جاءتني أمه باكية، تندب حظها وتعض شفتها السفلى غيظاً، تتوسلني البحث عنه في أي مكان يمكن أن يفر إليه بعد عراكه مع والده غليظ القلب، لم تأخذه شفقة على حدة بلائه، تلك الصعقة الكهربائية التي تحتل جسده الثقيل، ترجه بشدة من شعر رأسه المنتصب حتى أخمصي قدميه المرتعشتين، أربعة رجال بالكاد يستطيعون تكتيفه، خامسهم يُكبِر ويذكر ما يحفظ من أسماء الله الحسنى في أذنيه الممتقعتين ككل ذرة في وجهه حد الازرقاق، يلفظ أنفاسه المتهافتة بسرعة تستنزف آخر قواه، ينفث تمتمة كلمات بالكاد يقوى على نطقها، تغور في الآذان طلاسماً مستوحاة من لغات بدائية أو هلوسة صوفية يتدثر بتجلي عوالمها العلوية من فترة لأخرى، يفيق على وجوه لا يتعرف عليها إلا بعد حين، ولو كان وجه والدته الناحب، ويداها الحانيتان تحوطان رأسه المصَدَع فوق الفراش كجنحي حمامة تحاول انتشاله من حافة الموت الرهيبة.
انغرست قدمايّ في مكانهما دقائق عدة قبل ولوجهما فناء الدار، عبرتُ ظلمة الحديقة في ليلة بدر، مستدلاً بنور ضعيف تشف عنه ستائر غرفتها الوردية، لم تواتني جرأة النقر على الشباك المغلق، تسكن أصواتهما حفيف الشجر، ارتجاف أوراقه الخضراء، تنداح مع قطرات مطر مباغتة انعشت الحشيش الناعم، وددت افتراشه لبعض الوقت دون تفكير بأي شيء، لا قلق الوالدة الحزينة، ولا غواية صديقي بعشيقته المطَلقة؛ وكأني في أرضِ خلاء لا صاحب لها.
لم يكن يود لارتعاشه فوق لدانة جسدها الملسوع بسمرة مشاكسة لأعين الرجال التوقف.
يكركر ساخراً: (عسى أن يفارقني للأبد).
ذلك الجني الذي كانت والدته تحدثه قرب رأسه في جوف الليالي، كآخرين تظن إنه من يتسلط على جسده ويشل حراكه، يعربد داخله ويملي عليه تصرفاته، يحيله إلى الجنون المطلق أحياناً، بصراخه في عصبية مخيفة لا تصدر عن صبي في مثل عمره، وبشروده الطويل حتى في المدرسة، مما أدى إلى اشتكاء بعض المدرسين منه.
أيقظتني هزة يده من غفوة أسكنت رأسي إلى جذع شجرة كبيرة، تثاءبت طويلاً وأنا أمسح البلل وقتامة الخجل عن وجهي، رمقني حانقاً على جسارة تلصصي على خلوته القصية عن عالمه من جديد، كمم فمي بكفه وسحبني بسرعة إلى الخارج، يبصق دخان سيجارته في وجه ريحٍ تقبض على بقايا رذاذ منعش.
حتى تلك النشوة الضارية أخذ بريقها يخبو في نفسه، تشبثه الأهوج بجسدها المكتنز بالإثارة، ورغبته الاستنشاق عبر أوردتها، علَّه يحظى بولادة جديدة بين أحضانها، ما عادا سوى خدعة أخرى، كما كرر وصفها، تعلو سخريته منها بقدر ما يرسو في رأسه المضطرب من قنوط لدى هروعه إليها، لا يخفف من شدة عصفه سوى نظرات الشبق السعيدة حد البكاء الملتمعة في عينيها، تبهره شهقاتها، لفظ أنفاسها المهتاجة. نظراته تبحلق باهتزازها بين ذراعيه من علياء سماوات تسبح في ثناياها روحه، متحررة من جسد يداوم التدحرج من فوق سفح جبل يرسخ في تمزق أحلامه، مع كل تقلب على بطنه يفقد أحد أعضائه، فلا يبقى منه غير رأسٍ كبير مشوَه الوجه، جاحظ العينين، يعتلي كومة أحجار تحف بها أرض مقفرة من كل جانب، يروى لي تلك الأضغاث وهو يسخر من بؤس نومه وصحيانه المرتعد اختناقاً.
يحلف كل مرة ألا يرجع إلى تلك العاهرة التي تمسح دموع فشلها في عنفوان فحولته، إلا أنه يعاود الكرة لدى كل أزمة يلاحقه أساها، يزورها في أي ليلة يشاء، يتحدى هاجس مباغتة جسده مفتول العضل ثورة جديدة، قد تطرحه بعد فترة اختلاج، لا سلطان له عليه، جثةً هامدة فوق دنس فراشها، أو تخلفها مكبَلة الرقبة بين كفين متخشبتين.
يتعاركان، يتشاتمان، بصوت عالٍ لا يكترث لإيقاظ والديها العجوزين، متناوبي الغطيط منذ الساعة التاسعة، تخبط يداها أخيراً على كتفيه بميوعة تشكو فترات إهماله لها.
في اليوم التالي أجده يقف في محل والده، دون أن يفر إلى عزلة جديدة قد تستغرق أياماً، أو عدة أسابيع، فقد تعلّم أصول المواجهة بحسم، متحدياً حنق والده الذي لا ينكر تحرجه من مرضه أمام التجار المتأسفين على شبابه العليل، قد تأخذهم أيضاً الرهبة من حدة انفعاله غير مأمونة العواقب، كما كان يحدث خلال سنوات الدراسة، أو أثناء لعبنا في الشارع. أبصرها تتكرر أمامي من جديد، أول نوبة صرع شهدتها وبقية زملائنا، مباغتة ارتمائه على الأرض، جمود نظراته من نصف غمضٍ نابض، تشابك أصابع كفيه بقوة رجراجة فوق اهتياج صدره، سرعة اهتزاز رأسه، رفس رجليه المتصلبتين، كما لو كان يقاوم قوة خفية تحاول سحله نحو جبٍ عميق.
لم ينسَ أبداً وجع إساءة أيٍ كان، ولو بإيماءة، بمن فيهم إمام الجامع المهاب، أول من حفَظه المعوذتين وبعض السور القصار وأدعية فك الكَرب والشفاء من المرض، كان يوصيه بترديدها كثيراً قبل النوم كلما زاره وأبوه في بيته البسيط، يجلسه على حجره، بالكاد كان يمنع أصابعه الصغيرة من مداعبة لحيته ناصعة البياض، كسِتارة خشنة الملمس، يصل طرفها حتى نهاية عنقه، فيسعل بقوة تغالب ضحكاته الساعية للانطلاق بعيداً عن رهبة المكان الخانق بروائحه الحادة، تسحق أنفاسه وتبعث الدوار في رأسه، روائح يختلط فيها عبق البخور وماء الورد، وربما شيء من عطَن الجدران المشبَعة بالرطوبة، يغمض عينيه ويشتهي النوم، فيظن والده والشيخ منتفخ الأوداج إن ذلك من تأثير رقيته المباركة، مدفوعة الثمن، القادرة على شفاء الكثير من العلل وحل المشاكل.
طلب منه بصوتٍ قاسِ النبرة ووجه يغله العبوس أمام المصلين، قابضاً بيدٍ مُطعَمة بالنمش على كثافة لحيتة القطنية، عدم حضور صلاة الجمعة مستقبلاً، بعد إفاقته من نوبة عاجلته أثناء إلقاء الشيخ الخطبة، بدوره لم يدارِ سخريته اللاذعة من مواعظ الأطفال التي لا يحفظ سواها وهو في طريقه إلى باب المُصَلى، وسط غمغمة متواصلة من الاستغفار، وإن كان ليس على المجنون حرج، وصمة كلما أراد التبرؤ منها ازدادت التصاقاً به.
أعلم إني كنت الصديق الوحيد لديه، رغم تعدد علاقاته بمن يشاركونه ساعات اللهو الصاخبة، يثرثر أمامي بما يشاء، بلا أن ينتظر جواباً، يسخط، يغضب، يصرخ، ويشاجرني لمّا تثيره نظرات شفقة قد تلوح في حدقتيّ سهواً، فيتحفز لضربي، ولكنه يتراجع طالباً العفو بوداعة طفل يخاف البقاء وحيداً.
كنت أخشاه أحياناً، ومشهد الموت يمثل أمامه بكل تفاصيل رقصة روحه الطليقة في عنان السماء، تزغرد فرحة خلاصها الوحشية قبل إخضاعها لأي حساب، فأحاول إقصاء وجهي عن نظراته الغائرة المضَببة بدخان سجائره المتوالية، وقد تسكن يده زجاجة بيرة يترع منها بشراهة، غير مبالٍ بمدى تأثيرها على مرضه، فيما يتلبسني الخوف من نوبةٍ جديدة لا أدري كيف لي التعامل معها.
ظننت إنه سيثور، يقلب الدنيا، يعَري عشيقته أمام الجميع، يسعد بفضيحتها في يوم زفافها، لأنها من ضمن ممتلكاته، ولكني وجدته يجلس في غرفته رائق الأعصاب، يستمع إلى موسيقا هادئة ويقرأ في كتاب شعر استعاره مني، لم آتِ بكلمة، أكتفي بمراقبته حتى أغلق الكتاب في تأفف قبل رميه نحوي على فراشه، كما هي عادته.
كل فترة يأتيني بنهم لأكبر قدر من الثقافة والمعرفة، يأخذ من الكتب ما تثيره عناوينها أو أسماء مؤلفيها، لا ينفك بعد فترة أن يردها لي مكفهراً من كل ذلك الحشو الممل الذي يسطو على وقتي، سطَره أناس لا يفقهون عن الحياة شيئاً، استعرض من خلال لغوهم عضلات دماغي أمامه وأمام كل من أعرف.
ضحك طويلاً من ذلك المغفل، عريس صاحبته، ذكرَني به وباللكمات التي نالها منه في المرحلة الثانوية، آخر عهده بالدراسة ومللها وضيق المواقف التي كان يتعرض لها، سلَّم نفسه بعدها إلى تسلط أبيه وتواصل شتائمه، يقذفها سم لسانه من خلف باب غرفته الموصد، تلعن اليوم الذي أبتلي به، وكذلك البطن التي أنجبته وما عرفت أن تأتي بغيره، رغم تنامي استفادته منه، خاصة عند رغبته بتحصيل الديون بلا أدنى قدر من المماطلة، يرد عليها برعد صراخ يُسمِع الجيران، ثم يترك الدار حتى ينام الطاغية، كما اعتاد تسميته، كي لا يأتي بجريمة تسلبه ما له من حرية.
فاجأ الجميع برحيله بعد جنازة والدته مباشرة، لم يترك وراءه من أثر سوى شائعات طال هذرها، راح الأب المكلوم بماله يتشبث بأذيالها، وقد ملَ من استجوابي عن مكان اختفائه، تصيِّره سكيراً داعراً، يستأجر كل فترة بيت لفتاة سرعان ما يملها ليسيل لعاب شهوته نحو أخرى، ناسكاً في تكية من تكايا الصوفية، مجنوناً يهيم في الشوارع، يتعثر بخطو هذيانه، يتساقط من جيوبه المهترئة بعضٌ من النقود التي استلبها دفعةً واحدة تلك المرة من مخبأ والده السري في الدار، أو تاجراً يجني من الأرباح ما لم يحققها الكهل طيلة حياته، رغم كل ما حظيَ به من دهاء.
كنت بدوري أصدِق تلك الشائعات حيناً وأسخر منها أحياناً، ولكن ما أكاد أتيقن منه إني سألتقيه من جديد.
أين، متى، في أية ظرف، وعلى أية هيئة يكون؟ أسئلة متتابعة، لا تنفك حلقاتها عن التدحرج على عتبات السنين.
...............................................
11 ـ 6 ـ 2009 عَمان
انغرست قدمايّ في مكانهما دقائق عدة قبل ولوجهما فناء الدار، عبرتُ ظلمة الحديقة في ليلة بدر، مستدلاً بنور ضعيف تشف عنه ستائر غرفتها الوردية، لم تواتني جرأة النقر على الشباك المغلق، تسكن أصواتهما حفيف الشجر، ارتجاف أوراقه الخضراء، تنداح مع قطرات مطر مباغتة انعشت الحشيش الناعم، وددت افتراشه لبعض الوقت دون تفكير بأي شيء، لا قلق الوالدة الحزينة، ولا غواية صديقي بعشيقته المطَلقة؛ وكأني في أرضِ خلاء لا صاحب لها.
لم يكن يود لارتعاشه فوق لدانة جسدها الملسوع بسمرة مشاكسة لأعين الرجال التوقف.
يكركر ساخراً: (عسى أن يفارقني للأبد).
ذلك الجني الذي كانت والدته تحدثه قرب رأسه في جوف الليالي، كآخرين تظن إنه من يتسلط على جسده ويشل حراكه، يعربد داخله ويملي عليه تصرفاته، يحيله إلى الجنون المطلق أحياناً، بصراخه في عصبية مخيفة لا تصدر عن صبي في مثل عمره، وبشروده الطويل حتى في المدرسة، مما أدى إلى اشتكاء بعض المدرسين منه.
أيقظتني هزة يده من غفوة أسكنت رأسي إلى جذع شجرة كبيرة، تثاءبت طويلاً وأنا أمسح البلل وقتامة الخجل عن وجهي، رمقني حانقاً على جسارة تلصصي على خلوته القصية عن عالمه من جديد، كمم فمي بكفه وسحبني بسرعة إلى الخارج، يبصق دخان سيجارته في وجه ريحٍ تقبض على بقايا رذاذ منعش.
حتى تلك النشوة الضارية أخذ بريقها يخبو في نفسه، تشبثه الأهوج بجسدها المكتنز بالإثارة، ورغبته الاستنشاق عبر أوردتها، علَّه يحظى بولادة جديدة بين أحضانها، ما عادا سوى خدعة أخرى، كما كرر وصفها، تعلو سخريته منها بقدر ما يرسو في رأسه المضطرب من قنوط لدى هروعه إليها، لا يخفف من شدة عصفه سوى نظرات الشبق السعيدة حد البكاء الملتمعة في عينيها، تبهره شهقاتها، لفظ أنفاسها المهتاجة. نظراته تبحلق باهتزازها بين ذراعيه من علياء سماوات تسبح في ثناياها روحه، متحررة من جسد يداوم التدحرج من فوق سفح جبل يرسخ في تمزق أحلامه، مع كل تقلب على بطنه يفقد أحد أعضائه، فلا يبقى منه غير رأسٍ كبير مشوَه الوجه، جاحظ العينين، يعتلي كومة أحجار تحف بها أرض مقفرة من كل جانب، يروى لي تلك الأضغاث وهو يسخر من بؤس نومه وصحيانه المرتعد اختناقاً.
يحلف كل مرة ألا يرجع إلى تلك العاهرة التي تمسح دموع فشلها في عنفوان فحولته، إلا أنه يعاود الكرة لدى كل أزمة يلاحقه أساها، يزورها في أي ليلة يشاء، يتحدى هاجس مباغتة جسده مفتول العضل ثورة جديدة، قد تطرحه بعد فترة اختلاج، لا سلطان له عليه، جثةً هامدة فوق دنس فراشها، أو تخلفها مكبَلة الرقبة بين كفين متخشبتين.
يتعاركان، يتشاتمان، بصوت عالٍ لا يكترث لإيقاظ والديها العجوزين، متناوبي الغطيط منذ الساعة التاسعة، تخبط يداها أخيراً على كتفيه بميوعة تشكو فترات إهماله لها.
في اليوم التالي أجده يقف في محل والده، دون أن يفر إلى عزلة جديدة قد تستغرق أياماً، أو عدة أسابيع، فقد تعلّم أصول المواجهة بحسم، متحدياً حنق والده الذي لا ينكر تحرجه من مرضه أمام التجار المتأسفين على شبابه العليل، قد تأخذهم أيضاً الرهبة من حدة انفعاله غير مأمونة العواقب، كما كان يحدث خلال سنوات الدراسة، أو أثناء لعبنا في الشارع. أبصرها تتكرر أمامي من جديد، أول نوبة صرع شهدتها وبقية زملائنا، مباغتة ارتمائه على الأرض، جمود نظراته من نصف غمضٍ نابض، تشابك أصابع كفيه بقوة رجراجة فوق اهتياج صدره، سرعة اهتزاز رأسه، رفس رجليه المتصلبتين، كما لو كان يقاوم قوة خفية تحاول سحله نحو جبٍ عميق.
لم ينسَ أبداً وجع إساءة أيٍ كان، ولو بإيماءة، بمن فيهم إمام الجامع المهاب، أول من حفَظه المعوذتين وبعض السور القصار وأدعية فك الكَرب والشفاء من المرض، كان يوصيه بترديدها كثيراً قبل النوم كلما زاره وأبوه في بيته البسيط، يجلسه على حجره، بالكاد كان يمنع أصابعه الصغيرة من مداعبة لحيته ناصعة البياض، كسِتارة خشنة الملمس، يصل طرفها حتى نهاية عنقه، فيسعل بقوة تغالب ضحكاته الساعية للانطلاق بعيداً عن رهبة المكان الخانق بروائحه الحادة، تسحق أنفاسه وتبعث الدوار في رأسه، روائح يختلط فيها عبق البخور وماء الورد، وربما شيء من عطَن الجدران المشبَعة بالرطوبة، يغمض عينيه ويشتهي النوم، فيظن والده والشيخ منتفخ الأوداج إن ذلك من تأثير رقيته المباركة، مدفوعة الثمن، القادرة على شفاء الكثير من العلل وحل المشاكل.
طلب منه بصوتٍ قاسِ النبرة ووجه يغله العبوس أمام المصلين، قابضاً بيدٍ مُطعَمة بالنمش على كثافة لحيتة القطنية، عدم حضور صلاة الجمعة مستقبلاً، بعد إفاقته من نوبة عاجلته أثناء إلقاء الشيخ الخطبة، بدوره لم يدارِ سخريته اللاذعة من مواعظ الأطفال التي لا يحفظ سواها وهو في طريقه إلى باب المُصَلى، وسط غمغمة متواصلة من الاستغفار، وإن كان ليس على المجنون حرج، وصمة كلما أراد التبرؤ منها ازدادت التصاقاً به.
أعلم إني كنت الصديق الوحيد لديه، رغم تعدد علاقاته بمن يشاركونه ساعات اللهو الصاخبة، يثرثر أمامي بما يشاء، بلا أن ينتظر جواباً، يسخط، يغضب، يصرخ، ويشاجرني لمّا تثيره نظرات شفقة قد تلوح في حدقتيّ سهواً، فيتحفز لضربي، ولكنه يتراجع طالباً العفو بوداعة طفل يخاف البقاء وحيداً.
كنت أخشاه أحياناً، ومشهد الموت يمثل أمامه بكل تفاصيل رقصة روحه الطليقة في عنان السماء، تزغرد فرحة خلاصها الوحشية قبل إخضاعها لأي حساب، فأحاول إقصاء وجهي عن نظراته الغائرة المضَببة بدخان سجائره المتوالية، وقد تسكن يده زجاجة بيرة يترع منها بشراهة، غير مبالٍ بمدى تأثيرها على مرضه، فيما يتلبسني الخوف من نوبةٍ جديدة لا أدري كيف لي التعامل معها.
ظننت إنه سيثور، يقلب الدنيا، يعَري عشيقته أمام الجميع، يسعد بفضيحتها في يوم زفافها، لأنها من ضمن ممتلكاته، ولكني وجدته يجلس في غرفته رائق الأعصاب، يستمع إلى موسيقا هادئة ويقرأ في كتاب شعر استعاره مني، لم آتِ بكلمة، أكتفي بمراقبته حتى أغلق الكتاب في تأفف قبل رميه نحوي على فراشه، كما هي عادته.
كل فترة يأتيني بنهم لأكبر قدر من الثقافة والمعرفة، يأخذ من الكتب ما تثيره عناوينها أو أسماء مؤلفيها، لا ينفك بعد فترة أن يردها لي مكفهراً من كل ذلك الحشو الممل الذي يسطو على وقتي، سطَره أناس لا يفقهون عن الحياة شيئاً، استعرض من خلال لغوهم عضلات دماغي أمامه وأمام كل من أعرف.
ضحك طويلاً من ذلك المغفل، عريس صاحبته، ذكرَني به وباللكمات التي نالها منه في المرحلة الثانوية، آخر عهده بالدراسة ومللها وضيق المواقف التي كان يتعرض لها، سلَّم نفسه بعدها إلى تسلط أبيه وتواصل شتائمه، يقذفها سم لسانه من خلف باب غرفته الموصد، تلعن اليوم الذي أبتلي به، وكذلك البطن التي أنجبته وما عرفت أن تأتي بغيره، رغم تنامي استفادته منه، خاصة عند رغبته بتحصيل الديون بلا أدنى قدر من المماطلة، يرد عليها برعد صراخ يُسمِع الجيران، ثم يترك الدار حتى ينام الطاغية، كما اعتاد تسميته، كي لا يأتي بجريمة تسلبه ما له من حرية.
فاجأ الجميع برحيله بعد جنازة والدته مباشرة، لم يترك وراءه من أثر سوى شائعات طال هذرها، راح الأب المكلوم بماله يتشبث بأذيالها، وقد ملَ من استجوابي عن مكان اختفائه، تصيِّره سكيراً داعراً، يستأجر كل فترة بيت لفتاة سرعان ما يملها ليسيل لعاب شهوته نحو أخرى، ناسكاً في تكية من تكايا الصوفية، مجنوناً يهيم في الشوارع، يتعثر بخطو هذيانه، يتساقط من جيوبه المهترئة بعضٌ من النقود التي استلبها دفعةً واحدة تلك المرة من مخبأ والده السري في الدار، أو تاجراً يجني من الأرباح ما لم يحققها الكهل طيلة حياته، رغم كل ما حظيَ به من دهاء.
كنت بدوري أصدِق تلك الشائعات حيناً وأسخر منها أحياناً، ولكن ما أكاد أتيقن منه إني سألتقيه من جديد.
أين، متى، في أية ظرف، وعلى أية هيئة يكون؟ أسئلة متتابعة، لا تنفك حلقاتها عن التدحرج على عتبات السنين.
...............................................
11 ـ 6 ـ 2009 عَمان