رأى مسافر شيخاً يجرُّ خُطاه على الدَّرب جَرّا، ويوسعُ بعصاهُ الرَّصف نَقْرا، قد أثقلَه كَرُّ السّنين، وأتعبَه مَرُّ الأيام وطُول الحَنين، فألقى التحيّة، وقال: مَن الشيخ، ومِن أيْن؟
قال الشيخ: عبدٌ من عباد الله.. سائحٌ بأرضِه، قد مَضَّهُ في السُّرى الأيْن، وجرَّب تَبَاريح البَيْن.
وما خَبَرُك أنت، يا رجل؟
قال الرجل: عابرُ سبيلٍ، أتعبَهُ المَسير بزادٍ قليل، ولا دليل!
قال الشيخ: أمّا الزّاد، فقليلُهُ كَثير؛ إن عرفتَ مثابَتَك واكتفيتَ مِنه بكَفَافِك. وأمّا الدّليلُ، فلن تضلَّ وهو بصدرِك يَنبض بين أكْنَافِك.
قال الرجل: ما زلتُ ومَن ذكرتَ مُتناكِرَين مُتشاكِسَيْن، يُكدِّرُ ما بينَنا وحشةٌ ومَيْن. وهو على البُعدِ، ما زالَ يُشوّش عليّ ويَخذلني، كلّما لُذْتُ به ليُنجدني..
قال الشيخ: ليسَ هو المَلاذ، يا ولدي.. بل الدَّليل إلى غايةِ السّبيل، وشتّان.
أمّا المَلاذ، فهو هُو، مَن هَدَى صاحبك النَّجْدَين، وخيّرَهُ بين أمرَين: خيرٍ تعمرُ به قلوبُ العباد والبلاد، وشرٍّ يأكل أخضر الأرواحِ قبلَ يابِس الأعواد.
ولك أن تُنِيلَ صاحبَكَ مِن نفسك ما يقرُّ بِه ساعةً وساعة، مِن غير أن تَرِدَ به وهْدة التّفريط والإضاعة.
قال الرجل: قدْ أخْلَدَ للأرضِ صاحبي، فجعلَ الدُّنيا غايةَ مَطلبي، وأنا أُطيعه وأنْكِرُ عليه.
فَتَرَ ثغرُ الشيخ عن بسمة وَقُوْر، وقال: هو ذاك.. وهذا حالي معه مُذْ عرفته قبل سبعين حَولا، ما ملكتُ فيها معه قوّةً ولا طولا، فما زال يتلوَّن عليَّ تلوّن الحِرباء، ويتقلّب بين طاعة وجَفَاء.. هذا هو، فاسأل له القَرار على خير حال، وسَدّد وقارِب ولا تطلب المُحال!
قال الرجل: ما أدري ما أقول، يا شيخ!
ردّ الشيخ: القلب -يا بُني!- رفيقُ سَفرِك، ودليلُ أثرِك، وهو الفَاتِكُ الذي سيظلّ يَطلبك على الدَّرب بين يَدَي مَثابتك، فإن أعطيته بيدك إعطاء المُنقاد الذّليل؛ صار بك إلى الهَلَكَة، وإن جَفَوته وعصيته ونازعته السّبيل؛ شَقِيتُما ببعضكما وسِرتما بخُطى السُّلَكَة، وما هو إلا الصُّلح بينكما على طاعة الله وفي سبيله، وأنشد:
يا أخَا الأسفارِ في بَرٍّ وفي يَمْ * ونديمَ الأفْقِ في أثوابِ عَنْدَمْ!
سِرتَ لا تَلْوي على شيءٍ بِها * زادُكَ النَّزْرُ، وروحٌ فيكَ ما الْتَمْ
بُدِّدَتْ فيه أمانيٌّ؛ وَهُوْ.. * يَبتغي المَجهولَ مُلتاعاً مِنَ الهَمْ
ودليلٌ ضجَّ في الصَّدرِ نَبَا.. * ضيّعَ الدّربَ، وعندَ السّيرِ أحجمْ
فَهُوَ الخصمُ إذا رُمتَ صَفًا * وإذا ما انقادَ يوماً كان بَلْسَمْ
وهو العابثُ في النّفسِ هوىً * وهو المَحمومُ أنّى اسْتَامَ؛ يَمَّمْ
نَبْضةُ الحُبِّ له روحٌ، وهل.. * شُفْتَ كالقلبِ، وجيبَ الحُبِّ، يفهَمْ؟!
فَأَنِلْ قلبكَ مِمّا يَشتهي.. * ساعةً، واحذرْ مِن النّزغِ وما جَمْ!
سِرْ إلى اللهِ حَثيثاً، يا فَتى! * صالحِ القَلبَ على الطاعةِ؛ تَسْلَمْ!
#مقامة
قال الشيخ: عبدٌ من عباد الله.. سائحٌ بأرضِه، قد مَضَّهُ في السُّرى الأيْن، وجرَّب تَبَاريح البَيْن.
وما خَبَرُك أنت، يا رجل؟
قال الرجل: عابرُ سبيلٍ، أتعبَهُ المَسير بزادٍ قليل، ولا دليل!
قال الشيخ: أمّا الزّاد، فقليلُهُ كَثير؛ إن عرفتَ مثابَتَك واكتفيتَ مِنه بكَفَافِك. وأمّا الدّليلُ، فلن تضلَّ وهو بصدرِك يَنبض بين أكْنَافِك.
قال الرجل: ما زلتُ ومَن ذكرتَ مُتناكِرَين مُتشاكِسَيْن، يُكدِّرُ ما بينَنا وحشةٌ ومَيْن. وهو على البُعدِ، ما زالَ يُشوّش عليّ ويَخذلني، كلّما لُذْتُ به ليُنجدني..
قال الشيخ: ليسَ هو المَلاذ، يا ولدي.. بل الدَّليل إلى غايةِ السّبيل، وشتّان.
أمّا المَلاذ، فهو هُو، مَن هَدَى صاحبك النَّجْدَين، وخيّرَهُ بين أمرَين: خيرٍ تعمرُ به قلوبُ العباد والبلاد، وشرٍّ يأكل أخضر الأرواحِ قبلَ يابِس الأعواد.
ولك أن تُنِيلَ صاحبَكَ مِن نفسك ما يقرُّ بِه ساعةً وساعة، مِن غير أن تَرِدَ به وهْدة التّفريط والإضاعة.
قال الرجل: قدْ أخْلَدَ للأرضِ صاحبي، فجعلَ الدُّنيا غايةَ مَطلبي، وأنا أُطيعه وأنْكِرُ عليه.
فَتَرَ ثغرُ الشيخ عن بسمة وَقُوْر، وقال: هو ذاك.. وهذا حالي معه مُذْ عرفته قبل سبعين حَولا، ما ملكتُ فيها معه قوّةً ولا طولا، فما زال يتلوَّن عليَّ تلوّن الحِرباء، ويتقلّب بين طاعة وجَفَاء.. هذا هو، فاسأل له القَرار على خير حال، وسَدّد وقارِب ولا تطلب المُحال!
قال الرجل: ما أدري ما أقول، يا شيخ!
ردّ الشيخ: القلب -يا بُني!- رفيقُ سَفرِك، ودليلُ أثرِك، وهو الفَاتِكُ الذي سيظلّ يَطلبك على الدَّرب بين يَدَي مَثابتك، فإن أعطيته بيدك إعطاء المُنقاد الذّليل؛ صار بك إلى الهَلَكَة، وإن جَفَوته وعصيته ونازعته السّبيل؛ شَقِيتُما ببعضكما وسِرتما بخُطى السُّلَكَة، وما هو إلا الصُّلح بينكما على طاعة الله وفي سبيله، وأنشد:
يا أخَا الأسفارِ في بَرٍّ وفي يَمْ * ونديمَ الأفْقِ في أثوابِ عَنْدَمْ!
سِرتَ لا تَلْوي على شيءٍ بِها * زادُكَ النَّزْرُ، وروحٌ فيكَ ما الْتَمْ
بُدِّدَتْ فيه أمانيٌّ؛ وَهُوْ.. * يَبتغي المَجهولَ مُلتاعاً مِنَ الهَمْ
ودليلٌ ضجَّ في الصَّدرِ نَبَا.. * ضيّعَ الدّربَ، وعندَ السّيرِ أحجمْ
فَهُوَ الخصمُ إذا رُمتَ صَفًا * وإذا ما انقادَ يوماً كان بَلْسَمْ
وهو العابثُ في النّفسِ هوىً * وهو المَحمومُ أنّى اسْتَامَ؛ يَمَّمْ
نَبْضةُ الحُبِّ له روحٌ، وهل.. * شُفْتَ كالقلبِ، وجيبَ الحُبِّ، يفهَمْ؟!
فَأَنِلْ قلبكَ مِمّا يَشتهي.. * ساعةً، واحذرْ مِن النّزغِ وما جَمْ!
سِرْ إلى اللهِ حَثيثاً، يا فَتى! * صالحِ القَلبَ على الطاعةِ؛ تَسْلَمْ!
#مقامة