أدب السيرة الذاتية محمد السلاموني - (٢) عن السيرة الذاتية والكتابة داخل الملكية العامة للغة:

(٢)


الملكية العامة للغة بقدر ما تعنى اللغة الاستعمالية، السائدة، فإنما تعنى أيضا القوالب والتقنيات التعبيرية التى يتداولها الجميع، وإجمالا، هى كل ما صار ممتلكا من الجميع، ولم يعد يخص أحدا بعينه...
هنا أريد أن أتخذ من "الأيام" لطه حسين نموذجا للسيرة الذاتية "الأدبية بحق"، فى محاولة للإجابة عن سؤال شروط أدبية السيرة الذاتية.
لا أعرف ما إذا كان أحد من كتاب السيرة العرب، قبل طه حسين، كتب سيرته الذاتية بضمير الغائب، ليتحول السرد السيرى إلى "شاهد ومشهد"...
المسافة التى وضعها طه حسين بينه وبين سيرته الذاتية، لتتحول إلى سيرة "شخص- آخر"، تحوله هو نفسه إلى موضوع ماثل أمام الذات. والفكرة هنا تتعلق ب "تمثيل الذات- من خلال الآخر" ، فى سياق تاريخى كان منشغلا بالسؤال عن "الهوية الفردية".
يبدو الأمر فى "الأيام" وكأنه قد تم إرجاء الإجابة، من قبل الكاتب، عن سؤال "من أنا ؟" ، الذى تتمحور حوله الكتابة السير ذاتية عادة.
وهنا نجد أن "الآخر" القابع داخل السرد يتحول إلى آخر مقيم خارج السرد، حتى أن الأمر يبدو وكأن طه حسين يريد أن يقول بأن الآخر "الغائب" هو الذى يمثلنى هنا، بقدر ما يمثلكم أنتم أيضا . وبذا فهو يعهد بالإجابة عن سؤال الهوية المتعلقة بالفرد، المجهول، إلى القارىء...
فطه حسين يكتب عن "الآخر - المجهول أو الغائب" بما هو إلغائب عن الجميع؛ إنه فرديتنا التى نجهلها .
هذا النوع من السيرة الذاتية "أدبى" تماما، لأن ما يحضر أمامنا فى السرد هو الآخر وقد تحول إلى "لغة- تمثله، تنوب عنه فى الحضور، وتشهد عليه وعلى وجوده" ، فاللغة هنا تصير هى الأثر الذى تركه وراءه.
هنا، طه حسين يضعنا أمام ركام من الكلمات، هى توزيعات لغوية "تمثل" بقدر ما "تدل على" الغائب الجارى البحث عنه-
"حضور الآخر هنا هو المساحة الفارغة التى تشير إلى غياب الأنا" .
وبإمكاننا ملاحظة أن تلك التقنية تتماهى استعاريا مع ثنائيات "العمى/ البصيرة"، "الظلام/ النور" ، "الجهل/ العلم" ... إلخ، التى تتمحور حولها "الأيام" برمتها...
فى "الأيام" تتحول اللغة "المتخلصة من الجماليات التراثية"
فى علاقتها بالعالم إلى إشكالية صميمية متعلقة بتاريخنا كله؛
( الذى تم فيه التضحية بالانا الفردية كقربان فى سبيل منظومة لغوية وتقنية وقيمية، كان المجتمع العربى يعتقد بأنها الأحق بالوجود، وهو ما يكشف عنه نظام الاشتقاق الخاص باللغة العربية بجلاء يند عن الوصف؛ وهو ما يعنى أن نظام الاشتقاق العربى الصارم، الذى يسكت عن " الأنا" ويحولها إلى مستأجر لغة، وليس ممتلك لغة، يمتد ليشمل وجود "الفرد العربى" بأكمله...) .
فى "الأيام" يضع طه حسين تلك الإشكالية "المتعلقة بعلاقتنا بالتراث عامة- وليس بقضية الاشتقاق ذاتها، على نحو مباشر"
أمامنا بقوة وكثافة بالغين؛ فعلى الرغم من أنه يضع إسمه على الغلاف الخارجى لكتاب "الأيام" ، إلا أننا حين نقرأ الكتاب لا نجده؟! .
طه حسين هنا يضعنا أمام سؤال: أين "أنا" من اللغة والتراث والتاريخ و بالتالى من الواقع؟ .
وعلينا نحن أن نجيب...
الإشكالية المتعلقة ب "اللغة وعلاقتها بالانا- العالم" ؛ تلك التى لم يلتفت إليها أحد ، على الأقل من المنظور السوسيوثقافى، هى التى تموضع "الأيام" - كسيرة ذاتية- فى مصاف الأدب ، ك " رواية سير ذاتية" .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى