء والشحاذون، المقاومون والمستعمرون، أمم وشعوب عديدة، تاركين خلفهم بعض البقايا المدونة تعهد هو، وسواه، أن ينقبوا عنها وسط صحراء النسيان والإهمال وسطوة الزمن. كان بوسعه أن يرتكن مستريحا إلى سروده العربية، التي راكم منها أربع مجاميع لا تخلو من خصوصية، ويكتفي بمرتبة عادية ضمن سلالة من القصاصين المتنوعين. ولأنه كان موقنا بأنه لن يكون “زفزافا” جديدا، حسب قوله، فإنه فضل، وهو الكاتب والصحفي، تغيير الوجهة واللغة نحو عوالم ما تزال بكرا أو تكاد، ولو أنها مليئة بالمطبات. يحركه إيمان لا يتزحزح بأنه ليست هناك رياح مواتية للنوتي الذي يعرف جيدا كيف يوجه أشرعته مثلما يقول إيميل سيوران. وبما أن الأقدار لا تصنعها الكتب، وحدها، وإنما يصنعها الرجال بالأساس، فقد كان من حظ المصطفى اجماهري، المتحفظ المحترس، أن صادف في مساره الحياتي والجامعي أشخاصا مائزين، كغي مارتيني، وعبد الكبير الخطيبي، وفاطمة المرنيسي، وزكي الجابر، كان لهم أثر حاسم في إعادة تشكيل وعيه وشحذ أسئلته. حدسوا فيه باحثا رزينا يعيد الاعتبار للمهدومة، أحد أسماء مدينة الجديدة، فصدق حدسهم. ولعل اقترابه من الثلاثي غـي مارتيني وعبد الكبير الخطيبي والجديدية نيلسيا دولانوي وآخرين من هذا العيار قد فتحت عينيه على آفاق فسيحة، منها أن بحر الثقافة الوطنية الهادر لا يتغذى إلا من الجداول والعيون المحلية النازة بقطرات شحيحة. وأن كتابة التاريخ الكبير لا بد لها من أن تعبر عبر التواريخ الصغرى للجهات والمدن. وبما أن مدينة الجديدة، في نظر اجماهري، هي أكبر من مدينة، قولا وفعلا، وإذا كانت كثير من المدن والقرى لا تعرف إلا بأوليائها ومبدعيها ومثقفيها، رجالا ونساء، فإن حاضرة الجديدة، إلى جانب تاريخها العريق، تضيئها منارات لألاءة في سماء الصلاح والجهاد والفكر والإبداع، أسماء بها يتشرف المكان ويغتني. إذ يكفي أن يذكر اسم إدريس الشرايبي أو عبد الكبير الخطيبي أو طه عبد الرحمن أو أندريه الباز، على سبيل التمثيل، كي تزهو هذه المصونة على سواها من الحواضر.
وليس من المبالغة في شيء القول بأن مدينة الجديدة وإقليمها صارت اليوم معروفة أكثر بفضل الأستاذ المصطفى اجماهري وصفوة من ذوي الغيرة على الفن والثقافة والإبداع. فهذا الرجل، فضلا عن هواجسه العلمية والمعرفية، تحركه غيرة على تاريخ الجديدة وضواحيها، تاريخ ظل متناثرا في الكتب والوثائق المظنون بها على غير ذويها من الباحثين والمختصين، فوطد العزم على ملء الفجوات وسد الفراغات لترميم ذاكرتها الجمعية وإعادة تقويم ما تزخر به من غنى فكري وحضاري، على مستوى الخيرات المادية والبشرية والرمزية، وما ينتظرها من مستقبل هي أهل له.
من ثم فنحن، مع الأستاذ المصطفى اجماهري، أمام مشروع شخصي يضاهي في طموحه رهان مؤسسات بأكملها. علما بأن العوائق كثيرة وكبيرة، ولعمرنا فإن هذا الباحث مؤهل، أكاديميا، لأن يبحر في تاريخ الجديدة بخبرة بحار أصيل، رايس بن رايس، بهدوء وبحس معرفي متيقظ. من هنا أيضا فإنه لا يمكن التفريق بين المصطفى اجماهري الباحث والمدقق، والمصطفى اجماهري الإنسان. فهو يشتغل في صمت ودأب وبتواضع كبير. لا يجد غضاضة في استشارة أصدقائه، في كثير من القضايا ويتقبل آراءهم بصدر رحب : صدر المعلم المقتدر والإنسان النبيل.
لقد راح يتقفى ظلال مدينة الجديدة منذ العهود الغابرة إلى اليوم، حيث سيكتشف إلى أي مدى هي موغلة في التنوع والقدم، في الغنى والانفتاح اللذين يليقان بمدينة سبق لها أن كانت ذات طابع كوسمبوليتي، وما يزال ينتظرها اليوم مستقبل كبير. هكذا فكلما حاول فتح باب تكشفت له دهاليز أخرى مستغلقة: موانئ وجاليات وقناصل وديانات، وثائق وشهادات وحكايات، شخصيات ومواقف، أولياء وقديسون ودراويش وما لا يحصى من الوقائع والأخبار، لاحقها، على مدى ثلاثة عقود، في سلسلة خاصة أطلق عليها اسم “دفاتر الجديدة”، هي الآن تربو على العشرين كتابا قد لا تقوى على إنجازها، كما أسلفنا، مؤسسات بحالها. والحبل على الغارب كما يقال. في غياب أي دعم أو مساعدة سوى عزيمة قوية وحب لا يعرف النضوب. وكلما توفرت لاجماهري فسحة، وسط هذا الانشغال، لجأ إلى ديدنه القديم، ديدن الحكي. الحكي الذي يمتح من التاريخ والذاكرة، تشهد على ذلك مجموعته القصصية “التين والعقاب” المقدمة من صديقه فؤاد العروي، وروايته الرقيقة “مسالك الانتظار” ، ثم سيرته الذاتية المنشورة عن دار لارمتان الفرنسية بعنوان “في ظل الجديدة”. هذه الجديدة الساكنة في القلب وبين الضلوع.
الحبيب الدائم ربي 02/05/2022
المصطفى اجماهري .. رجل ومدينة - السؤال الآن
الحبيب الدائم ربي يبدو المصطفى اجماهري كأحد بحارة غابرييل غارسيا ماركيز، غائصا في ذاكرة المدينة من دون أن يغرق، منقبا عن آثار العابرين والديار الدوارس بلا كلل. المظان غميسة ومتناثرة يحاول أن يستجمع مستحثاتها بحرص عالم آثار، في صمت جليل وبانضباط لا يخلو من قسوة، في أسفار لا تنتهي. مؤسسا لثقافة...
assoual.com