حسن إمامي - الحداثة القسرية

يبتغي هذا العنوان تشخيص حالة تفاعلنا مع الحداثة باعتبارها مدًّا تاريخيا اجتاح الأفراد كما المجتمعات كيفما كان اختلاف لونهم أو جنسهم أو امتدادهم الجغرافي والثقافي العام. حداثة يعتبرها البعض نتاج محطة تاريخية أساسية لدى مجتمعات تشترك في وضعها التاريخي والحضاري والثقافي الذي يشكل شخصية الإنسان واجتماعه وثقافته داخلها. إننا نعني بها المجتمعات العربية الإسلامية التي ينتمي إليها مجتمعنا المغربي بحكم تشاركه وتقاطعه معها في شتى مجالات وظواهر وطموحات سابقة وآنية وآتية.
فأن تكون محطة رسو الحملة الفرسنية على شواطئ وموانئ وشوارع مصر وأهلها، مع اكتشاف المصريين لتقدم مدني وحضاري حاولوا الاستفادة منه مع سياسة محمد علي آنذاك، فتلك صدمة شكّلت الولادة الجديدة لتلاقح الشمال مع الجنوب وتكوّن الوعي الجديد المقارِن للبون والفرق الشاسع الموجود بين تخلفٍّ هنا وتقدم هناك. إنها ولادة حداثة أتت بالقوة لكي تستنبت في تربة جديدة تحتاج إلى مواد عضوية ملائمة لم تتوفق بعد في زراعتها داخل الديار والمجتمع المصريين.
هي محطة أولى اخترناها، أصبحت رمزية ودالة، أتت بعدها محطات ارتبطت بالتدخلات الاستعمارية الأوربية التي جاءت بعملة مزدوجة الواجهتين في الخطاب والممارسة. وجل المشاريع التوسعية كانت تتغلف بخطاب ثقافي وحضاري يغطي ويشرعن عملها العسكري وطموحها الاقتصادي والسياسي العامين.
هكذا أطلت السفن على ميناء الدار البيضاء، مهّدت لها الحركات الديبلوماسية التي زادت من تعرية الواقع المغربي وكشف مستوره الذي يحجب شمس أرضه ويفضح تخلفه وجوانب عجزه. هكذا استبيحت القلعة فاخترقها الساحر ببهلوانه وسهمه. ولنا أن نتصور ردة الفعل عند اقتحام الغريب وتعسفه على القائم وتهديده لمصالح قائمة كذلك، وحياة هادئة.
هو تفسير لايبرر كما لا يعطي شرعية ما حدث، لكنه يتتبع مع يقع داخل موضوعية وصف ما أمكن، وقدرية تتابع احداث ووقوعها، ومنطق جدلية تاريخية لم يقع غيرها إلا هي في حينها. لذلك سنجد اختراق الآخر الغريب لجسمنا واستيطانه في خلايانا وامتصاصه لدمائنا وموادنا الحيوية. ولذلك سيستمر رغم خروجه الشكلي ممن بلادنا في الحضور وفي الاستفادة والتدخل والتأثير في مسار حقول عيشنا السياسية والاقتصادية والثقافية والمدنية الحضارية.
وإلى يومنا هذا، نرى اللغة المتداولة في الإدارة وفي سجلاتها، وفي خطاب الشارع ومدنيته ومؤسساته الثقافية والتعلمية والبحثية... لذلك نرى تبعية مستمرة وحاجة ملّحة لجرعاتها وتدخلاتها من أجل استمرار الحال المعبّر عن هذه الحاجة وعن قيمتها التي لم يتم وضع بديل عنها. فهي بقوتها جامحة ومستمرة بحكم موضوعية وقوة نفوذها وتأثيرها وتنافسيتها الأرقى والأدق والأذكى، دون أن تكون ما سماها أحط أو أدنى.
داخل هذا التفاعل الجدلي تولّدت ثنائيات متقابلة وتناقضات جلية بين اختيارات متعددة. تفاوتت بين مدّين اثنين على الأقل، عبّر عنهما المفكرون بثنائيات الأصالة والمعاصرة، التراث والتجديد، الحداثة والتقليد...
فما الذي سيكون قسريا اليوم في كل هذا؟ سؤال موضوعي يراهن على واقع اليوم والحاضر والآني الذي يمثل بكشف وصدق اختيارات ومصالح الناس كما قناعاتهم اليوم. ذلك أننا لم نعُد أمام شرعية التقليدي على حساب الحداثي، ولا المنادي بالتشبث بالتراث على حساب التجديد، ولا العكس. إن مجتمعاتنا اليوم أصبحت في خضم تيار عاصف يفرق وعيها واختياراتها. تيار يجعل عدم التحكم أو التوازن يمزق شدة الثوب الحريري الذي يشكّل بساط هذا الوطن. ولولا أرضيته الصلبة والمنبنية بطبقات عقود وقرون من النسج والتداخل والتماسك لوجدناه بساطا ممزقا مثلما يقع لمجموعة من خرائط العالم بسبب الحروب الأهلية أو الاختيارات الانفصالية أو غيرها.
ما دام حديثنا عن الحداثة، فإن الرجوع لفهمها هو أحد مفاتيح تناولها بشكل صحي ومناسب وملائم لما نحتاجه من اجل التطور في عصرنا الحالي.
فيما يستخلصه الباحث مصطفى النحال* من تعاريف للحداثة عند د. محمد سبيلا* نجد قوله:
(إنّ الحداثة براديغم* كلّي متعدّد الاتجاهات والمستويات، هي بنية عامّة عملت على خلق تحوّل جذريّ في التاريخ والمجتمع والأفكار والآداب والفنون. وهذه البنية عندما تلامس بنية اجتماعية تقليدية فإنـها تصدمها وتكتسحها بالتدريج ممارسة عليها ضربا من التفكيك ورفع القدسية).
يتجلى في هذا الاستخلاص التقابل بين بنية تقليدية وبنية جديدة سنسميها معاصرة ما دامت نتاج العصر الحديث. ويعني هذا أن الجدلية قائمة والولادة ليست يسيرة لهذا المفهوم الجديد الذي يتمثل كنفَس حياة في اليومي والنفسي والقيمي قبل أن يتجلى في آلة أو تكنولوجية أو تعبير...
هكذا يمكننا القول بأن التفكير في قسرية تاريخية يتقرب من القول بالحتمية التاريخية والطبيعية التي يولدها التطور الوجودي للأشياء والخلائق كما للإنسان. ربما هي ولادة قيصرية. ونحن نعلم أن الولادة القيصرية تترك جرحها وأثرها. وما دامت ولادة وعملية تدخلية، فإنها هنا تستغرق مدة من الزمن التاريخي مناسب لإجرائها، ما تزال مستمرة في تحققها. وداخل هذا (الما تزال) يتخالج في ذات الإنسان صراع مع موضوع الحداثة. هي قسرية وقيصرية في بعض الأحيان لأن الفرد قد يرفض الانخراط فيها ويرغب في الطبيعي وسيرورته. هنا نلاحظ أن كل المجتمعات تمتلكها ارتباطات أصولية تجترها إلى الوراء وترفض هذا المد للحداثة لكي تطوِّعه بما يخدم تصورها ومصالحها بالأساس.
يمكننا تصور الحداثة في نهاية هذا التأمل بكونها سفينة ضخمة يتم داخلها تحويل وتصنيع كبيرين، وفي مرافىء رسوّها أو إبحارها قد تنتج نفايات. لا يلاحظ الأصولي والتقليدي إلا النفايات فيحكم على الحداثة بالنسبي فيها من سلبيات ويترك المشروع الأكبر الذي تتضمنه كسفينة تحول في الحياة. وللقارىء نظر واجتهاد. فهذا مجرد اجتهاد اختياري لا قسريٍّ.

* ـ جريدة الاتحاد الاشتراكي 29/12/2017 في مقال: محمد سبيلا، الحداثة والحداثة البعدية/ مصطفى النحال.
* ـ محمد سبيلا، باحث أكاديمي مغربي ولد سنة 1942 مهتم بموضوع الحداثة له عدة مؤلفات ودراسات وحوارات حول الموضوع..




ذ. حسن إمامي

25/5/2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى