د. علي زين العابدين الحسيني - خماسية محمد رجب البيومي

هم يعرفونه وإن لم يلتقوا به، عرفوه مما قرأوا له، فأحاديثه في كتبه لذة من غير تعنت، وأسلوب من غير تكلف، وإدراك من غير تحديد!

لقد حدثتني نفسي حين دخلت علينا السنة الميلادية الجديدة أن أخص أستاذنا الأكبر "محمد رجب البيومي" بمقال شهريّ أتحدث فيه عن بعض مظاهر العظمة والإجلال في شخصيته ومنجزه العلمي حتى تأتي ذكرى مئويته في شهر أكتوبر القادم؛ إذ الحركة العلمية قد تطوقت منه أيادي مشكورة بما أمده بها من منجزات ثقافية عزيزة، وإنّي لأعترف أن خسارة الأزهر فيه لن تعوض، وكلّ الشواهد تشير إلى صعوبة أن يكون خلفه أحد في الوقت الحالي.
(1)
لم تقم قيمة "محمد رجب البيومي" العلمية على ما اكتسبه من مناصرة؛ كغيره ممن يتخذون لهم أتباعاً أو أحزاباً للوصول إلى أغراضهم في المجتمعات الثقافية، بل كانت قيمته الحقيقية عن طريق أعماله ومنجزاته، فاكتسبها عن جدارة وتفوق، نعم هناك عوامل ساعدته على تكوينه الثقافي، وهي التي تمثل شخصية "البيومي" الفريدة، وتشكل حركة وجوده في الأوساط الثقافية بقوة، فيلوح لنا الدكتور "محمد رجب البيومي" بكل المقاييس النقدية ناقداً كبيراً، ملهم الرؤيا، مثقف الفكر، واسع الأفق، ممتع النقد، فلا يخلو نقده بين المتعة الجليلة والفائدة العظيمة، ثم هو في سبيل ذلك ينصرف بكلّ جوارحه إلى معرفة كل مآتي الموضوع لغوياً وفكرياً، مما يدفعه في كثير من الأحيان إلى ابتكار أشياء جديدة ينتبه القارئ الحصيف لها.
وبكلّ المقاييس الفنية يظهر لنا الدكتور محمد رجب البيومي كاتباً قادر القلم، كامل الأدوات الكتابية، مدرب المعرفة، هادف الحرف، هاطل الإنتاج، متعدد الجوانب الإبداعية، ينتقل ببراعة بين الشعر وصوره، والنثر وألوانه، والتاريخ وضروبه، والنقد وتحقيقاته، والشريعة وفنونها، والردود وأساليبها، والبحث والمناظرة وأصولهما، ونظائر كل، كما أنّ بصيرته في تفهم الاختلاف الثقافي، ونظره الواسع في تقبل الآخرين قد فتحت له الإلمام بتشكيل العقل الثقافي من عدة أوجه مما مكنه من الاتصال المباشر مع جمهور واسع من خلال الكتابة اليومية في شتى مجالات الحياة.
(2)
يلوح لنا الدكتور محمد رجب البيومي بكلّ المقاييس العلمية كذلك عالماً أكاديمياً مرموقاً موسوعيّ الثقافة شاملها، موضوعي النظرة، فيبدو الرجل في كتاباته غزير المرجعية الفكرية، وبناءً على ذلك تعددت أجيال طلابه بتعدد مراحل تدرجه في سلك التعليم العام والجامعي في مهنة التدريس، وتنوعت المؤسسات التي عمل فيها أو رحل إليها؛ لأنّه المعلم، والمحاضر، والأستاذ، والمشرف، والعميد، والكاتب، والشاعر، والقاص، والمؤرخ، والراوية، ورئيس التحرير، والاستشاري، وعضو المؤسسات العلمية العريقة، والمحلل الاجتماعي، فكثرت المنابر الإعلامية والأدبية التي كانت تنشر إنتاجه الغزير، ويلوح لنا بكل المقاييس التاريخية مؤرخاً راوية صاحب بعث حركة تاريخية أدبية بمفهوم وبأسلوب جديد لم نألفه من قبل في كتب المؤرخين، يستنطق الأحداث والروايات بمنهجية تحليلية، وبكلّ مقاييس علم الرواية والتلقي يبدو لنا الدكتور محمد رجب البيومي راوية حافظاً لكثير من الروايات الفريدة، فهو من أكثر علماء العصر اجتماعاً ومعرفة بالأدباء والفقهاء والمفكرين، حتى بلغ مَن قابلهم من كبار أدباء وعلماء القرن الماضي أكثر من ثلاثمائة عالم ومفكر وأديب، وهو عدد يصعب أن يكون عند غيره، بل لم يوجد عند أبناء جيله.
(3)
وفي كثير من تراجمه التي خطها بيمينه لم يكن هناك ذلك النتاج الذي يلزم ويكفي في الكتابة عن الأشخاص مما يدل على عظم ما أنتجه في هذا الجانب، كما انفرد في كثير من مقالاته بالحديث عن شخصيات لم يجر لها ذكر من قبل، وتخصص في نقل روايات عزيزة عن كثير من الأعلام كانت في طي النسيان لولا أنه كتبها، فحفظها لنا في كتبه، ولذلك كانت خطوته في الكتابة عن بعض الشخصيات بمثابة المغامرة الكبيرة، أو الوثبة في المجهول، وأظن أن أستاذنا لم يكن ليفكر بخوض غمار هذا المشروع الكبير في هذا الطريق المجهول في كثير من جوانبه إلا وهو متأكد أولاً من أهميته العظمى في إعادة بناء الثقة بين الناشئة وبين عظمائهم من ناحية، ومن ناحية أخرى قدرته على الابتكار والتجديد في الدراسات التاريخية، فقد سجل لنا جنساً جديداً من الدراسات التاريخية الأدبية له الحق في الوجود والتواجد.
ولو قدر لعبقريّ العربية وعميد الأدب العربي الحديث "محمد رجب البيومي" أن يواصل الكتابة عن كلّ أعلام عصره ومن عرفهم أو لقيهم لأسدى لنا مادة فريدة وعملًا متقناً؛ لانفراده بتقبل الآخرين واتساع آفاق البحث لديه، فهو يختلف عن غيره كثيراً، ومن أوجه الاختلاف طريقته في التأليف، فلا يودع في مؤلفاته معلومات أمدته بها المطالعة في المصادر، ولكن يكتب فيها ما حصله ذهنه من هذه الكتب بعد قراءة واعية، ومطالعة وإدراك وإضافة.
(4)
هذه الخماسية: قوة النقد، وقدرة القلم، وشمولية الثقافة، وبعث حركة تاريخية، واتصالاته الواسعة بروّاد جيله أشار إلى ثلاثةٍ منها الأستاذ "محمد أحمد العزب" في مقال له عن البيومي، وعلى الرغم من كون مقال "محمد العزب" يبعث في النفس السرور والسعادة، إلا أنّه يستدعي في نفس الوقت عدة تساؤلات، إذ كتبه "العزب" في العدد الثاني عشر من مجلة "الأديب" سنة 1971م، وهذا يعني أن أستاذنا البيومي آنذاك لم يجاوز التاسعة والأربعين من عمره، وكاتب المقال "محمد العزب" قامةٌ أدبيةٌ وثقافية كبيرة، وهو مدرس الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر فيما بعد، وله مشاركات في الحياة الأدبية من خلال الكتابة في الدوريات العربية العريقة، والكثير من الدواوين الشعرية والدارسات النقدية.
إنّ كلامه عن البيومي جعلني أتساءل عن سبب عزوف المجتمع الثقافي عن أدب البيومي وإخفاء إنجازاته العلمية الفريدة منذ وقت طويل رغم نبوغه المبكر في كثير من ميادين البحث والتحقيق وفنون الكتابة، هذا العزوف الذي يظهر من خلال عدم احتفاء المؤسسات الثقافية بأدبه وعلومه، ليستمر التجاهل حتى بعد وفاته، وكأن رجلًا لم يأت على قيد الحياة يدعى "محمد رجب البيومي" في حين نرى الإقبال على كثير ممن لا يقاسون به قدراً وعلماً، بل ممن أفسدوا حياتنا الأدبية بدراساتهم الهشة الضعيفة.
(5)
لا أجد سبباً واضحاً يمكن أن أعول عليه سوى أنّ الرجل قد انتحى ناحية الدراسات الإسلامية والاعتزاز بالعربية في كتاباته، كما أن في عدم انتمائه لمدرسة ثقافية أثراً واضحاً في ذلك، ومن يعرف الرجل حق المعرفة يؤمن أنه يستحيل على عقليته أن تكون منتمية لمدرسة واحدة، أو أن يكون محصوراً في اتجاه ثقافيّ واحد، وهكذا شأن كلّ مفكر يعمل عقله، فمن الصعب أن تحاول مدرسة ضمه إليها.
إنّ أصحاب الفكرة المجتمعية الإصلاحية العامة ينفرون من السياسة الحزبية؛ لأنّها نظرة فردية خاصة تتحكم في العقول قبل التحكم في الأفعال.
أضف إلى ذلك انشغال الجماهير بكثيرٍ من المعارك الأدبية التي دارت بين مدرستي الدكتور "طه حسين" والأستاذ "محمود شاكر"، وقد تابع أنصارهما السير في هذا الطريق، مما شغل الحياة الثقافية وقتاً طويلًا، وقلل من جهود أناسٍ كثيرين، وقد يدرك البصير حجم تلك المشكلة حين يقارن بين أعمال الجميع بعيداً عن الحزبية البغيضة.
وإذا كان "محمد رجب البيومي" لم يلق من الأدباء ونقاده من الاحتفاء ما لاقاه مَن هو أقل منه علماً وإنتاجاً؛ لأنّه قد انتحى ناحية الدراسات الإسلامية، فكانت كتاباته تدور حول الحضارة الإسلامية وفكرة الحفاظ على الهوية العربية فأرى أنّ ذلك لم ينقص من قدره، بل أراه يقيم الحجة والبرهان على كل مَن تعمدوا إخفاء إنجازاته؛ لأنّهم عاملوه بقسوةٍ وعنفٍ، ومن زاوية أخرى يظهر لنا مدى سلامة صدره، وصدق رؤيته الإبداعية في مشروعه الثقافي المتكامل.
(6)
لم يحقق لنا البيومي إضافات مهمة في الكتابات الحديثة فحسب، بل كانت نفسه السمحة ومشاعره الصادقة مع الجميع -سواء اتفقوا معه أم اختلفوا- إضافة مهمة لكل ذلك، وكأنه يقول بلسان حاله ومقاله إننا نستطيع أن نتعايش ولو كنا مختلفين، فالثقافة يمكن أن تسع الجميع وإن تنازعنا في جزئياتها، ولا يمكن للجزء أن يلغي الكل أو يبعده، وإذا كانت الثقافة تسع الجميع فإنّ مسؤولية الاحتفاء بالبيومي تقع إذاً على عاتق الجميع.
إنني أراني مدفوعاً في هذه الذكرى تخليداً لأعمال المرحوم وإشادة به أن أطلب من الجميع عملًا مِن شأنه أن يثبت وفاءنا للكبار، ويؤكد اعترافنا بالجميل لأستاذنا!

د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري


1677680491611.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى