د. علي زين العابدين الحسيني - حين تغيب الحياة! رثاء أمي

كيف تطيق نفسي أن ينشغل الناس بالتهاني ولا أبعث لكِ أسفي على فراقك ولو بلسان القلم؟!
كيف تطاوعني أذني أن أسمع عبارات الثناء ممن هم بجانبي عن أمهاتهم، وأمسك أنا عن مدح من بسببها غرق في بحر النعم والفضل؟!
وماتت الأم؛ فزارتني الأحزان والآلام! إنّ لموتها غصة في قلبي لا تساغ!
ما كنتُ أدري أنّ القدر يخبأ لها قدراً، ويعدّ لها عن الدنيا سفراً.
هكذا تغيب عنّا الحقائق في بعض لحظات العمر، لكن تعود لنتفاجأ بها.
ومَن كانت مثلها في أخلاقها ونسبها وعملها كان خليقاً بمن يحزن عليها ويرثيها طيلة عمره.
وأعلن الموت عن نفسه، ثم ماذا بعد الموت؟
لقد كانت القوة المتجددة التي تشعّ في نفوسنا كلّ معالم الإصلاح والسمو الأخلاقي.
أيتها الأم الرؤوم: مَن لنا بقلبٍ مثل قلبك؟ وروحٍ ترفرف فوق رؤوسنا مثل روحك؟
ونفسٍ تضم جوانحها علينا مثل نفسك؟
حقاً لقد رمى فراقكِ صدري بسهامٍ لا تداوى جراحها.
لقد فقدنا بفقدكِ الحياة كلّها، فأظلمت نفوسنا، وتبدلت أحوالنا، وكفت عقولنا عن التفكير، تملكنا الأسى، وتجاذبتنا الهواجس.
لم أكن من قبل أعرف للحزن حسرة، وأحسب للفراق حساباً!
وأسقم الهمّ أجسادنا يا أمي!
يبدو رمضان مع قربه بوجود الأم زمناً حافلًا بالمكرمات مليئاً بالنفحات، لكنّه بدونها زمنٌ مستقطع من العمر، فيه من الشوق والحنين لها ما فيه، ومن الندم ولوعة القلب ما فيه.
الأمّ هي الحياة مع الحياة.
ما أقسى الحياة حين تغيب الحياة!
لم يمرّ عليّ يوم أنكى لفؤادي وأهم لنفسي من يوم وفاة والدتي وأنا بعيدٌ عنها في غربةٍ قاسية حول أناسٍ لا يعرفون للصحبة حقوقها!
لماذا تنقطع أجواء السعادة؟
جاءت عليّ أيام أسمع فيها ولا أعي، وأنظر ولا أرى، وأتوهم ولا أدرك.
وإنّ عيشَ لحظة وفاتها وأنتَ في بعدٍ عنها لآلم للنفس، وأوجع للقلب، وأدعى إلى الحسرة من عيشها وأنتَ بجوارها.
أظلمت في عينيّ الحياة حسرة، وملأ قلبي الوله فكرة!
إنّ الأحزان ممتدة.
عندي الهم وليس عندي الأمل!
لقد كنتِ يا أمي البدر الذي ينير لنا الحياة، والضوء الذي يهدي السائرين في الطريق!
أنا ابنك "عليّ" لكن لست بما في نفس "عليّ" التي عرفتيها، صرتُ أنتظر في الليل صورة مواقفك، أهرب من كلّ شيء في هذه الحياة إلا منكِ.
يخيل إليّ أنّ أنيني يصل إليكِ!
صعدت النفحات للأفق، غاب عنا الخير، واختفى المدد، تغيرت معنى الليالي، وتبدلت شكل الأيام.
حسب ما لاقيت من حب عارفيك لكِ دليلًا على صدق أفعالك، فكلّ ما حولي ناطقٌ بفضلك.
لم تقع عيني على فضيلة قيلت في الأمهات إلا وهي متحققة فيها، ولا تظنّ فيما قلتُ مبالغة في الحديث، فكلّ من رآها يؤكد أنّها ليس لها مثيل في نساء جيلها.
لَشدّ ما لهجت ألسن نساء الحي باسمك وأخلاقك! ولطالما تحدث الناس عن نسبك الشريف ومنهجك المتوارث، وعن أسرتك وكرمهم وصلاحهم!
كم كنتِ تتمنين أن تحملي ولدي بين يديك، لم يقدر الله لي ولك ذلك، لكن أتت المنحة الربانية بعد مماتك بسنوات، فتفضل المولى الكريم عليّ بولدي السيد "محمد زين العابدين" هو بضعة منك، وبركة من بركاتك!
وأشدُّ عذاب الحياةِ ذكرى عزيزة لا يستطيع المرء إعادتها، ولا يقوى على تجاوزها، ولا يمكنه وصفها، فهذا الشقاء الممتدّ، والألم المتواصل.
لا أحد يقدر عمق الضيق بين الجوانح إلا المبتلى.
أنا لا أحزن في فقدك بالحزن، ولكن بآلام ومواجع بعضها الحزن.
آهٍ لو استطعتُ أن أرى أمي في أحلامي باستمرار!
ويلٌ للعاقين المحرومين من جنة الدنيا! ويا ليت مَن يدري هذا!
لو بلوت سرائرهم لعلمت أنّهم يعيشون بلا قلوبٍ.
كفى بنفثات يراعي أفضل دواء لعلاج جرح الفقد، وأسرع وسيلة لإبعاد يأس الفؤاد.
ليت الأم: لا تحزن، ولا تشيب، ولا تمرض، ولا تموت، وآه من الأخيرة فبموتها:
تقلّ البركة، وينعدم العطاء، وينقطع الدعاء، ويتلاشى الحب الصافي، وتتبلد المشاعر والأحاسيس، ويزداد البعد، وتنطفئ مصابيح النور، وتقل الروابط الأسرية، وينعزل الإخوة، ويندر الاجتماع، وينفرد الجميع بخصوصيته.
وأدهى من ذلك تأثر والدك وتغير أحواله، فلا تدري أتبكي على حاله أم تعزي نفسك؟ إذا ماتت من تجتمع القلوب والأبدان حولها، فأيّ مصاب وهم يصيبك حين يقع هذا الأمر الجلل، وإن كأس الهم يصيبك منذ وفاتها. وأي هم مثل هم من ماتت أمه؟
يا بُعد ما بين الحياة التي كنا فيها معك وبين الحياة التي نحياها بدونك!
هي معنى حياتنا، وروح سعادتنا.
لها في قلبي جميل الأثر، وفي نفسي عظيم التَّجِلة.
أشكو إلى روحها الشريفة زماناً سلب منا الأنس، ونزع عنا السكينة.
تتابع علينا الحسرات إثر الحسرات، وليس لنا بعد الرضا إلا الذكريات نداوي بها قلوبنا!
لا تمرّ لحظة أو مرحلة من مراحل عمري دون أن أمعن نظري في آثار فضلها عليّ، فأُحدّث حينئذٍ روحك الكريمة بكلّ تجلة، وأبعث لها تحياتي المصحوبة بكلّ اعتراف وإقرار لها بالمعروف والإحسان، وأعدها وعد من لا يخلف بأنني مدين لها بكل جميل، وها أنا ذا حريصٌ على تقديم كلّ عمل صالح أعمله؛ قربة لها وصدقة عليها.
ما زلت أدفع النفس فيما تأتيها من شكوى أحزانها بسبب فقدي لأمي، وإن كان في الأحزان شفاءٌ، فهي وسيلة يتعلل بها الشخص ويتشبث بها من أجل مواصلة السير في الطريق.
حقاً كلما تقدمت في العمر يزداد شعوري بحسنات والدتي عليّ، وإن لم أنشط في المجاهرة بفضلها ذلك أنّ حبي لها أعمق من أن يسطر في صفحات كتابٍ.
إنّ التذكارات الرائعة التي تحدثني بأفضالكِ هي مطبوعة في القلب، ولا تزال تولد فيه مشاعر الحب والحنين للأيام الماضية.
تنصح برفقٍ، وتعلم بتواضع، وتتكلم في وقار، وتنصت بحبٍ، وتكرم بسخاءٍ، وتشارك بعطاءٍ.
لقد أورثتني النفور من عمل البطالين، والعكوف على منهج الأجداد خلقاً وعلماً.
إنّها والله قد جعلت الصالحين هم القدوة في النفس.
ليس لإقبال الصغير والكبير على الحديث معها والأخذ بنصائحها من سرٍ إلا صدق الإقبال على الله.
كنت أظن أني أحبّ الإنجاز فإذا بي أحبكِ أنتِ لأنّك المعالي كلها.
إنّ ذكراي منك تلك الكلمات المملوءة بالحكمة والمعرفة، التي لن تصل إليها يد الفناء أبداً. إنّها ماتت موتاً فيه حياةٌ.
ما أشدّ تعسي إذا غابت عني نصائحك وعباراتك!
في ذكراك السنوية أجدد لك الوفاء وصدق الدعاء، كيف تمر عليّ ذكراك ولا آتيك فيها ببرهان عن شكري لحسناتك المتواصلة؟
مهما بالغتُ في الثناء عليكِ يا أمي لا أفيك حقك من الشكر، ولا أقدر على القيام بأعباء جميلك.
أشتاق إلى أمسي أكثر من حاضري، فما من وقتٍ يمرّ إلا وأحن إلى أيامك.
إنّني حين أتذكرك أفقد الأسى، وحين أنساك أجدد الألم!
ما لحروفي تتباطأ كأنّما تبكي من وقع الفقد.
آهٍ لو صرتُ عند قبرك!
لم أجد من قلبي بسطة، لا رغبة في عدم الحديث، وإنّما هكذا يُحدث تجدد ذكرى وفاتك في العقل خللًا، وفي البنان عزوفاً.
حسبكَ يا صديقي ما ذكرتُ من الحرمان! لم ينقض الحزن بعد!
ولندع المراثي تتوارد وتتوالى بعد ذلك!


د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى