الدكتور السيد الجميلي - «نفحات إيمانية».. لا تظلموا المرأة

لا تظلموا المرأة

من المشكلات المعقدة الصعبة التي تقف حجر عثرة في طريق المرأة المعاصرة، ولاسيما العربية المسلمة - تلك الخاصة بالزواج، وهو الأمر الذي يؤثر عليها أبلغ التأثير وأقواه مدى الحياة، وهذه المشكلة الشائعة الآن انما هي اجبار الأب ابنته البكر البالغ على الزواج بمن يحبه أبوها ولا ترغبه هي.
إن هذه الصورة المفزعة لهذه القضية، قد أخذت صورة قاتمة واستطار شررها هذه الأيام حتى انه يخشى أن تتحول الى أن تكون هي الأساس الذي يقاس عليه بعد ذلك، وهنا نجلي حقيقة الوضع لبيان الحيف والجور الذي ينزل بالمرأة من جراء أقرب الناس اليها.
لكن المستقصي آراء الأئمة يجد تنازعاً كبيراً قد حدث بصدد هذه المشكلة بين رافض لامتداد قوامة الأب وولايته الى إكراه البكر البالغ على الزواج ممن لا تحب - وبين مؤيد لها وموافق مشايع لهذه الهيمنة فالذين يرفضون لهم مستندهم الشرعي على ذلك، كما أن المعارضين لهم وهم أئمة أيضا لهم تأويلاتهم التي تجعل مقصدهم الأسمى -والذي اتفق عليه الأصوليون- هو تحصيل المنافع ودفع المفاسد.
ثم إن المتأول متى كان إماماً مجتهداً متبوعاً، وكان تأويله سائقاً مقبولاً فانه لابد أن يكون مقولا على مناط معقول يدعم رأيه ويعضده ويكاتفه.
وللامام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- في هذه القضية رأيان أحدهما : يجبر البكر البالغ موافقاً بذلك مذهب الامام مالك والامام الشافعي وهو المختار عند الخرقي وأصحابه.
الثاني عند الامام أحمد : لا يجبرها موافقا بذلك مذهب أبي حنيفة -رضي الله عنه- وغيره من الأئمة وهو اختيار أبي بكر بن عبد العزيز بن جعفر.
لكن ما منطلق مناط الإجبار؟
كذلك فإن العلماء متنازعون مختلفون في مناط الإجبار هل هو الصغر؟ أم البكارة أو المجموع لكلا الأمرين؟
بيد أن القول الفصل الصحيح في ذلك كله هو «الصغر» إذ أن البكر البالغ الرشيد لا يجبرها أحد على النكاح وعمدة القائلين بذلك هو الحديث الوارد في صحيح البخاري «ولا تنكح البكر حتى تستاذن ولا الثيب حتى تستامر» فقيل : إن البكر تستحي، فقال : إذنها صماتها.
والبكر يغلب عليها الحياء، فالخجل يعقد لسانها، ومن ثم فإن صماتها دليل على رضاها، أما الثيب التي سبق لها سلفا أن عاشرت الرجال فإنها لابد ان تصرح برضاها من غير تلويح أو تعريض.
ولئن كان الأب ممنوعاً من التصرف في مال ابنته البالغ الرشيد، فكيف يقال مع هذا إنه له أن يتصرف في بضعها مع كراهتها ورشدها ؟؟!!
والذي عليه أكثر علماء الأمة أن المناط والسبب وعلة الحجر، انما هو الصغر، أما البكارة فليست - في موضع الاجماع - سبباً قوياً يعَول عليه.
ورد أيضا في الحديث الصحيح : الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستاذن في نفسها، واذنها صماتهاء وليس هناك موجب مقبول قوي يدعو للخروج عن هذا الحديث صحيح المتن والاسناد.
أما الذين قالوا بالاجبار من الأئمة فقد انصرفوا عن ظاهر الحديث -مع تسليمهم بصحته- متمسكين بدليل الخطاب - وهم معذورون في ذلك. فقالوا : ان قوله ﷺ : والبكر تستاذن ليس أمرا وجوبيا، ولكنه على الندب أي الاستحباب.
ولو أن أئمتنا تاملوا قليلاً مقارنين بين (تستأذن) وبين (تستأمر) وهو الفرق بين البكر، وبين الثيب فالبكر تستأذن والثيب تستأمر لا نكشف الأمر وبرح الخفاء وبزوال حياء البكورة عند الثيوبة فإن علة الصمات والسكوت تكون قد زالت وطرحت وانحسرت عنها، ومن ثم أصبح لا يوجد مقتضى للصعات، بل أصبح النطق لازماً بل واجباً.
---------------------------- [][][][][][]
والمتأمل أحوال الحياة الحاضرة واقتحام المرأة ميدان العمل، ونزولها إلى الشارع واختلاطها المباشر بالرجال في مختلف المرافق والشؤون والأعمال مع تقارب الألفاظ والألحاظ كل هذه الأحوال، والمناظر الشائهة كثيراً والتي لم تكن موجودة في الأيام الخوالي والعصور المنصرمة - تجعلنا نضع في الاعتبار قوة مراسي الحب والهوى والصبابة، وضعف المقاومة وقلة الحيلة والتسليم الميسور في المقابل - من ثم فإن هذا يضعنا تحت أمور ثلاثة :
الأول : التماس العذر لأئمتنا الفضلاء لاختلاف ظروفهم عن ظروفنا فلم يكن الاختلاط والجامعات أيامهم مثلما هي في أيامنا هذه.
الثاني : لابد من جعل الاختيار مطلقاً للبنت تقديراً للظروف المتغيرة التي لم تكن في حسبان ولا تقدير، بل لو ان مشايخنا الفضلاء -رضوان الله عليهم أجمعين- عاشوا عصرنا هذا لرجعوا في فتواهم وتنازلوا عن اصرارهم على الاجبار فلم يكن لأهل العلم أن يستنكفوا من الرجوع الى الحق لأنه قديم.
الثالث : أصبح اعتداد الفتاة بفكرها وثقافتها أمراً مثيراً للدهشة، فقد تتخرج فتاة في الجامعة وتحصل على أعلى الدرجات لكنها ترى أباها رجلاً أمياً يجب ألا يستشار وهي -أي الفتاة- ترى أن في ثقافتها وعلمها وشهادتها ما يكفي لأن يكون حرزاً وصونا لها من التظني والترجم.
ثم أن هناك من المشكلات الكبرى التي تؤثر على المرأة في مستقبلها وحياتها الأسرية العائلية الزوجية هي تلك الرعاية الاشرافية، والمتابعة الجادة من الأبوين في فترة المراهقة وهي السن الحرجة التي تتفتح فيها زهرة العمر على عالم الوجود.
إن الفتاة المراهقة تواجه المجتمع والحياة برصيد قليل محدود من التجارب غير الجادة، ومن ثم فلابد من تفهيم المراهقات وتلقينهن ونصحهن وتوعيتهن والتأكيد عليهن بضرورة مصارحة الأبوين بكل صغيرة وكبيرة تواجههن سواء في الدراسة أو في العمل أو غير ذلك.
كذلك فان الابوين هما أكثر الناس حرصاً على الابناء، ومن ثم فلابد أن تؤخذ نصيحتهما في الاعتبار، فإن ما حدث وما يحدث وما سيحدث من شرور محتومة لا تكون الا بعدم الانصياع لنصح الأب والأم أو كليهما.
ومهما كانت الفتاة على درجة من الذكاء والفطنة، إلا أن هناك من الخادعين والمرجفين والمضللين من الشباب من يستطيع أن يسيطر بأوهامه على عقل الفتاة البريء، فلا تستطيع مقاومة الإغراءات والأحلام الناعسة غير المحدودة، وكثيراً ما يلوذ العاجزون في عالم الواقع والمغلولون الفاشلون في عالم الحياة - يلوذون الى عالم الخيال والأوهام والأمنيات وهو أيضا عالم لذيذ جميل فيه ما فيه من تحقيق المستحيلات وبلوغ الأوطار في أحلام اليقظة.
لا مندوحة إذن ولا مصرف ولا تحويل من متابعة الأبوين ومصارحة الأبناء بكل شيء والتصدي لحلول المشكلات النفسية والعاطفية الخاصة بهما بعناية، ودقة.
لا وكف ولا ضير أن يستعين الابوان بالطب النفسي في بعض الحالات المعقدة التي لا تستجيب للمعالجة العادية.
---------------------------- [][][][][][]
ان التأني والمشاورة وتقديم العقل على العاطفة في كثير من الأحيان يكون نافيا للكثير من مشكلات المستقبل لذلك فإننا نحذر من العجلة، في اتخاذ قرارات الزواج سواء من الفتاة أو من الأبوين في كل الأحوال ومتباين الظروف ترى المرأة أو الفتاة مجنية عليها، وقد تفرض عليها الظروف أن تحصد ما زرعه الآخرون، وتتحمل أوزار غيرها.
وهي في حقيقة الأمر لا تثريب عليها ولا مشاحة ولا وكيفة منها انما الجاني عليها أقرب الناس منها وأحراهم جميعاً، وأولاهم وأوجبهم بالاشفاق والحدب عليها، فأرجوكم بحق الله والحق أن لا تظلموا المرأة.
والله نسأل أن يوفقنا جميعاً إلى الرشد والصواب وفصل الخطاب.

اللهم تقبل من أبىي صلاته ، وصيامه لك ، وسائر طاعاته ، وصالح أعماله ، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة ، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام ، واجعله من الفائزين ، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك ﷺ .. يا رب العالمين
🤲

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى