مأمون أحمد مصطفى - صبحية القلب والنفس والروح "5"

صبحية القلب والنفس والروح



"5"​



هكذا، كومضة خاطفة، خيط برق، صوت رعد، نسمة عابرة، مثل حلم منتزع من ذاكرة الوفاة التي تأتينا كلما ذهبنا بوسن للسرير، حلم بزمان ومكان وأحداث، كأننا وهو يتحكم فينا، لسنا في حالة الوفاة، وحين نصحوا، نحاول بكل ما فينا من عجز وقصور آدمية وإنسانية، استرجاع ولو لحظة واحدة مما حلمنا، فنفشل فشلا لا يمكن لقوى الكون كله، بكل ما فيها من طاقات علمية، روحية، عقلية، أن نصل لحافة من حواف ما دخل عالم المجهول والغيب.



خبر أختي صبحية حين لامس مسامعي، شل قدراتي الذهنية والنفسية، لم أصدق، لم أسمع، لم استوعب، حشد من غيبوبة دخل روعي، تحولت لخواء كامل، بلا حس، بلا عقل، بلا مشاعر، جذع ناشف يابس، حفره السوس واقتحمه الفطر، رياح تدور فيه، تصفر وتعوي، وتحلل يُلمس من العفن الذي يتحالف من الطحلب، فيتحول القلب لمفأدة لا تُطفأ نيرانها، أو يخمد جمرها.



صبحية، المشتقة من الصباح، من الصبح حين يتنفس، أول النهار، الفترة التي تسبق شروق الشمس، لترافق صحو الناس والكائنات، الطيور، الورود، الأزهار، دعاء العباد وهم يتجهون بقلوبهم المفطورة نحو بارئهم، هديل الحمام وهو يسبح، ثغاء الماعز وهو يعلن الحمد للخالق، عناق الآذان للنسائم وهي تتمطى وترحل وتتجول، خشوع القبرات والعنادل وهي تصدح فرحا يشقق الوجل في الأرواح الباحثة عن قطرات من ندى التسليم.



تنتقل إلى فترة الشروق، لتتربع هناك بما فيها من بياض وجه منقى من كل شيء لا يتصل بالجمال والحرية، النقاء والصفاء والجلاء، تتنفس كما الصبح أنفاس الكون المتكوم حولها وهي تشد بيدها على الدعاء، دعاء القلب والنفس والعقل والروح، للقادر العزيز المصور، الذي صور الصبح بإعجاز يتحدى كل ما هو معهود وغير معهود، لكنها هي، تبحر بإيمانها البسيط، المنقوع بالفطرة، كانت تلمس هذا الإعجاز، تدركه من خلال الروح الصافية كأنهار الجنة، فترفع يديها نحو سماء تعرفها، لتسأل الخالق بكل ما فيها من عفوية وفطرة أن يحقق لها سترا في الدنيا والقبر والآخرة.



أفقت من الصدمة مرة واحدة، سألت ابنها؟ فوقعت، مثل ظبي بين أنياب وقواطع، تنهشه وتقطعه، علا نشيجي وصراخي، تمزقت لوعتي وتفتت أساي، غثاء سيل، عهن منفوش، تحطمت سواعد الكون، تكسرت جذوع الحياة، براكين تغلي وتستعر، زلازل تتردم وتزحزح، عواصف تقتلع ذاتي، وزوابع تخض ذواتي، تلاطمت الأشياء كلها، تداخلت، قطعة من خلاء أحاطت بي، تعمقت فيها، تحولت لغامض لا يدرك نفسه ولا تدركه الأنفس.



جلست، جاءتني وهي تبتسم ابتسامتها الخارجة من حدود الوصف وقدرات اللغة، وجهها يستقبل الشموس، يُرسيها بين المسام، تضيء من طاقتها، من الخفي الذي يتسلل منها فينا، يرفعنا نحو عوالم ناهضة متوثبه، تأخذنا بهدوء ناعم نحو لذة منعشة، تعطر الفؤاد، تحوله لقلب تناديه أصوات الرياح في الغابات البعيدة، المكتظة بالعذرية، عذرية التنوع والتضاد المجتمع في التوحد والاندماج، تحملنا رائحتها الخاصة بها، بها وحدها، من بين كل روائح الأكوان، منذ بدء الخلق، وحتى قيام الساعة، رائحة بأجنحة من ضياء وشذا، نحو الصحراء، تمسك بيدي، بقوة تهز الرواسي، تشير نحو قبر هناك، ويأتي صوتها، رائقا، صوت الطبيعة النائية عن أنفاس الخلق، هنا محمد صلى الله عليه وسلم، سيد المخلوقات، أفضل من عرف الوجود، الذي خير بين البقاء والرحيل، فاختار الرحيل، نحو الرفيق الأعلى، نحو المنتهى الذي إليه كل شيء ينتهي، نحو المشتهى، الذي لا يشتهي مخلوق مكانا غير مكان عنده جل جلاله، عند الرحمن الرحيم، الذي دعوته وأنا بين يديه، وجئته الآن وقلبي مطمئن بما ينتظرني من رحمته وعفوه ورأفته.



بعد وفاة والدي، ضاقت الدنيا بي، وضقت بها، حتى أنها تحولت لحبة خردل، كل ما فيها مقفر موحش، غادرها الحنان وغادرني، شيء ما تحولت، بلا لون ولا طعم ولا رائحة، أبحث في ثنايا الأيام وطوايا الليل، عن رحمة صغيرة، تنبع من قلب صغير، كبير أكبر من الأكوان، عن لمسة خفيفة ناعمة، عن رائحة كانت تتخللني، فتنتشلني من قيعان يتكاتف فيها الألم مع الوجع، الهم مع الغم، عن أنفاس ترسم حدود الحب والعشق والوله، فأعود كمن كان يحمل البحر على كاهليه، فلا يتبقى سوى الملح، ملح فوق ملح، يأكلني، يحرقني، فأفقد البصر والبصيرة، الرؤيا والرؤى، أشخص نحو اللانهاية، اللاحدود، التي يلفها العدم والفناء، تمر الغربان وأسراب البوم، تتفحصني، تغادر وهي مدركة ملوحتي القاتلة الفتاكة، فأراك قادمة، صبحية محملة بالصِباح، تستلين الفجر بأنفاسك، وتشدين الشروق برموشك، تفتحين النور بشهيقك، يذوب الملح، يتحول عطرا يرشح من ياسمين قلبك، يزهر الفل ويتفتح حين يصطدم بشهيقك، تتلون الآفاق بلونك، وتتدثر الآماد برائحتك، تغيب أسراب الغربان والبوم، تتكاثر طيور الجنة وتزدحم وهي ترقص رقصتها للحبيبة المعشوقة، تخضوضر الغابات في الصحارى والجليد، ترن الآفاق بنداء أخي مأمون.



لم تعد الدنيا تضيق بي، وأضيق بها، تحولت من حبة خردل، لفضاءات مفتوحة، تمتد وتمتد، تتوسع وتتوسع، تترصع بالشموس المتناسلة من بسمتك، النجوم المندفعة من ضحكتك، يأتيني والدي عن يمينك، وتأتيني أمي عن يسارك، وجوه مشحونة بالحياة، بالرضا، بالطهر، بالعفاف، بإيمان العجائز المتفلق من الفطرة، "فطرت الله التي فطر الناس عليها"، تتدلى السماوات، تتحدب، تظللني بوهج نظراتك الساهمة في دنا الحيرة، تلك النظرة التي كنت أحاول دوما لمس ما فيها من شجى، تيه، وكأنها تبحث عن غامض مجهول، تلك النظرة المعبأة بالسر الكامن في السر، أحجية غريبة تتنقل بين ما تزرع في نفسي وما تضخ بقلبي وما تشحن في روحي.



أصدقك القول يا أختي، حبيبتي، ما زلت مذ وصلني خبر رحيلك، أقف أمام صورك، فتأتيني تلك النظرة، تقتحمني، تستبيح كياني كله، تتكوم الدموع بعيني، فأفقد التركيز داخل لونها، ما فيها من أقوال لم تصلني، من رجاء غامض الكنه، البعد، العمق، وكأنها من عوالم مسحوبة غير عوالمنا، لا أعرف لماذا كنت أجس الحزن يتدفق بصمت فيهما؟ ولا أعرف لماذا كنت أحس الأسى يفيض فيهما؟ فتجري محيطات من الضياع بذاتي، من الذنوب التي تتوالد خطايا لتحاصرني لوما وعتابا، ألم تفهم تلك النظرة التي تخزن الحب ليتحول من توتره لألم يموج بأعماقها؟ كانت بكل ما تستطيع، تجمع ما فيكم من قلق وحذر لتدفنه بقلبها الصغير، خوفا عليكم من لمسة الريح، أو البلل من حبات الندى، فهل كنتم تملكون مثقال ذرة مقابل ذلك؟



لا، بصوت الحق والحقيقة، لم يكن فينا كلنا، بلا استثناء، من يستطيع أن يسد الخير المتساقط من قدميها، كنا كما كنا نعتصر الوالدين، نعصرها عصرا لا يبقي فيها سوى الرحمة التي ورثتها عن والدينا، كنا عصاة، نلجأ للدنيا، نبحث فيها عن أحلامنا المكسرة المشظية، نخوض في متاهات الأيام، نلاحق أولادنا، نمنحهم كل الذي يمكن أن يمنح، هي لم تكن كذلك، لم تكن مثلنا، تحمل الجحود والقسوة، كانت تحملنا بين رموشها، كما تحمل أولادها، تتفطر حنينا علينا كما تتفطر على أولادها.



هي شيء لا يشبهنا، لا يتناغم مع ما فينا، لكنها كانت تذوب وتنصهر فينا، رغم غرابة التكون والتكوين، ليس بادعاء أو منة، بل بفطرة محشوة بالنور الذي لم نعرفه ولم يسكنا.



خبر الرحيل، جاءني بهزة عنيفة، رماني بين المجهول والغامض، في تيه وضياع، هي رحلت، لم يتبق من عرقها المبارك، من أنفاسها المتوضأة بالحنين المدمج بالحنين، من رائحتها المغتسلة بالضياء، من سهوم عينيها، من بحة صوتها المخصبة بالرحمة والبركة، ما يدفعني للخروج من الدوامات التي تمزقني، تحتحتني، فقط خيال في وعاء مجهول يسمى الجسد، حتى وصلني نداء، عميق، رائحة نفاذه، مع صوت يحمل من بحتها، وصوت يحمل مفرداتها.



قالت ابتها الوحيدة، حنان، التي حملتها يوم خرجت من الرحم، شممتها، قبلتها، أنهضتها من وقعات الطفولة، التي كانت تتعلق بساعدي ورقبتي، تستوطن حضني، تجهش بالبكاء حين يحين موعد عودتها لبيتها، قالت لي: والقول فيه قوة ومناعة، رحمة ورأفة، " الله يخليك يا خالي الغالي، حنانك علينا مثل حنان أمي الله يرحمها، الله لا يحرمنا منك".

عبد الرحيم ابنها، قال: الله يديمك خالي، أنت من ربيتنا حين كنا أطفالا".



وأنا في دوائر الدوامة، في التيه بين الشوك والصبار، بين الرمال الحارقة والجليد الذي يئن، بين غابات من الذهول، وصحارى من الملح، امتدت يد خفية، خفيفة، ناعمة شفافة، رفعتني بتؤدة ووضعتني في عمق الصوت، صوتهما، صوت أختي، حنانهما، حنان أختي، لمست الصوت، لملمت جرسه، جمعت موسيقاه المذبوحة كناي على قمة جبل في سكون يلفه سكون، وجاءني صوت عدن، ابنة ابنتها، صوت زوجات أولادها، ودموع باسل الطفل وهو يحتضن شاهد قبرها وينادي عليها، يسألها عن سبب رحيلها، تقوست الذكريات، تكورت، في التكور عرفت بأن هناك الكثير منها، حنان، عبد الرحيم، عنان، هيثم، وهناك جيش من الأحفاد، يمشي ويتحدث، يتنفس، يشهق ويزفر، حنان بكلماتها أعادت ذاتي لذاتي، نفسي لنفسي، روحي لروحي، هناك الكثير منها يريد البقاء على الذاكرة التي تمزج ما بها، قبل رحيلها، بما فيهم بعد رحيلها، لنكون أنا وهم، الدعاء والوفاء لروحها الطاهرة المطهرة، الراضية المرضية بإذن الله سبحانه في علاه.



مأمون أحمد مصطفى زيدان

فلسطين- مخيم طول كرم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى