د. عبدالسلام بنعبد العالي - مفعول الترجمة

«لستُ أدري ما إذا كان الأمر قد حصل بالفعل؛ ما يهمّ اليوم هو أنّ هذه الحكاية قد رُويت فاعتُقِد في صحّتها» – بورخيس

ما الّذي تعنيه كلمة ترجمة في هذا السّياق، سياق تقديم رواية كيليطو الأخيرة «والله إن هذه الحكاية لحكايتي*»؟

أبدأ أولاً، بالاعتراف بأنّ هذه الإشارة إلى التّرجمة ليست من عندي، فالتّرجمة، التي تُذكر لفظًا في هذه الرّواية أزيد من أربعين مرّة، حاضرة حضورًا متنوّعًا، وشخوص الرّواية يمارسونها من لغات مختلفة، بل إنّ حضورها ربّما أقوى من ذلك، وهذا ما أكّده كيليطو في أحد حواراته عندما قال: «تروم “والله” إعادةَ كتابة قصة حسن البصري، وترتّب عن ذلك الانتقالُ من زمن الحكاية إلى زمن الرّواية، من سياقٍ إلى سياقٍ آخر، ومن لغةٍ إلى لغةٍ مختلفة. وفي هذا الصّدد ترد مسألة التّرجمة، مفارقة الترجمة ومآلها، فلقد قام حسن ميرو بترجمة “حسن البصري” إلى الفرنسية، كما شرع يوليوس موريس في ترجمة “مثالب الوزيرين” إلى الإنجليزية. وفي كلتا الحالتين تصبح الترجمة مستحيلة فتتوقّف أو تظلّ مشروعًا لا يُنجز إلاّ جزئيًا».

رغم هذا الحضور المتنوّع للتّرجمة في هذه الرّواية، فأنا لن أكتفي هنا بهذه الدّلالات. ما أعنيه هو ما يمكن أن نطلق عليه، ليس التّرجمة بالمعنى المعهود، وربّما ليس حتّى فعل أو عمليّة التّرجمة، وإنّما ما يمكن أن ندعوه مفعول التّرجمة Effet de traduction.

ففي هذه الرّواية يغدو الحكي نفسه ترجمة واستنساخًا، ليس بين نصوص ولغات فحسب، وإنّما بين شخوص وبين حكايات. وهكذا، نلفي أنفسنا أمام حكايات متداخلة تقترب من طبيعة الّليالي التّناسليّة، فالحكاية الأصليّة التي يستهل بها كيليطو روايته تتناسل منها حكايات متعدِّدة تتوازى حينًا، وتتداخل حينًا آخر. وهذا ما يتنبّه إليه السّارد نفسه: «أرى أنّني أخلط بين قصتين، عليّ أن أنتبه وأن أعيد ترتيب الأمور. إنّني، بالإشارة إلى حكاية حسن ميرو، تحت تأثير حكاية قديمة، «حكاية حسن البصري». هذا دون ذكر حكايتي الخاصّة التي يجب أن أبقيها بعيدًا، فلا رغبة لي على الإطلاق في روايتها» (ص16).

لكلّ شخصية من شخوص هذه الرّواية مرايا تعكسها وتعكس تطوّراتها وتحوّلاتها. ولعلّ ذلك ما دفع المؤلّف إلى أن يتشبّث بالتّقارب بين أسماء الشّخوص: حسن وحسن ، نورا ونور ونورما ومنار. جميع شخوص الرّواية هي نفسُها وليست نفسَها. فالباحث «حسن ميرو» هو بدرجة ما «حسن البصري» الصّائغ في ألف ليلةٍ وليلةٍ. «إضافة إلى الاسم توجد سمات مشتركة بينهما. كلاهما طفلان وحيدان، فقدا أبيهما في سنّ مبكّرة وتربّيا في كنف أمّهما».(ص18). «إذا نظرنا في الأمر مليًّا، يمكن أن نلمح صلة أخرى بين حسن ميرو وحسن البصري، تتعلّق بالأهمّية القصوى للكتاب، بالرّغبة في القراءة والكتابة. أحقًّا توجد هذه الرغبة في الحكاية العربية القديمة؟ على ما يظهر ليس فيها أيّ إحالة على الكتابة. حسن البصري صائغ ويعيش في بيئة لا حضور فيها للأدب، ومع ذلك فإنه اهتدى بكتاب المجوسي للوصول إلى بلاد الجنّ، كما أن حسن ميرو حلّ بباريس بفضل رواية توفيق الحكيم. » (27 ). ومثلما «فتح حسن البصري بابًا ممنوعًا»، فإنّ «حسن ميرو فتح كتابًا ما كان له أن يقرأه». كلاهما شارك في فتح المحظور، فانقلبت حياتهما رأسًا على عقب.

أما معشوقة حسن ميرو التي يعيش معها قصّة عشق وزواج، إلى أن تتحرّر من قيوده وتطير بعد استعادة أجنحتها، فهي، بدرجةٍ أخرى وزمن آخر، الجنّية المجنّحة التي سرق حسن البصري ثوب ريشها، واستعادته لتطير وتستعيد اسمها وهويتها. اختفت فتاة حسن البصري بعد عثورها على ثوب الرّيش، وكذلك اختفت فتاة حسن ميرو لمدة عام بعد أن سلبته عقله، إلى أن التقاها مرّة ثانية حين رجع إلى باريس.
كما أنّ الباحث الأمريكي يوليوس موريس، صاحب كتاب «قدر المفاتيح»، هو ذاتُه حسن البصري وحسن ميرو، وليس هما، بعلاقته مع فتاة البحيرة، وهو أيضًا، شبيه حسن البصري في الهيام بالفتاة التي كانت تسبح، وشبيهُ حسن في اهتمامه بالتّوحيدي.

جميعُ الشّخوص تعيش قدر اللقاءِ نفسِه وغيرِه، ذلك اللقاء الذي يبدأ بعِداءٍ يقود العشق، في عالم الجنيات السّريّ، كما في متحف اللّوفر بباريس، كما على البحيرة في فنلندا.

وهكذا فجميع الشّخوص والحكايات هي، وليست هي في الآن نفسه، بل إن الحكايات جميعَها تبدو كأنّما استنسخت عن صورة: «ليس هذا على الأرجح سوى لوحة شاهدتها في مكان ما، في متحف ربّما، أو بالأحرى منمنمة في كتاب. أيّ كتاب يا ترى؟ ومن هو الرسّام الذي أنجزها، ومن أوحى له بها؟ نصّ مّا بالتأكيد، حكاية قام بتصويرها» (ص13).

بل إنّ مفعول التّرجمة وتوليد النّسخ يمتدّ إلى تاريخ الأدب ذاته، وهكذا يغدو التّوحيدي نفسُه ترجمةً للّيالي: «سؤال طرحته نورا ذات يوم بقلق. ذلك أنّ التّرجمة ستؤخّر إتمام الأطروحة. طمأنها قائلاً إن خيطًا ما يربط التّوحيدي بِـ «ألف ليلة وليلة». ألا يذكر في «الإمتاع والمؤانسة» هذا الكتاب الذي لم يكن يحمل بعد عنوانه البهيّ، وإنّما عنوانًا فارسيًا، «هزار افسان»؟ فإذا استثنينا الحكاية الافتتاحية، أمّ الحكايات، فإنّه كان حسب الأخصائيين يختلف كثيرًا عمّا هو معروض اليوم على القرّاء. بتعبير آخر كان يبحث عن نفسه، عمّا سيشكّل، بعد مئات السّنين، هويته الحقيقية. وبالفعل، بعد أن تم بأعجوبة اكتشاف العنوان النهائي، أجمل عنوان في نظر الكثيرين، تطلّب الأمر ألف سنة للوفاء بوعده عن طريق جمع الحكايات الليلية التي يشتمل عليها (ص91). ويتوازى كتاب التّوحيدي مع كتاب «الليالي» على نحو ما عقد حسن ميرو من أوجه مشابهة بين الكتابين، فكتاب «الإمتاع والمؤانسة» يتكوّن من أربعين ليلة، يتحدّث فيها التّوحيدي مع الوزير أبي عبد الله العارض، ويتمثّل دور شهرزاد كما نقرأ في الصّفحة الموالية: «أقنع حسن نفسَه أنه لم يتخلَّ تمامًا عن موضوع أطروحته بشروعه في عمل متعلق بالترجمة، بل شعر بأنه يتعرّف على التوحيدي بشكلٍ أفضل من خلال «الليالي». كان يعتقد جدّيًا أنّه يستطيع دمج نتيجة نشاطه الجديد في بحثه الأكاديمي، وبالفعل كان لديه مدخل ذو قيمة واعتبار: يتألف «الإمتاع والمؤانسة» بشكلٍ مدهش من أربعين ليلة يتحدّث أثناءها التوحيدي مع الوزير أبي عبد الله العارض، واللافت للانتباه أنه كشهرزاد يتكلم بالليل ويسكت مع اقتراب النهار»(ص92).

جميع شخوص هذه الرّواية وحكاياتها هي وليست هي. بل إنّ من النقّاد من رأى أن نصّ الرّواية ذاتَه شبيه بنصّ رواية «أنبئوني بالرؤيا»، وأنّ المؤلِّف لم يقدِّم حكاية جديدة، وإنّما غيّر فقط أسماء إسماعيل كملو إلى حسن ميرو، وكتاب «ألف ليلة وليلة» إلى كتاب «مثالب الوزيرين» للتّوحيدي، والكتاب الضّائع في هذا النصّ، بالمخطوط الذي يعثر عليه بطل «أنبئوني بالرؤيا» من بائع الكتب القديمة أثناء رحلته إلى أميركا. وحتى الأستاذ المشرف في الرواية الأخيرة لم يظهر هو كذلك حماسًا لمشروع حسن، وحاول صرفه عنه، على نحو ما فعل أستاذ إسماعيل كملو -في «أنبئوني بالرؤيا»- بتذكيره بالمقالات التي تناولتْ الموضوع.
لا ينكر كيليطو هذه العلاقة ، غير أنه يعمّمها على كتبه جميعها. يقول في أحد استجواباته: «بصفة عامة، أحاول ربط اتصال بين كتبي بهدف تكثيف الدّلالة العامة وإثرائها. كلّ كتاب لي يحمل صدى لسابقيه، وفي النّهاية أرى أنني مؤلِّف كتاب واحد لا ينفكّ يُعاد ويعود».

يتخلى كيليطو عن دور الرّاوي الذي يسرد ليتقمّص دور المترجم الذي ينساق وراء الاستنساخات محاولًا ملاحقة ما يتولّد عنها من نظائر. السّرد هنا آلية استنساخ، إلاّ أنّه ليس مجرد آلية مرآتية، وإنّما هي آلية فعّالة تولّد النظائر والسيمولاكرات. فالنّسخ هنا تعمل في أصولها بأن تجعل منها نسخًا لها. نحن هنا أمام عالم البدائل والنظائر dédoublement حيث يسكن الآخر الذّات، ولا يكون الآخرُ إلا بُعدَ الذّات عن نفسها، ذلك البُعد الذي يجعلها، في اختلافها، شبيهة بالآخر. في هذا العالم تغدو الهوية تكرارًا، ولن يكون هناك حضور للشّيء إلاّ بنظائره وبدائله، إلاّ في عودته من حيث هو نسخة من نسخ لا متناهية. لن يكون تحديد الهويّة إذن، إلاّ متابعة للنظائر Les doubles وملاحقة لها. بفضل هذه الآلية يغدو «التدوين تكوينا» كما كتب أحد النقّاد، وتصبح للكتابة قوّة فعل، وللكتاب قوّة تأثير. وتغدو الوقائع هي ما يُروى. ويصبح السرد خلقًا لواقع Il crée du réel.

فهذه الرواية، كما لمسنا، لا تروي إلاّ عن كتب وعن حكايات مستمدة من مصادر متعددة. من الرّواية، وبفضلها، يستمد الحدث قوّته و ليس من وقوعه، وإنّما ممّا حُكي عنه. مقابل مفهوم «مفعول الواقع» الذي يتحدث عنه بارت، يمكننا أن نتحدّث هنا عن «مفعول الحكي»، بله عن «مفعول الترجمة».

وهكذا ننتقل من سرد كرونولوجي إلى ما يمكن أن ننعته بالسّرد الجينيالوجي الذي ينير فيه اللاحق السّابق ويتبيّنه فيه. فكلّ حكاية لا تجرى إلاّ في اختلاطها بحكايات أخرى. وليس السّرد هنا متابعة تعاقب أحداث وتسلسل وقائع، وإنّما هو تقصّي حركة الاستنساخ اللامتناهية التي لا تفتأ تولّد النّظائر.

تبدأ الرّواية بفعل مضارع وبتكراٍر لما سبق: «يحدث هذا، مرّة أخرى، في بيت والديّ» (ص11). البداية استئناف. فنحن، بالعبارة الخلدونية، أمام نشأة مستأنفة وكون مستحدث، أمام آلية التكرار. نجد هذا الأمر عند كيليطو في كثير من كتاباته منذ «الكتابة والتناسخ». إنّها استراتيجية مستعارة من استراتيجيات الحكي في اللّيالي. لا فاصل هنا يفصل الماضي عن الحاضر، ولا ما هو عجائبي عمّا هو واقعي، ولا حدود تفصُل التّدوين عن التّكوين، والكتابَ عن العالم.

يبدو كتاب التّوحيدي «مثالب الوزيرين» بطلاً لهذه الرواية. والحقيقة أنّ هذا الكتاب ليس إلاّ نظيرًا من نظائر، ليس إلاّ نسخة من الكتب الملعونة التي طالما أشار إليها كيليطو. وهو يؤكّد ذلك في أحد استجواباته: «سبق أن تطرّقت إلى هذا الموضوع، بصيغة مختلفة، في «العين والإبرة»، عندما درست حكاية في «الليالي» عن كتاب مسموم يميت من يقلّب أوراقه. والمثير للانتباه أنّ كتاب «الليالي» نفسه قيل إنّ من يقرأه بالكامل يُصاب بأذى. حضور كتاب أبي حيان التوحيدى «مثالب الوزيريْن»، وما اقترن بالكتاب من إشاعات تُردِّد بأنّ من يقرأه يُعاني من انتكاسة خطيرة، يقترن بحضور تأثير قراءة «ألف ليلة وليلة» في رواية «أنبئوني بالرؤيا» حيث شاع أيضًا، أنّ مَن يقرأ الليالي كلها يموت بعدها».

ما يهمّنا هنا هو حديث المؤلِّف عن «مفعول الترجمة» بهذا الصدد عندما يتساءل: هل كتاب «المثالب» خطير في اللغة العربية فقط أم في أية لغة؟ هل يُلغَى تأثيره في التّرجمة؟ هل يصير غير ضارّ في لسان آخر، أو على الأقل بدرجة أقلّ؟ وهل سبق أن أثيرت هذه القضية فيما مضى؟ ثم ماذا عن الوقت الحاضر؟» (ص96). والظّاهر أن سارد هذه الرواية مقتنع بمفعول التّرجمة هذا، وبكونها تخفّف من مساوئ الكتاب إن لم تقض عليها كليًا: «لو كانت(نورا) قد تعلَّمت العربيّة، هل كانت ستقدم له هذا العرض؟ ألم تكن تشعر بأنّها محمية بلغتها الخاصة؟ أليست التّرجمة مأوى سليمًا، لا سيما وأنّ النّسخة الفرنسية، في هذا الظّرف، مجزّأة، وبالتّالي لم يعد «المثالب» فيها الكتابَ نفسَه، وبعبارة أخرى فإنّ خطره على نورا محدود، إن لم يكن منعدمًا تمامًا» (ص107).

لا تكتفي الترجمة إذن، باستنساخ الشخوص والحكايات، وإنّما قد تقي شرّ الكتب الملعونة وتخفّف من مساوئها، بل إنّها قد تترجم الشخوص والحكايات جميعها وتنقلها إلى صور. ذاك ما سيصادفه حسن ذات مساء، سنوات فيما بعد، حيث كان يمشي بلا هدف بشارع السّين، حيث «رأى صورة المرأة المجنّحة في واجهة إحدى قاعات العرض الفني. بداخلها أشخاص على محيّاهم علامات الارتياح، بينهم نورا متوهجة وبجانبها يوليوس موريس. على الجدران لوحاتها، تسعةٌ وتسعون».

*كيليطو. عبد الفتاح، والله إن هذه الحكاية لحكايتي، المتوسط، إيطاليا 2021.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى