أرخى الليل أستاره السود القاتمة على دنيا غضبى تزمجر في صوت عاصفة هوجاء، وسماء ينهمر منها سيل دافق، وقد قر كل إنسان في داره، ونامت الحياة في كل حي، والفتى جالس إلى موقد في زاوية الحجرة، تغمره لجة من الأفكار المضطربة، والخواطر المتناقضة، فتحجبه عن دنيا الناس. لقد رأى نفسه تعصف بها حادثات الأيام فتذرها بددا، فإن مد يده ليجمع أشتاتها لم يجد منها إلا صبابة من نفس لا تستطيع أن ترد إليه جمال الحياة التي عاش شطراً منها بين أهله وذويه، في وطنه الأول حيث ملاعب الطفولة ومراتع الشباب. وجاءته الذكريات من أقصى الطفولة تحمل على أجنحتها لذائذ ولذائذ لتنصَّب في قلبه هموماً وهموماً، واضطربت جوانح الفتى أن وقف خياله عند الساعة التي أفزع فيها هن وطنه وأهله فبكى بكاء الثكلى تفقد صبرها حين تفقد قلبها. ما الذي أزعجك عن وكرك أيها الطير وأنت ناعم على فنن تغرّد، ترى كل مباهج الحياة عند هذا العش الصغير؟ لقد ضاقت بك الدنيا لأنك تركت قلبك هناك. . . هناك في هذا العش. . .!
لم يكن الفتى كَلاً على أحد، ولم يكن معدماً، ولم يكن ضعيفاً ولا عاجزاً، ولكنه هجر وطنه وأهله حين لم يجد فيها جمال الوطن ولا عطف الأهل، وحين لم يجد بين أهله قلباً كقلب أبيه ينبض له نبضات الحنان والرحمة، ولا رجلاً في رجولته يفيض عليه من بسمات نور الحياة وجمالها. ووقف خيال الفتى عند الساعة التي همَّ فيها يفارق وطنه وأهله تتجاذبه عاطفتان: قلبه من خلف، وتأبِّيه أن يقيم على الضيم من أمام! ثم غلبته كبرياؤه فانصاع لها تقوده إلى حيث يجد أهلاً غير أهله، ووطناً غير وطنه؛ أو لا يجد. . .
ماذا كان؟ ماذا كان أيها المنزوي في ناحية من حجرة تحدث نفسك حديث الماضي؟
مرض الفتى فراح يَطبّ لمرضه في عزم الشباب وقوته، وأريد على أن يلبث في مستشفى حيناً، فما خاطب أهله في شأنه، وغاب عنه أن المرض ألم في الجسم وقلق في النفس، وأن الشفاء يحمل إلى المريض على كفين: كف الأسى وكف الطبيب معاً
لقد خاف - بادئ الرأي - أن يفزع أهله أن ساق إليهم الخبر في صورته المزعجة، فاستأنى حتى ينزع الطبيب مشرطه، ليرسل إليهم خبراً هادئاً فيفدون على مهل. ونفض جملة حاله أمام ابن عمه الشاب فلم ير هذا في حديثه إلا صفحة من الاعتداد بالذات، والتفاني في الوثوق بالنفس؛ ثم نظر إليه نظرات ذات معنى وقال: (أيضيرك أن تستعينهم على مرضك ووحدتك؟) فقال الفتى: (لا ضير؛ غير أنى أريد أن أفاجئهم بالخبر) قال الشاب (أفتراني أملأ فراغ قلبك حيناً من الدهر؟) قال: (ولم لا وقد عرفتك منذ نشأتي تفيض عطفاً وحناناً، وتسدي النصيحة خالصة للحب وللقرابة، وتنير لي طريق الحياة بحكمتك فأسير في سنا ضوء عقلك. لقد كنت لي جماعة في فرد. والآن. . . والآن أريد أن أعرفك في مرض.) فصمت الشاب وقد حمَّله الفتى العبء وحده. . .
وحمل البرق رسالة الشاب (فتاكم في مستشفى (كذا) يطب لمرضه وينتظر قدومكم، لا خوف. . .) ثم انطلق الشاب يحمل إلى مريضه خبر الرسالة
هل وعى المريض ما قاله الشاب الباسم؟ لقد كانت وخزات الجرح تنفذ إلى قلبه في مثل طعنات الخنجر وهو يصمد لها في ثبات وصبر، وعلى وجهه علامات الضجر؛ وكان العرق ينضح من جبينه بارداً غزيراً ليرسم عليه صورة ناطقة لآلامه ومتاعبه. وأربد وجه الشاب حين رأى الفتى تتعاوره الآلام، وتتناهبه الأسقام، ثم ابتسم في رقة وهدوء ليداعب صاحبه وينزعه من آهاته العميقة، ولكنه كان يجهد نفسه ليرتد إليه جهده خائباً مخذولا
وفي أنة المحزون انقلب المريض إلى ابن عمه الشاب يقول: (ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟ أنني أريد أخوتي وأعمامي وأهلي. . . آه ما شعرت بالوحدة كاليوم. . .!) ورن صدى هذا الصوت الضعيف في قلب الشاب طعنات من يد القدر فراح يقول له. . .
ومضى يوم ويومان وثلاثة. . . ويد الطبيب تمر رفيقة على جرح المريض فيلتئم صدع منه على صدع، وتنفرج في قلبه صدوع وصدوع، لأنه لم يفز بعد برؤية أحد أقربائه؛ ولم يستشعر لحنان إلا من قلب هذا الشاب الذي يختلس من أوقات عمله فترات من فراغ يقضيها إلى جانب مريضه يواسيه ويعطف عليه ويحمل إليه - فيما يحمل - هدية صغيرة، تنتزعه حيناً من أفكاره المظلمة. . .
واستطاع الفتى أن يجلس إلى ابن عمه يحدثه: (ماذا جرى كأنك لم تقص على أهلي خبري. لقد مضى أسبوع ولم يزرني سواك. أنك تملأ قلبي سلوة وعزاء بجمال جلساتك القصيرة، ولكن. . .) وراح الشاب يتلمس لأهله الأعذار: (من ذا يستطيع أن يقول سأفعل. . . لعل حادثاً لم يترام إلينا خبره حال بينهم وبيننا. . . واضطربت الكلمات على شفتي الشاب حين أراد أن ينزع عن صاحبه بعض أفكاره، وحين أراد أن يقول له أنه أصاب الهدوء والراحة حين عاقهم ما عاقهم عن أن يسرعوا إليه. اضطربت الكلمات على شفتيه لأنه كان يسمع من أقصى ضميره صوتاً يقول: (أن لا عذر. . . لا عذر اليوم!) وكان يرى في إبطائهم استخفافاً وامتهاناً، غير أن حكمته أبت إلا أن تسدل على عيني الفتى ستاراً من الوهم. وما كان للفتى أن يسمع، وأن سمع فما كان له أن يصدق، فهو وحده يشعر بالوحدة حين يخلو إلى نفسه، وهو وحده يحس ألم الصدمة. لقد أراد أن يفجأهم بخبر هادئ فانصرمت أيام وما رآهم. وتماثل العليل للشفاء، وهمَّ يريد داراً غير هذه ولم ير منهم أحداً. يا ويح هذا الفتى! لقد راح يطلب الشفاء من علة في جسمه، فملأت الأيام قلبه عللاً سلبته لذة الشفاء
وجلس الفتى إلى عمه يعاتبه: (أفكان من العطف أن أنبذ في حجرة، وحيداً، متألماً، مريضاً، أقاسي ما أقاسي فلا أجد منكم من يزورني أو يكتب إلي؟ لقد كان أبي منكم بالمكان الذي تعرفونه، وكنت من أبي من تعرفون؛ أفلا ترعون حقه في أبنه الملقى على سرير في حجرة موحشة لا يجد من يواسيه إلا ابن عمه الشاب؟) وأحس العم عظم الخطيئة فراح يعتذر: (لقد حجبنا عنك موت إحدى قريباتك) وانطلق الفتى يقول: (لقد سعيتم إلى الميت وقد انتهى، ولبثتم حول قبره أيام تبكون، لتتركوا الحي الذي لا هو بالحي ولا هو بالميت يستروح نسمات الحياة منكم فما يجدها. أفبعد هذا تزعمون، وتزعمون. . .؟) وسبقت زلة من لسان العم: (ولكن. . . أن لك لهنات!) فأسقط في يد الفتى أن سمع عمه يتشفى، وآلمه أن ينتقم أهله. لقد زل الفتى مرة وكل فتى يزل، وما كان لهم أن يعاقبوه وهو يحن إلى بعض عطفهم، وما كان لهم أن ينبذوه في الهاجرة وهو المشوق إلى فيء ظلهم. أي أهل؟ وأي أنسانية؟ واندفع الفتى المغيض: (هذا وقت تنسى الهنات، وتنطوي الزلات. أن لي لهنات لأني لم ابلغ سن العقل، ولكم أخرى لأنكم لم تبذلوا النصيحة. ولقد كفاني أن تبدي لي الأيام ما كان خافياً، وأن تكشف لي الشدائد عن أشياء كنت أجهلها، وعن أخلاق ظننتكم تترفعون عنها. . .) ثم غمرت الفتى آلامه فأمسك، وترقرقت في عينه عبرة حبستها الكبرياء فما تبرح، غير أن أحزانه ثارت في نفسه فقال: (لقد ظننتكم أهلي، وركنت إليكم لأنكم أهلي، وشمت الخير فيكم لأنكم أهلي. أما الآن فيا خيبة الرجاء ويا ضيعة الأمل!)
ونزت في العم سورة من غضب أن رأى الفتى الطائش يلومه فيشتد في اللوم، ويعاتبه فيسرف في العتاب، وأَلَّم أن يقع بينهما تنابذ، ولكن الفتى كان قد صهرته الفكرة في بوتقة من الأحزان حين رأى عمه يتعلق بأوهى الأسباب بعد إذ عاقبه أهله على غير جريرة، في جفاء وغلظة، فرجع إلى نفسه يحدثها ويرغمها على أن تلقي السلم، فألقت واضطربت الخواطر في رأس الفتى، فتركته موزعاً ينحى على نفسه باللائمة أن قال. .
ولشد ما آلمه أن يكون هو ابن أبيه، ووحيده، واقتراحه على الله حين أعجزته الأيام عن أن يكون له ولد، والأمل الباسم في شيخوخة الشيخ وهو يدب على عصاه في طريق الفناء؛ ثم يرى أهله ينبذونه في مستشفى، ملقى على سرير، في حجرة موحشة، لا يأنس إلا بوجه ابن عمه الشاب عصر كل يوم، ثم هم يغلظون له في الحديث، ويشتطون في العقاب. ولشد ما أحزنه ألا يكون له في هذا العالم إلا ابن عمه يحنو عليه، وينظر إليه نظرات فيها العزاء وفيها السلوة، ويدخل إلى نفسه بكلام في رقة الأصيل لينسيه بعض ما همه؛ وهو كان يرى - عن كثب - الفتى أو الشيخ من أسرته يصيبه بعض ما أصابه هو فينطلق إليه أبناء الأسرة زمراً زمراً يواسونه، ويعطفون عليه، وينزعون عنه آلامه وأحزانه. أما هو. . . أما هو. . .! وتناهبته الآلام: آلام المرض، وآلام الوحشة، وآلام عزوف أهله عنه، فأخفى ضعفه المنسكب من عينيه في منديل
وخرج الفتى من لدن عمه مطوياً على آلام مبرحة تحز في نفسه، وتعض على قلبه حين رأى قلوباً تأكلها أحقادها، وعقولاً تعصف بها ترهاتها، وضاقت الدنيا في عينيه حين انهار مثله الأعلى حجراً حجراً بعد ما رأى من عمه وما سمع، فهام على وجهه يطلب الفُسحة في أرض الله. . .
وهبت أول نسمة من نسمات الفجر تشهد قلباً كبيرا ًينزح عن وطنه، ويهجر أهله إلى حيث تتقاذفه مطارح النوى، إلى حيث لا ينبض لذكره قلب. . .
وانصرمت سنون ألبست الفتى شيخوخة باكرة، ورسمت على فوديه آثار حادثة مروعة استقرت في خياله فما تريم، لقد سكن إلى وطن وأهل غير وطنه وأهله، وقلبه ما يزال عند الساعة التي أفزع فيها عن وطنه وأهله يبكي ويبكي. . .
ليتك نسيت أيها المنزوي في ناحية من حجرة تحدث نفسك حديث الماضي، ليتك نسيت أنك كنت. . .!
كامل محمود حبيب
مجلة الرسالة - العدد 160
بتاريخ: 27 - 07 - 1936
لم يكن الفتى كَلاً على أحد، ولم يكن معدماً، ولم يكن ضعيفاً ولا عاجزاً، ولكنه هجر وطنه وأهله حين لم يجد فيها جمال الوطن ولا عطف الأهل، وحين لم يجد بين أهله قلباً كقلب أبيه ينبض له نبضات الحنان والرحمة، ولا رجلاً في رجولته يفيض عليه من بسمات نور الحياة وجمالها. ووقف خيال الفتى عند الساعة التي همَّ فيها يفارق وطنه وأهله تتجاذبه عاطفتان: قلبه من خلف، وتأبِّيه أن يقيم على الضيم من أمام! ثم غلبته كبرياؤه فانصاع لها تقوده إلى حيث يجد أهلاً غير أهله، ووطناً غير وطنه؛ أو لا يجد. . .
ماذا كان؟ ماذا كان أيها المنزوي في ناحية من حجرة تحدث نفسك حديث الماضي؟
مرض الفتى فراح يَطبّ لمرضه في عزم الشباب وقوته، وأريد على أن يلبث في مستشفى حيناً، فما خاطب أهله في شأنه، وغاب عنه أن المرض ألم في الجسم وقلق في النفس، وأن الشفاء يحمل إلى المريض على كفين: كف الأسى وكف الطبيب معاً
لقد خاف - بادئ الرأي - أن يفزع أهله أن ساق إليهم الخبر في صورته المزعجة، فاستأنى حتى ينزع الطبيب مشرطه، ليرسل إليهم خبراً هادئاً فيفدون على مهل. ونفض جملة حاله أمام ابن عمه الشاب فلم ير هذا في حديثه إلا صفحة من الاعتداد بالذات، والتفاني في الوثوق بالنفس؛ ثم نظر إليه نظرات ذات معنى وقال: (أيضيرك أن تستعينهم على مرضك ووحدتك؟) فقال الفتى: (لا ضير؛ غير أنى أريد أن أفاجئهم بالخبر) قال الشاب (أفتراني أملأ فراغ قلبك حيناً من الدهر؟) قال: (ولم لا وقد عرفتك منذ نشأتي تفيض عطفاً وحناناً، وتسدي النصيحة خالصة للحب وللقرابة، وتنير لي طريق الحياة بحكمتك فأسير في سنا ضوء عقلك. لقد كنت لي جماعة في فرد. والآن. . . والآن أريد أن أعرفك في مرض.) فصمت الشاب وقد حمَّله الفتى العبء وحده. . .
وحمل البرق رسالة الشاب (فتاكم في مستشفى (كذا) يطب لمرضه وينتظر قدومكم، لا خوف. . .) ثم انطلق الشاب يحمل إلى مريضه خبر الرسالة
هل وعى المريض ما قاله الشاب الباسم؟ لقد كانت وخزات الجرح تنفذ إلى قلبه في مثل طعنات الخنجر وهو يصمد لها في ثبات وصبر، وعلى وجهه علامات الضجر؛ وكان العرق ينضح من جبينه بارداً غزيراً ليرسم عليه صورة ناطقة لآلامه ومتاعبه. وأربد وجه الشاب حين رأى الفتى تتعاوره الآلام، وتتناهبه الأسقام، ثم ابتسم في رقة وهدوء ليداعب صاحبه وينزعه من آهاته العميقة، ولكنه كان يجهد نفسه ليرتد إليه جهده خائباً مخذولا
وفي أنة المحزون انقلب المريض إلى ابن عمه الشاب يقول: (ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟ أنني أريد أخوتي وأعمامي وأهلي. . . آه ما شعرت بالوحدة كاليوم. . .!) ورن صدى هذا الصوت الضعيف في قلب الشاب طعنات من يد القدر فراح يقول له. . .
ومضى يوم ويومان وثلاثة. . . ويد الطبيب تمر رفيقة على جرح المريض فيلتئم صدع منه على صدع، وتنفرج في قلبه صدوع وصدوع، لأنه لم يفز بعد برؤية أحد أقربائه؛ ولم يستشعر لحنان إلا من قلب هذا الشاب الذي يختلس من أوقات عمله فترات من فراغ يقضيها إلى جانب مريضه يواسيه ويعطف عليه ويحمل إليه - فيما يحمل - هدية صغيرة، تنتزعه حيناً من أفكاره المظلمة. . .
واستطاع الفتى أن يجلس إلى ابن عمه يحدثه: (ماذا جرى كأنك لم تقص على أهلي خبري. لقد مضى أسبوع ولم يزرني سواك. أنك تملأ قلبي سلوة وعزاء بجمال جلساتك القصيرة، ولكن. . .) وراح الشاب يتلمس لأهله الأعذار: (من ذا يستطيع أن يقول سأفعل. . . لعل حادثاً لم يترام إلينا خبره حال بينهم وبيننا. . . واضطربت الكلمات على شفتي الشاب حين أراد أن ينزع عن صاحبه بعض أفكاره، وحين أراد أن يقول له أنه أصاب الهدوء والراحة حين عاقهم ما عاقهم عن أن يسرعوا إليه. اضطربت الكلمات على شفتيه لأنه كان يسمع من أقصى ضميره صوتاً يقول: (أن لا عذر. . . لا عذر اليوم!) وكان يرى في إبطائهم استخفافاً وامتهاناً، غير أن حكمته أبت إلا أن تسدل على عيني الفتى ستاراً من الوهم. وما كان للفتى أن يسمع، وأن سمع فما كان له أن يصدق، فهو وحده يشعر بالوحدة حين يخلو إلى نفسه، وهو وحده يحس ألم الصدمة. لقد أراد أن يفجأهم بخبر هادئ فانصرمت أيام وما رآهم. وتماثل العليل للشفاء، وهمَّ يريد داراً غير هذه ولم ير منهم أحداً. يا ويح هذا الفتى! لقد راح يطلب الشفاء من علة في جسمه، فملأت الأيام قلبه عللاً سلبته لذة الشفاء
وجلس الفتى إلى عمه يعاتبه: (أفكان من العطف أن أنبذ في حجرة، وحيداً، متألماً، مريضاً، أقاسي ما أقاسي فلا أجد منكم من يزورني أو يكتب إلي؟ لقد كان أبي منكم بالمكان الذي تعرفونه، وكنت من أبي من تعرفون؛ أفلا ترعون حقه في أبنه الملقى على سرير في حجرة موحشة لا يجد من يواسيه إلا ابن عمه الشاب؟) وأحس العم عظم الخطيئة فراح يعتذر: (لقد حجبنا عنك موت إحدى قريباتك) وانطلق الفتى يقول: (لقد سعيتم إلى الميت وقد انتهى، ولبثتم حول قبره أيام تبكون، لتتركوا الحي الذي لا هو بالحي ولا هو بالميت يستروح نسمات الحياة منكم فما يجدها. أفبعد هذا تزعمون، وتزعمون. . .؟) وسبقت زلة من لسان العم: (ولكن. . . أن لك لهنات!) فأسقط في يد الفتى أن سمع عمه يتشفى، وآلمه أن ينتقم أهله. لقد زل الفتى مرة وكل فتى يزل، وما كان لهم أن يعاقبوه وهو يحن إلى بعض عطفهم، وما كان لهم أن ينبذوه في الهاجرة وهو المشوق إلى فيء ظلهم. أي أهل؟ وأي أنسانية؟ واندفع الفتى المغيض: (هذا وقت تنسى الهنات، وتنطوي الزلات. أن لي لهنات لأني لم ابلغ سن العقل، ولكم أخرى لأنكم لم تبذلوا النصيحة. ولقد كفاني أن تبدي لي الأيام ما كان خافياً، وأن تكشف لي الشدائد عن أشياء كنت أجهلها، وعن أخلاق ظننتكم تترفعون عنها. . .) ثم غمرت الفتى آلامه فأمسك، وترقرقت في عينه عبرة حبستها الكبرياء فما تبرح، غير أن أحزانه ثارت في نفسه فقال: (لقد ظننتكم أهلي، وركنت إليكم لأنكم أهلي، وشمت الخير فيكم لأنكم أهلي. أما الآن فيا خيبة الرجاء ويا ضيعة الأمل!)
ونزت في العم سورة من غضب أن رأى الفتى الطائش يلومه فيشتد في اللوم، ويعاتبه فيسرف في العتاب، وأَلَّم أن يقع بينهما تنابذ، ولكن الفتى كان قد صهرته الفكرة في بوتقة من الأحزان حين رأى عمه يتعلق بأوهى الأسباب بعد إذ عاقبه أهله على غير جريرة، في جفاء وغلظة، فرجع إلى نفسه يحدثها ويرغمها على أن تلقي السلم، فألقت واضطربت الخواطر في رأس الفتى، فتركته موزعاً ينحى على نفسه باللائمة أن قال. .
ولشد ما آلمه أن يكون هو ابن أبيه، ووحيده، واقتراحه على الله حين أعجزته الأيام عن أن يكون له ولد، والأمل الباسم في شيخوخة الشيخ وهو يدب على عصاه في طريق الفناء؛ ثم يرى أهله ينبذونه في مستشفى، ملقى على سرير، في حجرة موحشة، لا يأنس إلا بوجه ابن عمه الشاب عصر كل يوم، ثم هم يغلظون له في الحديث، ويشتطون في العقاب. ولشد ما أحزنه ألا يكون له في هذا العالم إلا ابن عمه يحنو عليه، وينظر إليه نظرات فيها العزاء وفيها السلوة، ويدخل إلى نفسه بكلام في رقة الأصيل لينسيه بعض ما همه؛ وهو كان يرى - عن كثب - الفتى أو الشيخ من أسرته يصيبه بعض ما أصابه هو فينطلق إليه أبناء الأسرة زمراً زمراً يواسونه، ويعطفون عليه، وينزعون عنه آلامه وأحزانه. أما هو. . . أما هو. . .! وتناهبته الآلام: آلام المرض، وآلام الوحشة، وآلام عزوف أهله عنه، فأخفى ضعفه المنسكب من عينيه في منديل
وخرج الفتى من لدن عمه مطوياً على آلام مبرحة تحز في نفسه، وتعض على قلبه حين رأى قلوباً تأكلها أحقادها، وعقولاً تعصف بها ترهاتها، وضاقت الدنيا في عينيه حين انهار مثله الأعلى حجراً حجراً بعد ما رأى من عمه وما سمع، فهام على وجهه يطلب الفُسحة في أرض الله. . .
وهبت أول نسمة من نسمات الفجر تشهد قلباً كبيرا ًينزح عن وطنه، ويهجر أهله إلى حيث تتقاذفه مطارح النوى، إلى حيث لا ينبض لذكره قلب. . .
وانصرمت سنون ألبست الفتى شيخوخة باكرة، ورسمت على فوديه آثار حادثة مروعة استقرت في خياله فما تريم، لقد سكن إلى وطن وأهل غير وطنه وأهله، وقلبه ما يزال عند الساعة التي أفزع فيها عن وطنه وأهله يبكي ويبكي. . .
ليتك نسيت أيها المنزوي في ناحية من حجرة تحدث نفسك حديث الماضي، ليتك نسيت أنك كنت. . .!
كامل محمود حبيب
مجلة الرسالة - العدد 160
بتاريخ: 27 - 07 - 1936