فراس عبد الرزاق السوداني - من حديث الخَرساء

بعد ليلة طويلة قضيتها في بحثٍ شاقّ استحوذ على فكري وأذهب النوم عن عيني، بكّرتُ في الخروج إلى المكتب، فاجتمع عليّ في الطريق غبشُ الضباب الذي لفّ أجواء بغداد أمس والتعب وقلّة التركيز بسبب الأرق..
بعد عمل ساعتين في المكتب، قررتُ الخروج لمراجعة دائرة حكوميّة في منطقة «الشوّاكة» بجانب الكرخ من بغداد، كان الطريق سالكاً يسيراً إلى منتصفه تقريباً، ثمّ بدأت بوادر الاختناقات المروريّة تلوح في مساربه وتفرّعاته، لكنّني وصلت مثابتي في مُدّة قصيرة نسبيّاً، على أيّة حال.
عند الدائرة، ملتُ إلى مكتب محاماة طلباً لاستشارة خبير قانونيّ في مُعاملتي..
كانت المكاتب قريبة من الدائرة، على نسق يُشبه اصطفاف عربات الباعة المتجوّلين، وبينها وبين الدائرة الحكوميّة باعة متجوّلون -على الحقيقة- في سوق السمك الأشهر ببغداد.
شُغلتُ، وأنا أتلمّس طريقي، بحذائي المصنوع من جلد طبيعيّ خوفاً عليه من أوحال السوق المائعة والمتلبّدة، فغاب عنّي ما حولي أو غبتُ عنه، هرباً من الإرهاق والتشوّش ربما..
«أبو احْديبَة.. مال اهلنه!» بائع يُنادي عند عربة سمك «كارب» يُنتَج في أحواض المزارع وفي أقفاص عند شواطئ الأنهار.
«ازْبُيدي، ازبيدي.. مال البصرة» آخر ينادي على بضاعته الغالية القادمة من شواطئ البصرة التي تُزاحم اليوم أبا الطيّب المُتنبّي في استحقاق قولهم: «مالئ الدُّنيا وشاغل النّاس!» بعدما ملأت الدنيا وشغلت الناس بافتتاح خليجي (25) وكرم أهلها وإيثارهم... إلخ.
وأغربهم ذاك الذي سمعته يقول، دون أن أعي كنايته سريعاً: «غَنَم، غنم.. مو سمك!» من أثر التعب الذي استحوذ عليّ، ثمّ مججت تلك الكناية، إذ لا أحبّ تشبيه أصناف الطعام المتوازية ببعضها، فهو يخلط عليّ الأنواع ويخرّب طعمها في ذائقتي.
كنتُ كمن يسمع ولا يسمع، أو لا يعي على التحقيق.. كنت كمَن يطفو على غيمة من الوهم، تحمله وتحوطه بستار شفيف عمّا حوله.
بعد قليل، واستجمعت ما فيّ من طاقة، سألتُ سَمّاكاً عن أشهر خبير قانونيّ، فقال: «مكتب بغداد.. اِسأل عن الخبير أبي رياض، عمّو!».
رفعت بصري، فوقعت حيث أشار بيده، تخطّيتُ إلى المكتب، أطلب صاحبي «أبا رياض» هذا، فخمّنت أنّه الجالس بقبّعة صوفيّة على رأسه، المنهمك في مُذكّرة يبدو أنّها قطعته عمّا حوله، فحال بيني وبينه مَن طاولني قامةً وكاثرني شيباً، مع وجه متجهّم استعار شيئاً من سدنة جهنّم، والعياذ بالله!
سألته عن أبي رياض، فقال لي بجفاء زائد لم أكترث له كثيراً: «أبو رياض مشغول بمذكّرة مهمّة تطول.. يمكنك أن تنتظر ساعة أو تنصرف، لا وقت لديه الآن!».
استعذت بالله من الشيطان الرجيم ومن هَمَزات الشياطين، دون أن أُحير جواباً يُفهم الرجل وجهتي، إلا انصرافي دون سلام ولا كلام، على غير عادتي مع النّاس.. لكنّه الأرق والسَّهر!
تخطّيت إلى مكتب مُجاور، بعدما قدّمت التوكّل على النصيحة، ودلفت مُسلّماً على امرأة استقبلتني بوجهها الخمسينيّ الذي أرهقه خريفُ العمر ومُعافرة أهل القانون وأهل الأسواق معاً، بعد إعراض الشابّ الجالس إلى شمالها عنّي، فردّت عليّ السلام قائلة بنبرة حادّة: «اجلس، أولاً!».. قالتها؛ إذ فاتني التوقيت وأنا أُتبع السلام دون انتظار ردّها بعرض حاجتي!!
جلست، وعرضت حاجتي.. تداولنا قليلاً وشركتنا في ذلك ثالثة ثلاثتهم في المكتب، وكانت تجلس مقابلة للأولى التي التفتت إلى الشابّ مُستشيرة، بعد تعريفي بمُكنته القانونيّة.
تحدّث الرجل بلُطف ومعرفة، ثمّ أردف قائلاً: «لا جدوى من المراجعة، فالأمر محسوم في طلبك، لكن بما أنّك قريب من الدائرة، فلا بأس بالمراجعة وسؤال القسم المختصّ عن ذلك، لن تخسر شيئاً».. أضاف قائلاً: «على أيّة حال، انتظر بُشرى لك ولأمثالك في الشهر الثالث!».
هنا التفتت إليه جارته طابعةً قُبلة على خدّه الأيمن فرحاً بما قال، فقد تبيّن أنّ بيني وبينها نسباً في الطّلب، رغم غربتنا عن بعضنا في كلّ شيء، على ما يبدو!
بادرها الشاب قائلاً: «تتحيّنين الفُرَص لسرقة القُبَل!» ضحك باشمئزاز مستور، وشاركه وجهي باشمئزاز مُعلن، وزاد عليه بأمارات الغضب المكبوت.
شكرتهم، ومضيت إلى الدائرة مُختلطاً بجموع البائسين الساعين وراء حقوقهم..
وبعد مراجعة لم تطُل، عدتُ بخُفٍّ من خفّي مولانا حُنَين، فقد سبقني إلى أوّل خُفّيه مراجعٌ عرض مشكلته أمامي، وتسلّم خُفّه ومضى!
كلّ ذلك، والموظّفون في غاية اللطف والتعاون، لكنّها القوانين التي تَبْكي على الكثير من المراجعة والتعديل والتبديل والإلغاء حتّى تُعيد حقوق النّاس للناس، كما يأمر ربّ الناس.
خرجتُ، وخرج معي الجوعُ الذي التقيتُهُ فجأة عند مدير القسم وأنا أشرح له طَلِبتي، فصحبته إلى أقرب مطعم في طريق عودتي، وكان عند رأس سوق السمك، وترجّحت عندي شهرته بقرينة صور المشاهير الكثيرة التي التُقطت فيه وعُلّقت على جُدرانه.
«تفضّل، عمّو.. عدنه كيت وكيت...» خانني التوقيت ثانية، فقاطعت الرجل على غير عادتي قائلاً أيضاً: «نصف نفر تِكّة مشكّل»، أطلب الكباب بعُرف أهلنا في المحروسة.
كان بيني وبين صاحب المطعم الذي تولّى استيفاء الأجور من الطاعِمين منضدتان، جلست على الأقرب إليه امرأةٌ ضئلة الجسم، بادية المسكنة، على وجهها قَتَرة، رغم مسحة جمالٍ أبت أن تطمسها صروف الدهر وتقلّب الحَدَثان، فاستعلنت في وجهها.. رأيتها وقد تحلّق حولها أربعة ذكور -ولا أقول رجال- بدا لي أنّهم من جيران صاحب المطعم الذين يستهلّون يومهم بالإفطار عنده..
استمعت إلى الحوار الدائر بينها وبينهم، فتبيّن لي أنّها شِبه خرساء، وأنّهم يتلهّون بالحديث إليها، مُستغلّين ضعفها وهوانها وقلّة حيلتها.
كنت عاجزاً عن أيّ شيء؛ فلم أحضر المجلس من أوّله، وغاب عنّي شطره، وانفعالاتي ستكون غير منضبطة مع الأرق والسهر والإرهاق، لو أردت التدخّل، فربما انفجرت بهم غاضباً أو حتّى ضربتهم، فأسبلت شؤون العين حتّى خضّبت اللحيّة..
تركت الدّمع مسترسلاً على الخدّ دون أن أكفكفه، مُتمنّياً أن يلحظه أحدهم ويسألني عن ذلك، فأنفجر في وجهه قائلاً: «لا شيء.. هي دموع تبكي الإنسانيّة التي ما ذُقتم طعمها، والرُّجولة التي لا تعرفون حقيقتها...»، تمنيتُ.. نعم، لكنّهم كانوا في طُغيانهم يعمهون!
كفكفت الدمع بعد أن قامت المرأة وغادرت المكان، مُتأمّلاً -هذه المرّة- ضعفي وقلّة حيلتي أنا، لا هي!
قلت لنفسي: «الضعفاءُ مِحنتنا في هذه الدُّنيا وامتحانُنا، وهم سبب توفيقنا ونصرنا ورزقنا؛ لو عقلنا» مُتذكّراً قول الرحمة المهداة ﷺ: «هل تُنصرون وترزقون إلا بضُعفائكم؟!».
ستعيش هذه الخرساء المسكينة بيننا إلى حين تستوفي أجلها من هذه الدنيا وتستوفي معه ممّن حولها أجورها تامّة تامّة، ويعود غيرها إمّا بالخزي في الدنيا ويوم القيامة، أو بالأجور والحبور، والموعد الله!

#من_ذكرياتي #ضعف #إنسانيّة #رجولة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى