لا يستطيع المرور من أمام غرفتها دون إطلاق تنهد شاب غر ينال من هيبةٍ فرضها على الجميع خلال السنوات الأخيرة بعد بروز إسمه، الذي أضيف إليه لقب شيخ، بين التجار الكبار القلائل في المنطقة وتراكم الأموال في خزائنه، وتعدد النساء في بيته العامر، عتبة بابها أمست بمثابة خط أحمر لا يُسمح لأحد بتجاوزه، كل ليلةٍ تمضي تزيده ولعاً بفوح جنتها أكثر فأكثر، لا تمحوه أي فتاة أخرى في الدار تحرص على إرضائه بشتى السبل وضمن ما يشاء من وقت لا تستطيع العجوز المتحايلة على عمرها الخمسيني بالحناء وبريق الألوان التي تداري بها بعض تجاعيد وجهها حنطي اللون محاسبته عليه كأي واحد من الزبائن الآخرين، كانت تأتيه منها ذات الإجابة دوماً، رغم علمها بمدى نفوذه وتنوع علاقاته وشَراكاته التي تُغفِل عنه العيون.
"إنها محجوزة".
تقولها بحسمٍ غريب عليه، مع غمزة عين مستفزة تجبره على التراجع عن سؤاله الذي لا ينفك عن تكراره بعد حين، في رجاء النهل من عذب ينابيعها مجدداً، تسكره ذات نشوة الامتلاك الأولى، كما لو لم يمس جسدها البض رجل قبله، تخترق جسده بنعومة تأوهاتها غير المتصنعة، ونغم ضحكاتها، تشده إليها بوشائجٍ من حرير يستغرب وجودها في مثل هذا البيت العِفن، والقائم كوكرٍ للخفافيش على أطراف تلك البلدة المحاذية لجبهة بعيدة بعض الشيء عن خطوط الاشتباك مع العدو.
منذ بدء الحرب صار الجند يتوافدون عليه، وكذلك الضباط في بعض الأحيان، جوعى، عطشى يتعجلون الارتواء، غالباً ما يأتون برفقة جندي شاب شديد السمرة، وفارع الطول، لا تعرف المرأة المتصابية كيف يتدبر أمر خروجهم من المعسكر الذي لم يفارق مقر قيادته نحو الأرض الخلاء مرة واحدة، أو يتسنى له الحصول على إجازاته الكثيرة ومهام المراسلات التي يكلَف بنقلها من وإلى العاصمة، فيبقى هناك أياماً مسترخية، لا تدركه الحسرة على كل دقيقة تمضي منها، غالباً ما يكون رائق الأعصاب، يميل إلى السخرية والمزاح، بلا أن يأمن أحد سرعة غضبه في وجه الجميع، بمن فيهم صاحبة الدار، خاصةَ عندما تحاول مراوغته بشأن المبلغ الذي يتقاضاه لقاء كل فحل مصعوق بنار الحرب يسوقه إلى أحضان فتياتها المتزايدات.
أشار إليها بالابتسام قبل دخولها الغرفة، كلبوةٍ جريحة، لا تعنيها سطوة المسؤول الغامض الآتي من العاصمة، رغم تلك الرهبة التي أثقلتها منذ يوم دخوله الدار، متسللاً من الباب الخلفي، يرتدي عباءة باهظة الثمن فوق ثيابه المدنية، تكتم ضحكاتها لما يراودها تخيل إبقائه على النظارة السوداء فوق عينيه والكوفية المرقَطة فوق رأسه، يتلّثم بطرفيها الواسعين، لمّا يطلب منها نزع ملابسه عنه، على مهل لتبدأ فقرة تدليك جسده غير المتناسق قبل كل شيء.
باغته ما يخفيه جسدها الغض من زئيرٍ وحشي في الحنايا، بعد أن بدأ يقنط من قدرتها على نزع ما عاناه طيلة الأشهر الماضية عن ذاكرته حتى وجد نفسه أخيراً يقضي فترة عقوبة، غير محددة المدة، في تلك الصحراء المقفرة، يرتدي البزة العسكرية، رغم جهله التام بشؤون الحرب، يعرف (الرفيق) الذي حاك له تلك الدسيسة جيداً، دون أن يملك وسيلة للدفاع عن نفسه، ما دامت الرياح تجري في صالح غريمه.
كانت الدموع غائصة في حدقتيها، انصب عليها شدوه ظنت إنها قد تبرأت منه منذ أن سلبها أحد أتباع العجوز الأشداء بكارتها، قبل إتمامها الرابعة عشرة، لمّا أخبرها كلب الحراسة الذي بات يمضي ساعات خلف بابها دون تململ باستشهاد ذلك الشاب الوسيم، محبَب الملامح، بعد عدة أيام من زيارته المشحونة للدار،
كان يتلفت يمنةً ويسرة من حوله بعينين ذاهلتين، خطاه تتصنع ثباتاً تلاشى أول إغلاق الباب عليهما، وجدتها فرصة لتتباهى بتمرسها أمامه، رغم ما أبداه من صلفٍ واستبد به من حنق أودعتهما فيه وحشية الصحراء.
ارتعد فوقها سريعاً، بآليةٍ آلمتها بعض الشيء، كما لو كان مكلفاً بمهمةٍ عسكرية يود إنجازها بأسرع ما يمكن، ثم جلس على حافة السرير يوَلي ظهره عن عريها المستلقي على الفراش في استسلام متذمر، ترقب جسده يتصبب عرقاً غزيراً، يرتجف بقوة كمن يتلوى من ألمٍ حاد، لا تعلم إن كانت تمتمته استغفاراً أم لعنات غاضبة يصبها على ما لا تفقه، أرادت مسح ظهره بمنديلها الأبيض الحريري الذي تخبئه تحت وسادتها، انتفض بعيداً عنها بسرعة أملت أن تكون استعداداً للانقضاض الثاني، المشبع هذه المرة، ارتدى ثيابه العسكرية الملوَثة بالدماء ثم خرج مهرولاً، لا يولي سأمها الحزين أدنى التفاتة، صفق الباب بقوة تُخبِرها أنها لن تراه مرةً ثانية، والمنديل المخضب بعرقه الذي يحمل غبار المعارك المتهاوية على حافات الموت يفترش صدرها الناعم، والمرتجف في نفورٍ وغثيان من كل شيء.
تهتز الأرض مع توالي القصف الشديد، على غير العادة، أكثر من اهتزاز السرير من تحتهما قبل قليل، ينتابها ذعر شديد من لحظة تهاوي الجدران المتصدعة العالية فوقهما، وإن صارت تتوقع ذلك في كل ليلة تقريباً، ترمي برأسها على صدره متهدج الأنفاس، شديد الوطأة عليها، تصنت باستغراب لضربات قلبه المتسارعة، تستغرب أن الخوف يعرف التسلل إلى أمثاله، تتعلق نظراتها المتوجسة بمسدسه الملقى فوق طاولة قريبة، لا تعلم إن رصاصةً منه صبت بعض الحنق المتربص برفيقه اللدود في صدر جندي شاب، محبَب الملامح، أصابته شبه لوثة بعد استشهاد صاحبه وارتماء جثته فوقه، وكأنها ودت حمايته من سيل الرصاص المنهمر باتجاههم في لحظة انصهار رهيبة.
امتنع عن إطلاق رصاصة واحدة من رشاشته أثناء المعركة، بدأ يهذي بكلامٍ غير مفهوم، دار حول نفسه عدة مرات حتى خرَ منهك القوى كالذبيحة على الأرض، أمره صاحب النظارة السوداء بالنهوض والهرولة نحو سلاحه الذي رماه بعيداً، فلم يجب، ولم يلتفت إليه، فقط ظلَ يسترسل في هذيانٍ يثير الشفقة.
................................................
13 ـ 8 ـ 2008 عَمان
"إنها محجوزة".
تقولها بحسمٍ غريب عليه، مع غمزة عين مستفزة تجبره على التراجع عن سؤاله الذي لا ينفك عن تكراره بعد حين، في رجاء النهل من عذب ينابيعها مجدداً، تسكره ذات نشوة الامتلاك الأولى، كما لو لم يمس جسدها البض رجل قبله، تخترق جسده بنعومة تأوهاتها غير المتصنعة، ونغم ضحكاتها، تشده إليها بوشائجٍ من حرير يستغرب وجودها في مثل هذا البيت العِفن، والقائم كوكرٍ للخفافيش على أطراف تلك البلدة المحاذية لجبهة بعيدة بعض الشيء عن خطوط الاشتباك مع العدو.
منذ بدء الحرب صار الجند يتوافدون عليه، وكذلك الضباط في بعض الأحيان، جوعى، عطشى يتعجلون الارتواء، غالباً ما يأتون برفقة جندي شاب شديد السمرة، وفارع الطول، لا تعرف المرأة المتصابية كيف يتدبر أمر خروجهم من المعسكر الذي لم يفارق مقر قيادته نحو الأرض الخلاء مرة واحدة، أو يتسنى له الحصول على إجازاته الكثيرة ومهام المراسلات التي يكلَف بنقلها من وإلى العاصمة، فيبقى هناك أياماً مسترخية، لا تدركه الحسرة على كل دقيقة تمضي منها، غالباً ما يكون رائق الأعصاب، يميل إلى السخرية والمزاح، بلا أن يأمن أحد سرعة غضبه في وجه الجميع، بمن فيهم صاحبة الدار، خاصةَ عندما تحاول مراوغته بشأن المبلغ الذي يتقاضاه لقاء كل فحل مصعوق بنار الحرب يسوقه إلى أحضان فتياتها المتزايدات.
أشار إليها بالابتسام قبل دخولها الغرفة، كلبوةٍ جريحة، لا تعنيها سطوة المسؤول الغامض الآتي من العاصمة، رغم تلك الرهبة التي أثقلتها منذ يوم دخوله الدار، متسللاً من الباب الخلفي، يرتدي عباءة باهظة الثمن فوق ثيابه المدنية، تكتم ضحكاتها لما يراودها تخيل إبقائه على النظارة السوداء فوق عينيه والكوفية المرقَطة فوق رأسه، يتلّثم بطرفيها الواسعين، لمّا يطلب منها نزع ملابسه عنه، على مهل لتبدأ فقرة تدليك جسده غير المتناسق قبل كل شيء.
باغته ما يخفيه جسدها الغض من زئيرٍ وحشي في الحنايا، بعد أن بدأ يقنط من قدرتها على نزع ما عاناه طيلة الأشهر الماضية عن ذاكرته حتى وجد نفسه أخيراً يقضي فترة عقوبة، غير محددة المدة، في تلك الصحراء المقفرة، يرتدي البزة العسكرية، رغم جهله التام بشؤون الحرب، يعرف (الرفيق) الذي حاك له تلك الدسيسة جيداً، دون أن يملك وسيلة للدفاع عن نفسه، ما دامت الرياح تجري في صالح غريمه.
كانت الدموع غائصة في حدقتيها، انصب عليها شدوه ظنت إنها قد تبرأت منه منذ أن سلبها أحد أتباع العجوز الأشداء بكارتها، قبل إتمامها الرابعة عشرة، لمّا أخبرها كلب الحراسة الذي بات يمضي ساعات خلف بابها دون تململ باستشهاد ذلك الشاب الوسيم، محبَب الملامح، بعد عدة أيام من زيارته المشحونة للدار،
كان يتلفت يمنةً ويسرة من حوله بعينين ذاهلتين، خطاه تتصنع ثباتاً تلاشى أول إغلاق الباب عليهما، وجدتها فرصة لتتباهى بتمرسها أمامه، رغم ما أبداه من صلفٍ واستبد به من حنق أودعتهما فيه وحشية الصحراء.
ارتعد فوقها سريعاً، بآليةٍ آلمتها بعض الشيء، كما لو كان مكلفاً بمهمةٍ عسكرية يود إنجازها بأسرع ما يمكن، ثم جلس على حافة السرير يوَلي ظهره عن عريها المستلقي على الفراش في استسلام متذمر، ترقب جسده يتصبب عرقاً غزيراً، يرتجف بقوة كمن يتلوى من ألمٍ حاد، لا تعلم إن كانت تمتمته استغفاراً أم لعنات غاضبة يصبها على ما لا تفقه، أرادت مسح ظهره بمنديلها الأبيض الحريري الذي تخبئه تحت وسادتها، انتفض بعيداً عنها بسرعة أملت أن تكون استعداداً للانقضاض الثاني، المشبع هذه المرة، ارتدى ثيابه العسكرية الملوَثة بالدماء ثم خرج مهرولاً، لا يولي سأمها الحزين أدنى التفاتة، صفق الباب بقوة تُخبِرها أنها لن تراه مرةً ثانية، والمنديل المخضب بعرقه الذي يحمل غبار المعارك المتهاوية على حافات الموت يفترش صدرها الناعم، والمرتجف في نفورٍ وغثيان من كل شيء.
تهتز الأرض مع توالي القصف الشديد، على غير العادة، أكثر من اهتزاز السرير من تحتهما قبل قليل، ينتابها ذعر شديد من لحظة تهاوي الجدران المتصدعة العالية فوقهما، وإن صارت تتوقع ذلك في كل ليلة تقريباً، ترمي برأسها على صدره متهدج الأنفاس، شديد الوطأة عليها، تصنت باستغراب لضربات قلبه المتسارعة، تستغرب أن الخوف يعرف التسلل إلى أمثاله، تتعلق نظراتها المتوجسة بمسدسه الملقى فوق طاولة قريبة، لا تعلم إن رصاصةً منه صبت بعض الحنق المتربص برفيقه اللدود في صدر جندي شاب، محبَب الملامح، أصابته شبه لوثة بعد استشهاد صاحبه وارتماء جثته فوقه، وكأنها ودت حمايته من سيل الرصاص المنهمر باتجاههم في لحظة انصهار رهيبة.
امتنع عن إطلاق رصاصة واحدة من رشاشته أثناء المعركة، بدأ يهذي بكلامٍ غير مفهوم، دار حول نفسه عدة مرات حتى خرَ منهك القوى كالذبيحة على الأرض، أمره صاحب النظارة السوداء بالنهوض والهرولة نحو سلاحه الذي رماه بعيداً، فلم يجب، ولم يلتفت إليه، فقط ظلَ يسترسل في هذيانٍ يثير الشفقة.
................................................
13 ـ 8 ـ 2008 عَمان