فراس عبد الرزاق السوداني - سفر الذّات (نصّ)

غربٌ وشرقُ،
جنوب وشَمالْ..
اتجاهاتٌ تذرَعُ بنا الأرض لأبعادها،
قصيّةً ودنيّة..
أبعادِها التي لا بُدّ أن تلتقي ذاتَ ارتِحال،
فلا يعود الشرق شرقاً،
ولا الغرب غرباً،
ولا الجنوب ولا الشَّمال!
تُطوّح بنا لأقاصي الغرب الأمريكيّ..
بقسوته ووحشيته وغُربته،
أنهارِه وخُضرته،
وأوشالِ إنسانيّة بدائيّة المَحْتِد..
تقبع تحت تُربته،
في ظلّ شاهد من الريش الملوّن،
لهنديٍّ مصلوب بأصل شجرة قَيْقَب أحمر.
تأخذنا إلى القُطُب الثالثِ للأرض:
هضبة التِّبْت شرقاً،
حيث القممُ الشاهقة الشحيحة النَّفَس،
المثقلةُ بالثلج والصّقيع،
والمُشَّقِّقة بالينابيع والشلالات..
وحيث المراعي المنبسطة الزاخرة بالأنهار،
المعطّرة بحكمة الصين العَتيقة،
وأطماعها الجديدة..
في «الحِزام والطّريق».
اتجاهات تهبطُ بنا إلى أنتركتيكا..
الموحشةِ الليل،
كليل الملك الضِّلّيل في جزيرة العرب،
المُسهّدةِ النهار..
على جبالٍ من الجليد،
ككُثبانها الطامية والأحقاف.
وتصعد بنا إلى طرفها الآخر،
إلى قُطب الشَّمال،
وألاسكا التي بِيعت بحفنة دولارات بائسة،
على يد قيصرٍ مُفلس!
*

لكنّها، ورغم ذلك كلّه..
رغم المسافات الشاسعة،
رغم الوعثاء والتَّعب،
وألوان الغُربة،
والغناء للَّيل والفَقْد..
رغم هذا وذاك،
تبقى مسافاتٍ تُقرّبها الخطوةُ الأولى..
من ذات الألف مِيل،
ويطويها الشغف والبحث عن العوض..
نعم، العوض!
ألم يقُل شاعرٌ حكيم يوماً:
«سافِرْ تجد عوضاً عمّن تُفارقُهُ»؟!
لكنْ..
ما جدوى أن تُسافر،
وتحمل المكانَ وأشياءَ أخرى معك،
في ذاكرةٍ كمَفْحَصة قَطاة؟!
ما جدوى أن تدُسّ في حقيبة سفرك..
عُقَداً وقَهراً وآلاماً وآمالاً وأمنياتٍ باليةً،
ووجوهاً.. كان عليك أن تُفارقها،
مع متاعك والمهمّات؟!
ما جدوى..
أن تستخفيَ من عُيون الرّقيب..
عند منضدة التفتيش على الحدود،
خشية أن تُبديَ بك..
حقيبتُك وما حوى المتاع،
أو ما سالَ من ذاكرتك المثقوبة؟!
*

«السفرُ الحقيقيّ أن تُسافر في داخلك»..
هكذا قال «شَمس» يوماً.
«فإذا ارتحلتَ في ذاتك،
فقد اجتزتَ العالم وما وراءَه!»
أضاف.
أتُراه يُشير إلى انقطاع الهجرة بعد الفَتح،
أتراه قصد الجهاد الأصغر والنيّة؟!
أم تُرى قالها بعد أن كَلَّ من الترحال..
من تبريزَ إلى بغدادِ السلام،
حيثُ لا سلامَ..
وهُولاكو على الأبواب يستنطق القَدَر بأن يُخْرِبها،
ويقتل خليفتها رَفساً بالأحذية،
كي لا تتلطّخ يدُه بدماء زرقاء!!!
ومن بغدادَ إلى مَجمع الأشتات: قُونية،
حيث يقبعُ ناووس هِرَقل؟!
لا بُدّ أنّه تعِبَ وكَلّ،
كما تعِب «طائرُ اللقلق» الذي توّج كنيسة اللاتين
بعُشٍّ من القَشّ في سوق الشُّورجة،
يُناظر جامعَ الخُلفاء ومئذنته العَتيقة،
على مرمى حجر؛
لثلاثين سنة..
فانتحى بعيداً..
حيثُ ألقى عصا الترحال،
واستقرّ به النّوى..
قانعاً بقالةِ التبريزيّ تلك،
مُكتفياً بتوهُّم الترحال في ذاته،
ومزاولته إلى الممات في مُستقرٍّ جديد..
بعد ما أضناه السفر،
وأقلقته المدينة بفوضاها..
واستلّت السكينةَ من تحت جناحيه،
فنَـكِرها ونكِرته،
وجَهِلَ أهلَها المشرئبّة رؤوسُ شُيوخِهم وعجائزهم..
إلى عُشّه الخاوي كلَّ صباح،
غِبَّ الثلاثين..
بعد ما أوهنَ عظمَهُ أرذلُ العُمر.

4/ 8/ 2022م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى