حسن حلمي - في البحر سربا

جلس تحت ظل شجرة صفصاف, تحتضن أحد أفرع النهر الكبير, تتدلى منها شعر أخضر يلامس صفحة الماء, فتصنع دوائراً من موجات تسلّم بعضها البعض في ألق, وتتوهج على قممها الضوء, فيعكس على صفحة الماء لوحة سيريالية مُبهجة . أخذ يصغي إلى حفيف أفرع الشجرة حين ملامستها وجه الماء, تحكي تاريخ نشأته مذ كان جدولاً رقراقاً . تتجلّى ذبذبات موجاته في ألق في عيني الشيخ الذي اتكأ على جذعها, فيسمع أنّاتها, وحفيف أوراقها . لم يكن الصيد هوايته, بل كان التأمل هو كل غايته . أطاح بيده خيط صنّارته إلى وسط الجدول, وانتظر قليلاً, شاخصاً بعينيه الزائغتين على غمّازة الصنّارة, فلمّا أخرجت صنّارته إحدى السمكات الصغيرات, نظر إليها بإمعان هازئاً من ضآلتها, فأعادها إلى الماء, فما فتئت تقفز, وترتد لعمق الماء, وأعاد غمس صنّارته مرة أخرى وأخرى, فتعود إليه تلك السمكة الصغيرة في تحدٍ, غير عابئة بمصير قد يبدو لها مُبهماً . تتكرر القفزات والمداعبات بينهما, كأنهما صارا صديقين يتيمين يتبادلان السعادة الغامرة, ويقطعان اليوم بطوله بين غمزات الصنّارة, وموجات الماء فوق سطح الغدير, بينما توقفتْ رفيقاتها غير بعيد يتابعن هذه المباراة العجيبة, وما لبثت أن امتلأت الصفصافة على غير عادتها بالعصافير في هذا الوقت من النهار .
كان الوقت يداري غيابه في الماء, وكانت العصافير فوقه تبعث ألحاناً تنساب مع موجات الماء, بعد أن امتلأت حواصلها بما يكفيها لصباح الغد, فتصنع دوائراً من البهجة, تجعل السمكة الوحيدة ترقص أمام الشيخ غير عابئة بمصير عقلها الذي يحمل ذاكرة تفنى فور تكوّنها . لم يشعر الشيخ بالوحدة إلا حين مرّ عليه أحدهم ممن يملأون حياتهم ضجيجاً بغير طحين, وتوقّف متأمِّلاً ذلك الشيخ الذي يجلس مرتبعاً يصطاد باهتمام لا شيء . فقال له هازئاً :
ــ عجباً لك أيها الشيخ ! تجلس هادئاً تصطاد لا شيء من لا شيء, كأنك تملأ مِخلتك من هذا اللاشيء شيئاً ليس موجوداً أصلاً في هذا الجدول الرقيق . أحسَّ الشيخ بالقشعريرة فجأة, ارتعش, أغمض عينيه, تركتْ السمكة سِن الصنارة التي تلهو به, وغابت بعيداً, بعد أن شعرتْ بالوحدة أيضاً, توقّف غناء العصافير, كأنه قد أطلَّ عليها أحد الصقور . تنبّه الرجل الذي مرَّ على الجدول أنه يتحدث إلى لا شيء . تمتم . . . . أين ذلك الشيخ إذن ؟! . تلفّتَ حواليه, أحس بالخوف يتسلل إليه, أسرع الخطى بعيداً, وهو يتمتم . . . شيخ عجيب .
عاد الشيخ إلى ما كان عليه, بعد أن أبعد الوحدة عن دمائه التي تدفقت في قلبه من جديد . ألقى صنارته في الماء مرّة أخرى, فكأن السمكة كانت على موعد معها, التقمت الطُعم, فخرجت على سطح الماء, شاخصة ببصرها إلى الشيخ, تناجيه ويناجيها . امتد بهما الوقتُ, غير عابئين به, حتى شعر الشيخ بالجوع, فقام متثاقلاً, بحث عن مِخلته, أوقد ناراً خفيفة, ووضع السمكة فوقها, بعد أن رشّها بذرّة ملحٍ . تناول السمكة بقضمة واحدة, غير عابئ بأشواكها . أخذ جرعة ماء بكلتا يديه من جدول النهر, أسند رأسه على جذع الصفصافة, يتأمل تتابع موجات الماء . كان جُلُّ همه في التأمل, أغمض عينيه, بعد أن ألقى بظله على صفحة الماء, وأطلق أذنيه لاصطياد بعض النغمات المنفلتة من تلاقي موجات الماء المتلاحقة مع دوائر الضوء المتلألئ على صفحة الجدول, تنساب سيمفونية الماء لتصنع أزيزاً يشنّف الأذان بكونشرتو من السعادة الغامضة, وتستعيد لوقع صداها ترانيم من قدسية الماء, تبثّها إشعاعات متدفقة تُثمل العيون . تتدفق هرمونية الموجات بدقات قدرية في أذنيه, فيخفَّ وزنه, فيرتفع قليلاً في الهواء, حتى تترك قدماه الأرض, فيتشبث بجذع الصفصافة, أعاد فتح جفنيه المتثاقلين, فوجد جسده معلقاً في الهواء, أعاد غلق عينيه خوفاً ورهبة, ما لبث أن أخذته سِنة من النوم, فرأى السمكة تقفز فوق حِجره, وتداعبه, ثم تعود لتستقر في الماء . انتفض فجأة, أحسَّ بوحدته من جديد, أمال برأسه على صفحة الماء, تجشّأ, ثم فتح فاهه فخرجت فُتات السمكة مع عصارة معدته, مندفعة نحو الماء, تسبح بمرح مع رفيقاتها, بعد أن نظرت طويلاً في عيني الشيخ .

م/ حسن حلمي - القليوبية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى