يا مي!
«قرأتُ اليوم ما كتبته في «يوميات فتاة» عمَّا جال في صدرك من العواطف أثناء تلك الدقائق الوجيزة التي قضيتها بين صور مشاهير الكُتَّاب في إحدى غُرَف الجامعة المصرية، وتلوت على مَهَل كمن يتلو صلاة أو يترنَّم بأنشودة ما أُوحِي إليكِ من الإلهام؛ منظر أمراء الفِكر مُصوَّرين على الجدران من ديكارت، وكورنيل، وراسين، وموليير، إلى فولتير وهوجو.
ما أجمل هؤلاء الرجال! بل أنصاف الآلهة، تُذيع مفاخرهم بعد أجيال فتاة شاعرة، وتُمجِّد أرواحهم بلغة لم يعرفوا منها إلا الاسم، وليدة جبل الزيتون، وربيبة جبل الأرز، تنشر مآثر عظماء أبناء السين بلغة سكَّان المضارب.
تلك يا مي، ما أجمل خلود الفكر! أليس هو أدعى إلى الغبطة من خلود النفس؟!
أنت لستِ بالغريبة عن هذه الأرواح الخالدة، كما أنها ليست بالغريبة عنكِ، فمحبُّو الجمال كمحبي الحقيقة، أولاد طين واحد، بل أبناء أسرة واحدة.
أنا لم تقع عيني على هذه الصور التي وصفتها، ولكني أشكُّ في أن المُصوِّر الذي رسم بألوانه هيكلها الفاني قد أجاد إجادتك حين صوَّرت بألفاظكِ وعباراتكِ روحها الخالدة، وفكرها الباقي.
أنا لا أكتب إليك مُقرِّظًا؛ فلقد طالما عرفكِ المعجبون بأدبكِ الزاهر، وعلمكِ الوافر، كاتبة تستولد فؤادها الرقيق أسمى العواطف، فتلبسها مما تحكيه مخيلتها الفنية حُلة قشيبة، وتُجمِّلها بجواهر عقلها السليم، فلا بدع إذا وصفت فأبدعتِ.
لا، أنا لا أكتب لأقرِّظ تلك التي تقرِّظها أعمالها وحياتها الفكرية، بل لأدوِّن خواطر جالت في الصدر لدى تلاوة تلك الصفحة من اليوميات، فحملت القلب على التأمل والتفكير، دوَّنتُ هذه الأفكار كما دوَّنتِ تأملاتكِ اللطيفة في تلك الغرفة.
صدقتِ، إن للغُرَف أرواحًا لو تكلَّمت الجدران لكانت أفصح من هوجو وفولتير، وصدق الشاعر العربي:
واستعجمتْ دارُ هند ما تُكلِّمنا
والدارُ لو كلمتنا ذاتُ أخبار
أي نفس شاعرة لا تحس مثل ذلك؟ أليس القائل:
والدار تملكني — ويلي — وصاحبها
فلي مليكان: ربُّ الدار، والدار
أصدق وأدرى بثنيَّات النفس البشرية من المتنبي حيث يقول:
وما حبُّ الديار شغفن قلبي
ولكنْ حبُّ من سكن الديارا
على أن المتنبي قد كمل فكره هذا يوم قال:
لكِ يا منازلُ في القلوب منازلُ
أقفرتِ أنتِ وهنَّ منكِ أواهِلُ
ألم يدرك شعراء العرب هذه العاطفة أحسن من سواهم حينما كانوا يستهلُّون قصائدهم بتحية الأطلال البالية، وندب الربوع الدارِسة؟!
أنا لا أمرُّ بمكان فيه شيء من بقايا الماضي القريب أو البعيد -إن كان في الماضي قُرب أو بُعد - إلا وأستسلم إلى التأملات المحزِنة. كم من النفوس تألمت وبكت حيث نتألَّم ونبكي، ورجت وتعزَّت حيث نرجو ونتعزَّى، فتعرفت مثلنا الأمل المحيي، والقنوط المميت!
أجل، لعل تلك الأرواح تطلُّ علينا من عالمها الثاني، وتشاركنا في دموعنا وابتساماتنا. لا شكَّ أنها ترثي لحالنا، بل تضحكُ مِنَّا، تضحك من أفراحنا، ونحن نعتقد أنه لم يعرف الفرح أحد قبلنا، وتضحك من أحزاننا ونحن نتوهَّم أنه لم يشعر بالحزن قلب غير قلوبنا، وتضحك من حبنا ونحن نتصوَّر أننا دون سوانا قد اخترعنا الحب!
هذه السطور يا مي علِّقيها على حاشية بحرف ضئيل على متن يومياتك الجميلة، ولعلكِ فاعلة، فينعكس عليها شيءٌ من نور فكركِ الثاقب يجعل لها بعض الرونق في عينكِ المتأمِّلة.»
أنطون الجميل
[HEADING=3]ال[/HEADING]
****
صباح الأحد ١٣ يونيو سنة ١٩٢٦
يلذ ُّ لي يا مي أن أخاطبك باسمك مُجرَّ دًا من الوصف واللقب؛ لأن كل وصف قليل إذا ما قِيس بصفاتكِ ، وكل لقب ضئيل إذا ما اقترن باسمك، فاسم »مي« وكفاك ِ به من وصف ولقب، قد أصبح في هذا الجيل يُرادف حُسن البيان، وفصاحة اللسان، ونبوغ العقل، وكِبر القلب!
وبعد، فقد طلع علي َّ كتابك ِ مساء أمس في ليلة العيد مع هلال الشهر، محوطًا بهالة من نور، هو نور نفسك ِ الفياض، لا عجب إذا تقبَّلت ُ ما فيه من عواطف سامية، وما معه من هدية ثمينة شاكرًا ممتنٍّا؛ فإن ما دون ذلك بما شرفتني به من صداقة ٍّ يستوجب الشكر والامتنان، فكيف بذلك كله محلى بما شرفتني به من صداقة غالية!
على أنِّي ما أتيت ُ إلى آخر كتابك ِ الكريم حتى مازج شعوري هذا شيء ٌ من الاحتجاج، الاحتجاج الشديد على ما نسبته إلي َّ من النقمة على خطكِ ، والضحك من حروفكِ ، ووﷲ ما رسم خطك ِ إلا كل بديع طريف، ولا عبرت حروفك ِ إلا عن كل سام ٍ شريف.
تذكرين كرمًا منك ِ وتلطُّفًا ما عانيناه في سبيل عيد المقتطف — يا حبَّ ذا عيد المقتطف يا مي — ويا ما أعذب ما كلَّفنا من عناء وتعب؛ فقد أتاح لي أن أعرف فيك فوق الكثير مما كنت ُ أعرف من رِقَّ ة الطِّ باع، وسداد الرأي والصبر على المكروه، ما زادني إعجابًا برجاحة عقلك ِ وسمو قلبكِ ، وهل للباحث المنقِّ بألذ من اكتشاف مثل تلك السجايا؟ُ
لذلك ما ذكرت تلك الكشوف، وما حملتك في سبيلها من المشقَّ ة إلا شعرت بدين جديد لك عليَّ ، سأقرأ كثيرًا قاموسك ِ الفلسفي، وسأنظر طويلا ً في الإلهتين الجميلتين الموسومتين على الطابع، ولو غضب الأستاذ عطارد! وريثما يتسنَّ ى لي الشرف بزيارتك ِ قريبًا أرجو أن تتكرمي بقبول أصدق العواطف من المُخلص.
أنطون الجميل
«قرأتُ اليوم ما كتبته في «يوميات فتاة» عمَّا جال في صدرك من العواطف أثناء تلك الدقائق الوجيزة التي قضيتها بين صور مشاهير الكُتَّاب في إحدى غُرَف الجامعة المصرية، وتلوت على مَهَل كمن يتلو صلاة أو يترنَّم بأنشودة ما أُوحِي إليكِ من الإلهام؛ منظر أمراء الفِكر مُصوَّرين على الجدران من ديكارت، وكورنيل، وراسين، وموليير، إلى فولتير وهوجو.
ما أجمل هؤلاء الرجال! بل أنصاف الآلهة، تُذيع مفاخرهم بعد أجيال فتاة شاعرة، وتُمجِّد أرواحهم بلغة لم يعرفوا منها إلا الاسم، وليدة جبل الزيتون، وربيبة جبل الأرز، تنشر مآثر عظماء أبناء السين بلغة سكَّان المضارب.
تلك يا مي، ما أجمل خلود الفكر! أليس هو أدعى إلى الغبطة من خلود النفس؟!
أنت لستِ بالغريبة عن هذه الأرواح الخالدة، كما أنها ليست بالغريبة عنكِ، فمحبُّو الجمال كمحبي الحقيقة، أولاد طين واحد، بل أبناء أسرة واحدة.
أنا لم تقع عيني على هذه الصور التي وصفتها، ولكني أشكُّ في أن المُصوِّر الذي رسم بألوانه هيكلها الفاني قد أجاد إجادتك حين صوَّرت بألفاظكِ وعباراتكِ روحها الخالدة، وفكرها الباقي.
أنا لا أكتب إليك مُقرِّظًا؛ فلقد طالما عرفكِ المعجبون بأدبكِ الزاهر، وعلمكِ الوافر، كاتبة تستولد فؤادها الرقيق أسمى العواطف، فتلبسها مما تحكيه مخيلتها الفنية حُلة قشيبة، وتُجمِّلها بجواهر عقلها السليم، فلا بدع إذا وصفت فأبدعتِ.
لا، أنا لا أكتب لأقرِّظ تلك التي تقرِّظها أعمالها وحياتها الفكرية، بل لأدوِّن خواطر جالت في الصدر لدى تلاوة تلك الصفحة من اليوميات، فحملت القلب على التأمل والتفكير، دوَّنتُ هذه الأفكار كما دوَّنتِ تأملاتكِ اللطيفة في تلك الغرفة.
صدقتِ، إن للغُرَف أرواحًا لو تكلَّمت الجدران لكانت أفصح من هوجو وفولتير، وصدق الشاعر العربي:
واستعجمتْ دارُ هند ما تُكلِّمنا
والدارُ لو كلمتنا ذاتُ أخبار
أي نفس شاعرة لا تحس مثل ذلك؟ أليس القائل:
والدار تملكني — ويلي — وصاحبها
فلي مليكان: ربُّ الدار، والدار
أصدق وأدرى بثنيَّات النفس البشرية من المتنبي حيث يقول:
وما حبُّ الديار شغفن قلبي
ولكنْ حبُّ من سكن الديارا
على أن المتنبي قد كمل فكره هذا يوم قال:
لكِ يا منازلُ في القلوب منازلُ
أقفرتِ أنتِ وهنَّ منكِ أواهِلُ
ألم يدرك شعراء العرب هذه العاطفة أحسن من سواهم حينما كانوا يستهلُّون قصائدهم بتحية الأطلال البالية، وندب الربوع الدارِسة؟!
أنا لا أمرُّ بمكان فيه شيء من بقايا الماضي القريب أو البعيد -إن كان في الماضي قُرب أو بُعد - إلا وأستسلم إلى التأملات المحزِنة. كم من النفوس تألمت وبكت حيث نتألَّم ونبكي، ورجت وتعزَّت حيث نرجو ونتعزَّى، فتعرفت مثلنا الأمل المحيي، والقنوط المميت!
أجل، لعل تلك الأرواح تطلُّ علينا من عالمها الثاني، وتشاركنا في دموعنا وابتساماتنا. لا شكَّ أنها ترثي لحالنا، بل تضحكُ مِنَّا، تضحك من أفراحنا، ونحن نعتقد أنه لم يعرف الفرح أحد قبلنا، وتضحك من أحزاننا ونحن نتوهَّم أنه لم يشعر بالحزن قلب غير قلوبنا، وتضحك من حبنا ونحن نتصوَّر أننا دون سوانا قد اخترعنا الحب!
هذه السطور يا مي علِّقيها على حاشية بحرف ضئيل على متن يومياتك الجميلة، ولعلكِ فاعلة، فينعكس عليها شيءٌ من نور فكركِ الثاقب يجعل لها بعض الرونق في عينكِ المتأمِّلة.»
أنطون الجميل
[HEADING=3]ال[/HEADING]
****
صباح الأحد ١٣ يونيو سنة ١٩٢٦
يلذ ُّ لي يا مي أن أخاطبك باسمك مُجرَّ دًا من الوصف واللقب؛ لأن كل وصف قليل إذا ما قِيس بصفاتكِ ، وكل لقب ضئيل إذا ما اقترن باسمك، فاسم »مي« وكفاك ِ به من وصف ولقب، قد أصبح في هذا الجيل يُرادف حُسن البيان، وفصاحة اللسان، ونبوغ العقل، وكِبر القلب!
وبعد، فقد طلع علي َّ كتابك ِ مساء أمس في ليلة العيد مع هلال الشهر، محوطًا بهالة من نور، هو نور نفسك ِ الفياض، لا عجب إذا تقبَّلت ُ ما فيه من عواطف سامية، وما معه من هدية ثمينة شاكرًا ممتنٍّا؛ فإن ما دون ذلك بما شرفتني به من صداقة ٍّ يستوجب الشكر والامتنان، فكيف بذلك كله محلى بما شرفتني به من صداقة غالية!
على أنِّي ما أتيت ُ إلى آخر كتابك ِ الكريم حتى مازج شعوري هذا شيء ٌ من الاحتجاج، الاحتجاج الشديد على ما نسبته إلي َّ من النقمة على خطكِ ، والضحك من حروفكِ ، ووﷲ ما رسم خطك ِ إلا كل بديع طريف، ولا عبرت حروفك ِ إلا عن كل سام ٍ شريف.
تذكرين كرمًا منك ِ وتلطُّفًا ما عانيناه في سبيل عيد المقتطف — يا حبَّ ذا عيد المقتطف يا مي — ويا ما أعذب ما كلَّفنا من عناء وتعب؛ فقد أتاح لي أن أعرف فيك فوق الكثير مما كنت ُ أعرف من رِقَّ ة الطِّ باع، وسداد الرأي والصبر على المكروه، ما زادني إعجابًا برجاحة عقلك ِ وسمو قلبكِ ، وهل للباحث المنقِّ بألذ من اكتشاف مثل تلك السجايا؟ُ
لذلك ما ذكرت تلك الكشوف، وما حملتك في سبيلها من المشقَّ ة إلا شعرت بدين جديد لك عليَّ ، سأقرأ كثيرًا قاموسك ِ الفلسفي، وسأنظر طويلا ً في الإلهتين الجميلتين الموسومتين على الطابع، ولو غضب الأستاذ عطارد! وريثما يتسنَّ ى لي الشرف بزيارتك ِ قريبًا أرجو أن تتكرمي بقبول أصدق العواطف من المُخلص.
أنطون الجميل