أشرف السر - أزهري الكييف

(1)

وكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها،أخذ يمضغ القطعة تلو الأخرى من الكيس البلاستيكي المتأرجح في يده اليسرى، السرور يجتاح عالمه الطفولي، والدهشة تزغرد في عينيه، أثناء عبوره أزقة السوق الريفي، بدكاكينه التي تبدو أقدم وجودا من "ود النَمِيِر" و "سلطان بلد الضُلُّمه"، وكل تلك "الحجاوي" التي تشعل بها جدته خياله كلما أتى المساء، فيبتهج مهما تكرر الحكي. وهاهو الآن يمارس ابتهاج "الدوم المقشور" لأول مرة في حياته. فقد أتى إلى "دُرْدِيب" قبل أسبوع واحد بصحبة جدته، لزيارة خالته وزوجها، المنتقلين حديثا إلى الإقليم الشرقي – إلى دُرْدِيب -.
عندما سمع الاسم لأول مرة "دُرْدِيب" اعتقد أن المقصود "دبيب"، أو ربما شيء "مدردق"، لكنه الآن بعد أن استقر بها أسبوعاً، بدأ يداخل خلده أن "دُرْدِيب" تعني "رمال" بلهجة أهل الشرق، فحيثما نظر رأى رمالا وكثبان رملية تبدو ممتدة من حيث يقف إلى "بلد الضلمه" ولا مكان أبعد من ذلك حسب جغرافيته..
خطا إلى داخل المنزل يكاد يتنفس "دوماً" مقشورا ، واتجه نحو "المزيره"، كجمل بدوي سكن العطش كل مسامه. كرع من الأزيار ما حلا له من شرب، وارتمى في أقرب "عنقريب" قابله. وإحساس الامتلاء يمحو من خاطره فكرة الغداء تماما.
صحا من غفوته القصيرة على صوت زوج خالته وهو يهزه مداعبا :
- قوم يا بطل، بعدين العصر نمشي الخياط نستلم هدومك وسجلتك في المدرسة "مستمع" وبكره السبت أول يوم في "العام الدراسي".
تعثر فهمه في عبارة "العام الدراسي" من بين كل كلمات زوج خالته، "مستمع" مفردة مألوفة في "ما يطلبه المستمعون" في راديو امدرمان حيث يتابع (ركن الأطفال)، لكن "العام الدراسي" غريبة على مسامعه، أكد فيها ذهنه ليستوعبها، فهو يعرف العام 12 شهرا، لكن العام الدراسي تبدو عجيبة.. ثم ما علاقة الدراسة بالأعوام
(2)
حانقا، والغيظ يتملكه في وقفته تلك في الطابور الصباحي، حسد الآخرين، فما عداه هو وابن الناظر وابن الضابط الإداري، لا أحد يرتدي رداء كحلي وقميص لبني. كل الطلاب يرتدون "العراريق" حائلة اللون بفعل الرمال.
اغتاظ مليا لمظهره في الرداء والقميص الجديدين.. أكد لنفسه أنه سيحصل على "عراقي" حائل اللون أيضا، بينما قدامى التلاميذ ينشدون نشيد العلم، ثم:
أمتي، يا أمة الأمجاد،، والماضي "العريغي"
يا نشيدا في دمي يحيا،، ويجري في "عروغي"
...
مرت أول حصتين سريعا في سرعة أكل "دوم مقشور" في كيس يتسلى به، إذ أنه في موقعه داخل الفصل قرب الشباك، يشغل نفسه بالنظر إلى زملائه في الفصل الذين بدا عليهم النعاس في الحصة الثانية، يتثاءبون، ويسندون رؤوسهم على "كنب" الفصل، ثم يتحول بنظره ليتجول في المدى المترامي خارج الفصل. فلا سور للمدرسة، وهي على حافة "دُرْدِيب" الجنوبية، وحمير الطلاب متجمعة في مجموعات متفرقة هنا وهناك، تنتشر حيثما نظر. حمير رشيقة، لا يدري كيف أنها رشيقة، لكنه قرر وصفها بالرشاقة، والأدب كذلك، فهي لا ترفع صوتها بالنهيق إلا فيما ندر. عشرات الحمير، وعلى ظهورها "مخالي" مصنوعة من الخيش ومن جوالات "سكر كنانة".
قطع عليه تأمله رنين الجرس متزامنا مع صيحات متزاحمة, الفطور.. الفطوووور..
إنه وقت الفطور. أخرج إفطاره ملفوفا بورقة جريدة. أخذ السندوتش مسرعا خارج الفصل، بينما مجموعات من التلاميذ، تجري نحو حميرها "الرشيقة"، ينزلون "المخالي" من ظهور الحمير.
اندس وسط مجموعة من طلاب "سنة تانية" أو "تالتة" لا يدري، هم أكبر منه سنا هذا ما يعرفه، واتجه معهم نحو "الحمير الرشيقة".
انتابته الدهشة وهو يلحظ أن بعضهم قرفص على الأرض، يزيح الرمال ليصنع حفرا صغيره، واخرجوا من "المخالي" فحما وكبريتا، وقشا ناشفا. اشتعلت النار سريعا في مجموعة من الحفر، وبدأت مجموعات من الطلاب في إخراج بقية "ألأدوات" من "المخالي"؛ البن والسكر ثم الطوه والفنادك، وحديدة الهاون؛ وكل أدوات صناعة "الجبنة"، حتى الفناجين، مثل جدته تماما.
انتشر دخان البن، وفاحت رائحته الزكية في كل الفضاء. اخذ غالبية التلاميذ يقربون "الطوه" من وجوههم ليستنشقوا دخان البن عن قرب.
دارت فناجين القهوة بينهم، وبكل كرم أهل الشرق أصروا أن يشرب "الجبنة" عربونا للزمالة والصداقة وكترحيب به في بلدتهم. شربوا فناجينا من القهوة بلا عدد.. ثم اخرجوا فطورهم وأفطروا..

(3)

العاشرة من صباح الجمعة، الصداع يملأ رأسه نملا. قبل أن تعود جدته من "المزيره" وهي تحمل كوز الماء مملوءا. غافلها وملأ فنجانه من "الجبنه"، وشربه في رشفتين سريعتين في نفس لحظة عودتها.
ألجمتها الدهشة وهي تنظر لحفيدها، يتفصد جبينه عرقا وهو يحتسي فنجان القهوة.
- أجي!!؟ دا شنو يا ولد؟ أكان درت القهوة، استني اديك من البركة بعدين، شافع شنو البشرب "البكري" كمان؟؟!!
مسح العرق المتصبب من جبينه، وشرب كوز الماء. ثم حكى لها ما كان طيلة الستة أيام السابقة من أمر الجبنة في فسحة الفطور في المدرسة.
- بري، يا ود أمي اتاري "الجبنه" رامياك ومتقريف؟؟! هاك أشرب.
من حينها لصق به الاسم الذي لازمه إلى الآن (أزهري الكييف).. وقد استأهل الاسم تماما.
إيقاعه المفضل، صوت "دق البن"،، وأغنيته التي لا يمل سماعها:
"سوي الجبنه يا بنيه في ضل الضحاويه
سويها.. الجبنة التسويها.. حالف ما بخليها".
في كل دراسته للأدب العربي، لم يعجبه بيت شعر، بقدر قول القائل:
وسقانا قهوة مرة ،،، راووقها خضل
رغم أنه يعلم أن القهوة هنا تعني الخمر،، ليس هذا فحسب بل صار يحرف الشعر:
صبنت الكأس عنا أم عمرو ,,, وكان الكأس مجراها اليمينا
يقرأها:
صبنت الفنجان عنا أم عمرو ,,, وكان الفنجان مجراه اليمينا

أزهري الكييف صار جهبذاً في القصص والمعتقدات الشعبية عن البن و"الجبنه"، فهو يعتقد أن "الجبنه" فيها "سيدي الشاذلي أبو الحسن ". شرب القهوة بكل أنواعها، سودانية، نسكافيه، كابتشينو، موكاتشينو، وأعجب بطقوس القهوة الحبشية، جرب القهوة العربية بالهيل، ولم يستسغها فهي مثل "ريالة الديك"، وبقي ولاؤه للقهوة السودانية التقليدية "الجبنه".
يقضي الأيام تلو الأيام في المكتبات العامة، والمراكز الثقافية، ينقب عن الجبنه والبن؛ أصولها وفوائدها، ولم يبخل عليها بوقته في البحث على شبكة الانترنت، ليجمع المعلومات والحقائق، ليسند حججه الدامغة، عن فوائد القهوة أمام أصحابه ومعارفه.
فالقهوة تشحذ الذكاء، وتمنع الإصابة بالسرطان، وتنفع "للناس العندها ظار"، وتزيد النشاط، وتقطع العطش، .....الخ.
يستطيع أزهري الكييف أن يربط أي شيء كان، بالقهوة وفوائدها


(4)

- حالف ما بخليها.. حالف ما بخليها.. حالف ما بخليها!!!
هذا آخر ما سمعته أذنا اختصاصي الباطنية من أزهري الكييف، قبل أن يخرج الأخير، من العيادة الخاصة، ويصفع الباب بعنف حتى سقطت ماسكة الباب.
ذهل الاختصاصي لهذه الثورة المنفعلة الهادرة كدميرة في أوجها. كل ما ذكره لهذا المريض "أزهري سعيد" كما هو مدون في كرت العيادة، أن سوء الهضم الذي يعانيه، وحموضة المعدة الزائدة، هي بسبب شربه للقهوة، وعليه أن يبتعد عنها تماما، ففاجئه أزهري في أول ردود أفعاله بقوله:
- كلامك دا يا دكتور.. أحسن منو تمسكني في محاولة انقلابية، وترصصني عديل كدا. ولا تفتح بطني دي وتقطع قلبي دا وترميهو لكلاب الشارع.
- ليه ياخي؟ "والاستغراب يطل من وراء نظارته الأنيقة"
- دكترتك دي عوجا يا دكتور ولعب ساي، قهوة شنو البتعمل فيني جنس دا؟ قول لي عندك مصران، قول لي معدتك مقدودة. واكان غلبك تعرف عياي، اكتب لي "دِرِّب" ساي.. أُمال دكتور علي شنو؟
- يا زول أنت الجيتني؟ ولا أنا الجيتك؟ "رجع الطبيب لانفعاله السوداني السوي"
- اكان ياها دي دكترتك ما كان جيتك من اصلو.. كدي شوف لي أي صرفه، غير عدم شراب "الجبنه" دي...
- يا زول أنت الدكتور ولا إنا؟ "وقد بلغ انفعاله 9000 فهرنهايت"
- اها يا دكتور وكت كلامك يا دكتور بقى "كـُتُــر"، وكلام جنس دا، مش القهوة دي، حالف باليمين و
- حالف ما بخليها.. حالف ما بخليها.. حالف ما بخليها!!!
وما زال الذهول يسكن باب عيادة الاختصاصي،،
وما زال أزهري الكييف ،، كييفاً........

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى