كثيرًا ما نقرأ ترجماتٍ ملتبسةً مشوشة، تُغرِق القاريءَ بفائضٍ لفظي من دون أن تفيد معنى واضحًا. الترجمات الحرفية أسوأ الترجمات، أحيانًا نقرأ نصًا منقولًا من لغة أخرى من دون أن يلوح لنا أيُّ ضوء في كلماته، لا نرى إلا كلمات مظلمة لا نتحسّس فيها معنى مفيدًا. أن تتملك معاني الكلمات شيء، وأن تنقلها للغتك كودائع مغترِبة عنها وعن فضائها الدلالي ورؤيتها للعالم شيء آخر. تملّك المعنى يعني توطينَه في فضاء لا يغترب فيه، وتحويلَه إلى عنصرٍ حيّ في نسيج ثقافة موازية، بعد اكتشافِ ما تنطق فيه اللغتان، والإصغاءِ للصوت العميق فيهما معًا. التملّك غير تلقي الكلمات كما هي بمعناها الحرفي، عدم تملّكها يعني استنباتها حرفيًا في فضاءٍ دلالي لا يمدّها بشيء من نهر الحياة. تملّك معاني الكلمات يعني أن تتكلم كلُّ واحدة من اللغتين إلى الأخرى بما هو خارج دلالة كلماتهما الحرفية، ويتحقّق ذلك باكتشاف منطق الفهم المشترّك للغتين معًا. المترجم المحترف حين يعمل على تملّك معاني الكلمات يتعاطى مع اللغة وكأنها مادةٌ خام يغرسها في فضاءٍ دلالي لا تجد ذاتَها مغترِبة فيه، ولا تتنكر له اللغةُ المنقولة إليها. تصير اللغة المُترجَم منها عنصرًا فاعلًا في اللغة المُترجَم إليها، تغذّي فضاءها الدلالي وتتغذى منه. عندما تهاجر الكلمة من لغتها الأم إلى لغة أخرى تلتقي بمعناها العميق، الذي تظلّ تبحث عنه في الطبقات القصية للغة الراحلة إليها، وتظلّ تسعى لذلك في أية لغة تقيم فيها مجدّدًا. الترجمة كما تعمل على تجديدِ حياة اللغة وإثراءِ معجمها بتوالد ونحت كلمات ومصطلحات جديدة، وإثراءِ لغة المترجم واغناء رصيد معجمه، واتساعِ فضاء وعيه اللغوي، تعمل أيضًا على تجديدِ حياة اللغة والأدب والثقافة وتغذيتِها بما يتيح لها أن تنفتح على آفاق رحبة للمعنى. المترجم الحاذق راءٍ تمكّنه استبصاراتُه من أن ينصت لصوتٍ لا يسمعه القارئُ المتعجّل للنصوص، يقظة الرائي تدلّه على الصوت الواحد في لغات متعدّدة. فرادة الرائي بقدرته على التذوق كمتصوف حالة شهود.
تنبه الجاحظ في وقت مبكر إلى عدّة المترجم وما ينبغي أن يتسلح به من أدوات، وهو يعيد إنتاجَ المعاني بلغته، وكيف يجعل المترجم لغةً تتحدث إلى لغةٍ أخرى وتتفاعل معها بالأخذ والعطاء، بقوله: "ولابد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات. وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه".
الترجمة مرآةُ ذات المترجم وثقافتُه، ليست هناك ترجمةٌ مبرأة من بصمة الذات.كلُّ ترجمة محترفة قراءة للنصّ، ترجمات النصّ هي محصلة قراءات المترجمين له، في كلّ ترجمة صوتٌ مميز لا يكرّر غيرَه، مثلما ننصت لصوتٍ موحد يبوح بما تستبطنه الكلماتُ، وما هو أقصى مما تكشّف للوهلة الأولى من دلالاتها. الترجمة ضربٌ من التأليف يتطلب استعداداتٍ تناظر ما تتطلبه عمليةُ كتابة النصوص الجادة، الترجمة المحترفة تغوص لتكتشف القاعَ التي تقف عليها مداليلُ الكلمات. الترجمة نهر حيوي لتغذية الثقافات وتلاقحها وتوالدها واتساع آفاق رؤيتها للعالم، وإثراء منابع العيش المشترَك فيها، وانفتاح مفاهيمها وقيمها الكلية بعضها على بعض، وتواصلها من أجل بناء فضاءٍ يستوعبها في إطار اختلافها وتنوعها. الترجمه أعمق روافد إيقاظ المشتركات الكونية بين الأفراد والمجتمعات، وأجمل مرآة تتجلى فيها القيمُ الكلية في الثقافات والحضارات والأديان.
الترجمةُ أشدُّ وطأةً من التأليف. أنا مؤلفٌ ومترِجم، على الرغم من أن الكتابةَ تتعبني، لكن الترجمةَ تنهكني بل كانت تعذّبني أحيانًا، لذلك هجرتها منذ سنين طويلة. الترجمةُ ضربٌ من امتحان الضمير الأخلاقي للمترجم، إن كان كلامُ المؤلف ليس منطقيًا، أو لا يتفق مع معتقد المترجم وثقافته، يضع المترجمَ في مواجهة الكاتب، وأمام امتحان ضميره الأخلاقي.كنت أتحيّر مما أراه خطأ لدى الكاتب، وأتردّد في ترجمةِ مفاهيمَ لا أرى صوابَها، وعباراتٍ لا اقتنع بمضمونها، أنزعج وأتردّد في نقلها للقارئ العربي، وأخيرًا أترجمها مهما كانت، لشعوري بأن استبعادَها خيانةٌ لمؤلف أنا مُستأمَن على نصوصه عندما تطوعت بنقلها إلى العربية، وهي خيانةٌ لقارئٍ يتطلع لقراءة هذه الترجمة بلا تصرف بحذف واضافة أي شيء من أصلها.
بعد صدور: "الدين والظمأ الأنطولوجي" سنة 2016 أسعدني انتشارُه الواسع وتكرّرُ طبعاته، وتواصلُ الكتابة عنه حتى اليوم. قبل سنوات راسلني د. عثمان ياسين بعد أن قرأ الكتاب، وبعث بمقالات من كتاباتي ترجمها ونشرها مشكورًا في الصحافة الكردية. أعرب الأخ عثمان عن قناعته بضرورة حضور كتاب: "الدين والظمأ الأنطولوجي"، ومؤلفاتي الأخرى في الحياة الدينية والثقافية للمجتمع الكردي، واقترح ترجمتَه للغة أهله. الكردية واحدة من لغات الإنسان المعروفة، وهي كما الشعب الناطق بها طالها كثيرٌ من التجاهل والإقصاء والظلم والتعسف، إذ حُرِم الإنسان الكردي من تعلّم لغته في المدارس مدة طويلة، وتعرضتْ آدابُه وفنونُه ومنتجاتُه الثقافية للإهمال والنسيان، على الرغم من عراقة شيءٍ من نصوص هذه الثقافة وتميّز آدابها وفنونها. في كردستان اليوم عدة جامعات حديثة، ويقظة ثقافية وأدبية وفنية تعد بحياة جديدة للغة وثقافة وآداب وفنون لبثت منفية عن موطنها وأهلها زمنًا طويلًا. أنفق الأخ الدكتور عثمان ياسين شيئًا من وقته الضيق، حاول وهو في زحمة أعماله في القضاء والتعليم والتأليف أن يترجم الكتابَ للكردية، وتعاون معه الأخُ الأستاذ عبد الله أحمد المعروف بـ "سرمد"، فأنجزا معًا مشكورَين هذه الترجمة، وهي تصدر بعد صدور الطبعة الجديدة عن دار الرافدين ببيروت من هذا الكتاب. يحاول الأخوان عثمان وسرمد ترجمةَ أعمالي الأخرى، آمل أن تصدر ترجمةُ الكتاب الثاني منها العام القادم، علمًا أن الكتاب التالي المقرّر ترجمته للكردية "مقدمة في علم الكلام الجديد" معتمَد كمقرّر دراسي في أقسام الفلسفة وعلوم الدين في جامعات متعدّدة خارج وداخل العراق.
تقديم الترجمة الكردية لكتاب: "الدين والظمأ الأنطولوجي".
أ. د. عبد الجبار الرفاعي
تنبه الجاحظ في وقت مبكر إلى عدّة المترجم وما ينبغي أن يتسلح به من أدوات، وهو يعيد إنتاجَ المعاني بلغته، وكيف يجعل المترجم لغةً تتحدث إلى لغةٍ أخرى وتتفاعل معها بالأخذ والعطاء، بقوله: "ولابد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات. وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه".
الترجمة مرآةُ ذات المترجم وثقافتُه، ليست هناك ترجمةٌ مبرأة من بصمة الذات.كلُّ ترجمة محترفة قراءة للنصّ، ترجمات النصّ هي محصلة قراءات المترجمين له، في كلّ ترجمة صوتٌ مميز لا يكرّر غيرَه، مثلما ننصت لصوتٍ موحد يبوح بما تستبطنه الكلماتُ، وما هو أقصى مما تكشّف للوهلة الأولى من دلالاتها. الترجمة ضربٌ من التأليف يتطلب استعداداتٍ تناظر ما تتطلبه عمليةُ كتابة النصوص الجادة، الترجمة المحترفة تغوص لتكتشف القاعَ التي تقف عليها مداليلُ الكلمات. الترجمة نهر حيوي لتغذية الثقافات وتلاقحها وتوالدها واتساع آفاق رؤيتها للعالم، وإثراء منابع العيش المشترَك فيها، وانفتاح مفاهيمها وقيمها الكلية بعضها على بعض، وتواصلها من أجل بناء فضاءٍ يستوعبها في إطار اختلافها وتنوعها. الترجمه أعمق روافد إيقاظ المشتركات الكونية بين الأفراد والمجتمعات، وأجمل مرآة تتجلى فيها القيمُ الكلية في الثقافات والحضارات والأديان.
الترجمةُ أشدُّ وطأةً من التأليف. أنا مؤلفٌ ومترِجم، على الرغم من أن الكتابةَ تتعبني، لكن الترجمةَ تنهكني بل كانت تعذّبني أحيانًا، لذلك هجرتها منذ سنين طويلة. الترجمةُ ضربٌ من امتحان الضمير الأخلاقي للمترجم، إن كان كلامُ المؤلف ليس منطقيًا، أو لا يتفق مع معتقد المترجم وثقافته، يضع المترجمَ في مواجهة الكاتب، وأمام امتحان ضميره الأخلاقي.كنت أتحيّر مما أراه خطأ لدى الكاتب، وأتردّد في ترجمةِ مفاهيمَ لا أرى صوابَها، وعباراتٍ لا اقتنع بمضمونها، أنزعج وأتردّد في نقلها للقارئ العربي، وأخيرًا أترجمها مهما كانت، لشعوري بأن استبعادَها خيانةٌ لمؤلف أنا مُستأمَن على نصوصه عندما تطوعت بنقلها إلى العربية، وهي خيانةٌ لقارئٍ يتطلع لقراءة هذه الترجمة بلا تصرف بحذف واضافة أي شيء من أصلها.
بعد صدور: "الدين والظمأ الأنطولوجي" سنة 2016 أسعدني انتشارُه الواسع وتكرّرُ طبعاته، وتواصلُ الكتابة عنه حتى اليوم. قبل سنوات راسلني د. عثمان ياسين بعد أن قرأ الكتاب، وبعث بمقالات من كتاباتي ترجمها ونشرها مشكورًا في الصحافة الكردية. أعرب الأخ عثمان عن قناعته بضرورة حضور كتاب: "الدين والظمأ الأنطولوجي"، ومؤلفاتي الأخرى في الحياة الدينية والثقافية للمجتمع الكردي، واقترح ترجمتَه للغة أهله. الكردية واحدة من لغات الإنسان المعروفة، وهي كما الشعب الناطق بها طالها كثيرٌ من التجاهل والإقصاء والظلم والتعسف، إذ حُرِم الإنسان الكردي من تعلّم لغته في المدارس مدة طويلة، وتعرضتْ آدابُه وفنونُه ومنتجاتُه الثقافية للإهمال والنسيان، على الرغم من عراقة شيءٍ من نصوص هذه الثقافة وتميّز آدابها وفنونها. في كردستان اليوم عدة جامعات حديثة، ويقظة ثقافية وأدبية وفنية تعد بحياة جديدة للغة وثقافة وآداب وفنون لبثت منفية عن موطنها وأهلها زمنًا طويلًا. أنفق الأخ الدكتور عثمان ياسين شيئًا من وقته الضيق، حاول وهو في زحمة أعماله في القضاء والتعليم والتأليف أن يترجم الكتابَ للكردية، وتعاون معه الأخُ الأستاذ عبد الله أحمد المعروف بـ "سرمد"، فأنجزا معًا مشكورَين هذه الترجمة، وهي تصدر بعد صدور الطبعة الجديدة عن دار الرافدين ببيروت من هذا الكتاب. يحاول الأخوان عثمان وسرمد ترجمةَ أعمالي الأخرى، آمل أن تصدر ترجمةُ الكتاب الثاني منها العام القادم، علمًا أن الكتاب التالي المقرّر ترجمته للكردية "مقدمة في علم الكلام الجديد" معتمَد كمقرّر دراسي في أقسام الفلسفة وعلوم الدين في جامعات متعدّدة خارج وداخل العراق.
تقديم الترجمة الكردية لكتاب: "الدين والظمأ الأنطولوجي".
أ. د. عبد الجبار الرفاعي