خالد جهاد - الجسد يصارع الروح

المقال رقم (٢٦) ضمن سلسلة مقالات (القبح والجمال)..

من أكبر الأخطاء التي ارتكبناها بقصد أو بدون قصد على مدار العقود الماضية هو اعتقادنا بأننا (وأقصد هنا المنطقة العربية بمختلف الثقافات على امتداد بلادنا) وحدنا المستهدفون والمتضررون من كل ما يجري حول العالم، فكانت نظرتنا حتى في ذروة الألم تحمل بعض الأنانية والنرجسية لأن العديد من شعوب الأرض تألمت أيضاً ولكننا لم نعتد توسيع دائرة اهتماماتنا أو رؤيتنا لتشمل شعوباً أخرى إلاّ من خلال نظرة تحكمها عقدة المغلوب الكامنة في تقليد الغالب والتي يمكننا القول بأنها نوع من (التوحد مع الجلاد)، فلا نرى على سبيل المثال في شعوب افريقيا أو جنوب شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية وغيرهم نظيراً لنا ولا نعرف شيئاً عن حياتهم ومعاناتهم وبالمقابل نعتقد أن احتضان أرضنا للحضارات والثقافات والأديان سبب كافٍ لإهتمام الغير بنا والتضامن مع قضايانا بشكلٍ غير مشروط، وهو ما يحدث في كثيرٍ من الأحيان ولكننا لم نره لعقود ولم نقدره أو نستفد منه أو نشعر حتى بالإمتنان لأشخاصٍ مثلنا يعيشون في مختلف أنحاء العالم ولديهم ما يكفيهم من الهموم والمشكلات ونقص أساسيات الحياة لكنهم تضامنوا معنا مراراً وعانوا مثلنا من كافة تبعات الظروف والمتغيرات العالمية..

فقد اعتاد أغلبنا على النظر إلى ثقافتنا على أنها محافظة في مقابل ثقافة شديدة التحرر في الغرب وهذا غير صحيح، حيث أن الغرب نفسه تعرض لتغيير متعمد في ثقافة شعوبه وساعد في ذلك الإعلام الذي صور لنا المواطن الغربي بشكل(رسم له قبل أن يعيشه واقعاً)، ولأن كل مجتمع له خصوصيته توجب أن يتم تغييرها وتغييبها لنصل إلى ما نعيشه اليوم في شكل لا يكاد يشبه أحداً تقريباً، ويمكن للبعض الرجوع إلى علم الإجتماع والكثير من الكتب والمراجع التي وثقت حياة العديد من المجتمعات حتى يومنا هذا بغرض المقارنة، كما يمكنه أيضاً الرجوع إلى أرشيف قناة البي بي سي لأخذ فكرة عن طبيعة المجتمع البريطاني في مطلع القرن الماضي على سبيل المثال..

فقد كان كل مجتمع يعيش ثقافته المحلية بشكلٍ عادي جداً والتي كانت أيضاً تتسم بالمحافظة في كثيرٍ من الجوانب لكن العقلية العربية اعتقدت ولا زالت تعتقد أحياناً أن مفاهيم المحافظة والأخلاق هي ذاتها في مختلف أنحاء العالم، وهو أمر غير صحيح كون هناك ما يخضع لعادات وتقاليد وثقافة بلد بعينه ولا يتم في بلد آخر كالثقافة الهندية والصينية وهما ثقافتان محافظتان لكن بأسلوب مختلف تماماً عن مفهومنا، حيث قد نلتقي معهم في العديد من النقاط لكننا نختلف عنهم من ناحية المعيشة والملبس ونمط الحياة والعلاقات الشخصية والإجتماعية التي لا تزال محافظة لكن بشكل مختلف عنا جذرياً..

لذا وفي عودة لإستكمال سلسلة مقالات (القبح والجمال) التي قامت على التساؤل عن أسباب غياب الجمال عن حياتنا وحياة أبنائنا والأجيال الصاعدة نعود تماماً من حيث توقفنا لكن بمنظور يشمل قدر الإمكان الإنسان ولا يخص مجتمعاتنا فقط بالإهتمام، وكان القارىء يتسائل أحياناً عن سبب اختيار عمل فني أو اسم أو حدث بعينه وكانت الإجابة (ولا زالت) هي التأثير الذي أحدثه وصنع فارقاً على شتى الأصعدة وأصبح ما قبله ليس كما بعده، وبالعودة إلى السنوات الأولى من الألفية الحالية وفي المرحلة التي تزامنت مع احتلال العراق تحدثنا عن الإعلام والفن والأدب ونعود لنكمل الصورة التي بدأناها من خلال عالم الموسيقى والفيديو كليب والتي لم تغير مجتمعاتنا فقط بل غيرت العالم بأسره فيما كنا نغرق في أفكار نمطية محدودة وقاصرة واستغلت المرأة بشكلٍ رئيسي بما أننا حالياً في شهر المرأة..

ولنكون واقعيين فإن الأعمال التي ينطبق عليها مفهوم (العالمية) غالباً هي ما تصل عبر الولايات المتحدة الأمريكية والتي تضم كبلد أيضاً الكثير من الفئات التي تعيش ثقافتها الخاصة والتي تمتلك مبادئها وقوانينها الخاصة بعيداً عن الصورة (المصنعة) عبر الإعلام والتي لا تمثل سوى شريحة محدودة جداً، لذلك وحتى وقتٍ قريب كان الكثير من الأعمال التي يتم تمريرها بإسم الفن والثقافة في الغرب محل استهجان، وكان تقديم نماذج صادمة من وقت لآخر متعمداً لكسر المحظورات والمحرمات التي لم يستطع الإعلام كسرها، وكانت الفيديو كليبات والأغنيات والعروض المباشرة لها إحدى تلك الطرق، وبالعودة إلى الفترة التي سبقت احتلال العراق كان العالم بأكمله يغلي رفضاً لهذه الحرب، وشهدت هوليوود عبر منابرها وحفلاتها الضخمة لتوزيع الجوائز تنافساً في إعلان مواقف مختلف الوجوه المعروفة منها، فشهدت مواقف متباينة بشكلٍ حاد وهجوماً متبادلاً بينها على المسرح والتي كان بعضها حقيقياً والبعض الآخر شكلياً، حيث كان هناك وجوه داعمة للكيان الصهيوني في نفس الوقت الذي كانت ترفض فيه الحرب على العراق، وفي تلك الفترة وتحديداً عام ٢٠٠٢ شهدت الموسيقى العالمية صدور عمل مختلف أحدث هزة في عالمي الألبومات الغنائية والأغنيات المصورة، والذي هاجمته حتى الصحافة الأمريكية بضراوة وهو ألبوم (Stripped) الذي بدأ الترويج له بدءاً من أغنية (Dirty) للمغنية كرستينا أغيليرا والتي جاءت بعد سلسلة من أغنيات البوب التي استقطبت المراهقين حول العالم وصنعت لها شعبية كبيرة بينهم، فوصف هذا العمل سواءاً كان الفيديو كليب أو بقية أغنيات الألبوم بالسقوط والفسق والفجور والعهر آنذاك بعد ترويجها للثقافة الإباحية وممارسة الجنس بشكل جماعي واستخدام لغة بذيئة بدءاً من عنوان الألبوم المرتبط بالتعري وكلمات الأغنيات مروراً بالأجواء والعمل ككل والذي قدمت معه ومن بعده سلسلة من الأعمال التي تندرج تحت نفس التصنيف وتنتهج ذات الخط، والتي جاءت لتكسر الحاجز النفسي بين المشاهد وبين الجنس ليصبح العهر من بعده موضة رائجة عبر الكثير من الأعمال الفنية حول العالم بعد أن كان هناك نوع من المواربة بين الكلمات أو الأداء أو الفيديو منذ الستينات، وليس بهذا الشكل المباشر الذي خلق مكاناً واضحاً للإباحية والسوقية والابتذال والإتجار بالجسد ومهد الطريق لإستساغتها وتناقل أفكارها التي ساهمت في تغيير المجتمعات حول العالم، وتبعها الكثير من الأسماء في الغرب والذين كانوا بطبيعة الحال القدوة التي يقتدي بها الكثيرون من الوجوه المعروفة التي لن نطلق عليها اسم الفن أو الفنانين وليجد من يهتم بما يقدمونه لهم اسماً..

وهو ما ساهم في تغييب الكثير من الأعمال الفنية الحقيقية لإفساح المجال لظهور هذه النوعية وتقديمها للمتلقي على أنها فن وانفتاح وتطور وحرية فيما هي تسليع للجسد وإفساد للذوق وتغييب للوعي وخلط للمفاهيم والأوراق وتسمية للأشياء بغير أسمائها وتحييد للأولويات الإنسانية وإلهاء عن كل ما هو ضروري وملح من أحداث وقضايا..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى