أحمد عبدالله إسماعيل - فَرَسَا رِهان..

تجرأتْ عليه وعلى غير انتظار قالت ما لا يتوقع سماعه:
- أريد أن أحتسي القهوة، ممتزجة بالحليب، من صنع يدك!
هزَّ كتفيه، ثم وقف صامتًا كما لو كان فاقدًا الوعيّ، فأردفت:
- تذكُر أنك أعددت لي في الأيام الأولى من الزواج، بكل الحب، فنجانًا من القهوة، وتعلم أني لا أجيد صنعها؛ أتمنى أن أجلس، كأني ملكة متوَّجة، وتقدمها إليَّ وعينك تحتضن قسمات وجهي، وكل كياني، بشغف أفتقده؛ لأن رائحتها، من يومها، لا تفارق أنفي!
وقف مذهولًا يتذكر بدايات الزواج، وقهوة أمّه التي تبدلت بالإسبريسو والموكّا؛ فصرخت:
- هل تسمعني؟!
تحركت عيناها بطريقة غريبة، ظهرت على وجهها علامات الحيرة، قطّبت جبينها وسألت:
- متى أضع ثيابي؟!
لم يكن قادرًا على الكلام؛ فكررت السؤال بصوت أعلى، أخذ يرد بشكل أوتوماتيكي؛ كأنه قد أصبح إنسانًا آليًّا:
- منتصف الليل.
- ومتى أستيقظ؟!
- في الساعة الأولى من الصبح.
- وبمجرد أن أنهض من فراشي، ماذا أفعل؟!
- إعداد الفطور في نشاطٍ وخفةٍ، توصيل الأولاد، على جناح السرعة، إلى مدارسهم، ثم التوجه، على عجل، إلى عملك.
- ومتى أرجع ؟!
- مع بداية ظُلمة الليل، وفي طريقك إلى البيت، تصحبين الأولاد.
بعد الرجوع إلى البيت، كم ساعة أجد هدوءًا نفسيًّا وراحة؟!
على الفور تسرعين في ترتيب جدول مواعيد الدروس الخصوصية، الذي يتزامن مع فرز الملابس المتسخة حتى يحين موعد المذاكرة وحل الواجبات المنزلية؛ لا وقت للراحة.
ألا أستحق أن تنظر بعين الرضا لما أطلبه منك؟! ألا ترى، بعد كل هذه الأعباء، أني أحمل البيت وحدي؟!
وحدك؟! أيّ بيت؟!
هل قصرت يومًا ؟!
يفور اللبن وأنت أمامه ساهمة، وينسج العنكبوت خيطه على أسقف حجرات بيتنا الواهن!
هلا توقفت عن إلقاء كل أمور حياتك على عاتقي؟! أنت ناكر للمعروف.
حاول امتصاص غضبها؛ فقال بلهجة حانية محاطة بالوجع:
- أدعوكم لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، دومًا، خارج البيت، وأعمل بلا كلل، وظيفتي الحكومية، بساعاتها الطويلة في النهار، بينما ينتهي العمل الإضافيّ، الذي يئن مني كل ليلة، قبيل الفجر، دون أدنى شكوى أو تذمر، أنا المقصّر في حق أمي وإخوتي؛ أتلقى كلمات عتاب الأهل بابتسامة، وتوبيخ رؤساء العمل بصبر، خرجتُ للترفيه يومًا مع أصدقاء الدراسة القدامى؛ فصرت مثل باقي الرجال، لا أتحمل المسئولية! أنا كسول في نظرك لأني طلبتُ شربة ماء لآخذ الدواء، دواء الضغط الذي يفور بسببه الدم في رأسي، فكانت تهمتي إياها، هي لا شك تهمة كل زوجة عاملة لزوجها المستغل، هل أعلم قيمة رصيدك البنكي، الذي تكتنزين فيه راتبك الشهريّ منذ زواجنا؟! نظرتِ إليَّ نظرة اتهام حين أخطأ ولدي الصغير فنهرته بقسوة؛ فكانت تهمتي غلظة القلب، رغم مطالبتك المتكررة بضرورة معاقبته! بلغ الأمر حدًّا لا يُحتمل؛ فماذا لو أغلقنا باب المناقشة الغريبة تلك، التي لا أعرف سببها، وأعددتِ الشاي من غير ضيق أو سأم؟!
أجابت بتوجع :
- آه، تكتم كل هذه المنغصات في قلبك؟! أنا كذلك، لن أعيش مكممة الفم؛ أصبح الملل رفيقي، أتقلَّبُ بين سعادة وتعاسة، لن تسير الأمور على نفس الوتيرة يومًا واحدًا بعد الآن!
- ماذا تريدين؟!
- أريد أن أخرج في جو رائق، ولا أرجع إلا بعد أن أكتفي من كل ما حرمتني منه؛ فأرفِّه عن نفسي، أتزين وألبس لباسًا أنيقًا، أذهب إلى المسرح، أو الأوبرا، أو أقرأ لكاتبي المفضل في قهوة الفيشاوي أو على النيل أو تأخذني -ولو لمرة واحدة- إلى شاطئ الإسكندرية، وبالمناسبة، ستصنع قهوتي بنفسك اليوم وفي كل مرة، ولن تريني عرض أكتافك كعادتك!
بعد فترة صمت قصيرة، تذكر ولده الذي على وشك النهوض من نومه؛ فابتسم في وجه زوجته، والتفت إليها، ربت على كتفها ثم قال بصوت دافئ:
- غالٍ والطلب رخيص، أعمل ألذ قهوة لسيدتي الجميلة، بينما أقوم بعمل الشاي.
بصوت هادئ قالت:
- أنت رائع.
صعد صدره وهبط وزفر بصوت مسموع، ثم همس قائلًا:
- كنت رائعة الليلة الماضية، تعلمين أني أحب مظهرك من دون مساحيق التجميل.
ارتمت في حضنه ثم قربت شفتيها من خده وطبعت عليه قبلة دافئة ثم قالت:
- شكرًا على اهتمامك بنا ليل نهار رغم عدم نطقك للكلمة التي لا أرجو سماعها إلا منك.
ورغم يقينها من صدق مشاعره لكنها ابتهجت عند سماعه يعترف :
- أحب قضاء كل وقتي منشغلًا بكم؛ ومن الآن فصاعدًا، أنا أسبقُ منك، في عَدْوٍ طويل، نخوضه معًا كتفًا لكتف، كفرسي رهان، وبالمناسبة لا تخططي لأي شيء في إجازة نصف العام!



* من المجموعة القصصية أقنعة السعادة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى