هذا ليس تلخيصًا لكتاب، جرت العادة أن تُستبدل سطوره بوجهة نظرٍ أو لمحةٍ عامة خُطَت بترتيبٍ آخر للغلاف، حارقةً الجذور الأصليّة التي تختفي وراءها الحكاية، أو مُبالغة في البريق الزائل لمجرد التقاطه.
وهذه ليست قراءة لكتاب، بطيئةً أتنقلُ فيها بين خطوط المقدّمة، وأدخلُ في صلب الموضوع عبر عرض موجزٍ ومكثّف ودقيق، ثم أقفل المقال بخاتمة مناسبة تفي بغرض المهنة، حاجبةً رأيي الشخصيّ في زاوية ما، أو رافعةً حاجبي بين إحدى الكلمات موحيةً بنتفٍ من التعليقات، فهنا لا مجال للـ نعم أو الـ لا، الهندسة الصحافيّة واضحة لا لبس فيها عندما تستدعي منكَ أن تعمّر بناء لكتابٍ قرأته، التجاوز هنا غير مسموح، باستثناء الأسلوب الذي تعبرُ مياهه بين أصابعك دون أن تشعر.
وهذا ليس تحليلًا نقديًّا أُشرّحُ فيه كتلة العمل، والإسقاطات التي تقف وراءه مكتوفة الأيدي، والظروف التي تداعت للنيل من الذروة، أو للوصول إليها، عبر تشابكٍ لغويّ عقليّ معرفيّ ثقافيّ مُحكم، قادنا إلى آلافٍ من النظريّات والكتب التي تهدف أولًا وأخيراً إلى قول شيء واحد: الإبداع ليس له مدرسة.
أنا هنا في لقاءٍ حيٍّ ومباشرٍ مع كتاب، أقامَ في بيتي منذ فترة وجيزة، لا أعلم إن طاب له السكن مع جثث تناقضاتي، وهو الوحيد المزدحم، الحزين السعيد، المتشائم المتفائل، العنيد الصبور، الحاقد المتسامح، الهادئ الثائر.
اقترحتُ عليهِ صباح اليوم، وقبلَ أن يخلد إلى صمته المعتاد قرب النافذة، وقبل أن أنسلّ أنا إلى يومي هائمةً بمخيلته البرية، لماذا لا نكتب عن الشخوص الذي قفزت من أضلاعه وسكنت بيتي؟
لماذا لا أجهز قلمًا ودفترًا لكتابٍ يرفض الجلوس في مكتبة؟
وأين المشكلة إن صار الكلام الذي دار بيننا أثناء القراءة مكتوبًا في مقال؟
الكتاب يُدحرجُ الفتات فوق الطاولة
والقارئ يلهو في ترتيب النهاية
الكتاب يثقب صور الحائط
والقارئ يهرب إلى أحلامه.
لماذا لا نتبادل أطراف الحديث مع فنجان قهوة؟ لا لا ليست للعزيمة هنا علاقة بعنوانكَ أيها الكتاب "قهوة الجنرال"، لكنني أظن أن حميميةً تجمعني مع رائحة الورق لا بدّ أن يكون طرفها الثالث فنجان قهوة.
خفت في البداية من رفضه، فقد وصلني نزقه ومزاجه المتقلب طيلة فترة مكوثه هنا، فهو وحيدٌ وضجر، لا يلبسُ الغبار أن يذوق طعمه حتى تموء قطة غلافه السوداء، لا دخلَ له بوقفاتكَ الطويلة عند فصلٍ أو جملةٍ أو نقطة، فليس في الجسد من نافذة إلاّ وخُلِعت، وما من مهرب من الفيضان سوى الغناء بلغة ليست مألوفة لدينا، لم نعتد استخدامها كي نطمئن.
لكنني أقنعته وتركته يتصرف كما لو كان في زنزانته يُهندسُ رئتيه فوق ورق السجائر، اختارَ أن يجلسَ قرب السلّم الخشبي على الشرفة، قال لي:
"لقد كُتِب على السلّم أن يبقى واقفًا هكذا: قدماه راسختان في الأرض ويداه مرفوعتان نحو السماء، لا يستطيع الجلوس أو الركوع أو النوم، إنها السلالم التي ترفع السماء بسواعدها. صنعها الإنسان على شاكلته، وجعلها معراجًا للروح، ترتقي فوقه درجًة بعد درجة، ثم تعود إلى الأرض لتجعلها أكثر جمالًا وبهجة".
طلب مني أن أخفضَ موسيقى رحمانينوف، أعجبته ضوضاء الجيران الخفيفة المتساقطة مع شرانق الضوء فوق نباتات الشرفة، معالق، ارتطام صحون، أمهاتٌ يصرخن في مطابخهن، مطرقةٌ تدقُ مسمارًا بعيدًا.
وكي يطمئن قليلًا، رحتُ أبحث عن كتابٍ قديم في المكتبة، بينما كان يحدق في السماء، قاطعتُ طيور نظراته: أظنكَ تحبُّ هذه القصيدة للوركا:
أريد أن أعود إلى الطفولة
ومن الطفولة إلى الظلّ
أتذهب أيها العندليب؟
اذهب.
أريد أن أعود إلى الظل
ومن الظل إلى الزهرة.
أتذهب، أيها الشذى؟
أريد أن أعود إلى الزهرة.
ومن الزهرة
إلى قلبي.
أتذهب أيها الحبّ؟
وداعًا
إلى قلبي المقفر.
هل تحب أن يبدو المكان الذي يجمعنا الآن شبيهًا بخشبة المسرح، إضاءة أو تعتيم، كالرواية تماماً التي قسّمت أحداثها وسيرها بما يشبه الفصول المسرحيّة؟
الكتاب: انتظري حتى يطلع الضوء.
يطلع الضوء ويغيب يمحو النجوم ويعيد رسمها من جديد
منذ الأزل وهو يطلع ويغيب: قبل الروح، قبل القلب وتقوّس الأضلاع وفطنة الأصابع، قبل الموجة والصخرة والنورس، قبل الريح المواتية والمد الأخرس، وقبل الجسد المنتصب واللغة، منذ أن طفت خشبة وانتفخ شراع، وبكت غيمة عابرة فوق الجمر، منذ المغارة والنار والبذرة والبارود....منذ القبلة الأولى والولادة والموت.
هذه المفردات رافقتك كثيرًا وكأننا في حضرة جوقة على مدرج رومانيّ، ما إن تنتهي الأغاني حتى يظهر البطل، لا ليس البطل، إنه مونولوج الأشياء التي رافقت السرد منذ البداية.
الكتاب: نعم صحيح، كانت الأرض مفروشة بغلالة شفافة من العفن الفوسفوري، عفن نسجته الرطوبة والكائنات الدقيقة والنسيان، وكان الزمان قططًا سوداء وأحداقًا ترقص فيها النار، لم يكن المكان قفصًا ذهبيٍّا بالطبع، بل مجرد قبو صغير مظلم، محكم الإغلاق، بأربعة جدران وأربع زوايا تحرسها ثلاث قطط متوحشة.
في فصل "ممارسة الحب مع وردة ذابلة"، تذكرت ريلكه في قصيدته الوردة، حيث غرقنا مع الجذور، صوب حزن الوردة من التفافها المعمر حول نفسها، حتى خرجنا والندى يطفو فوق أجسادنا، يقول في أحد المقاطع:
وردة وحيدة هي الورود جميعاً
هي التي لا يحلّ محلها
هي الكاملة
المحاطة بنص العالم
من دونها كيف سنقول
ما كانت رجاءاتنا
وما كانت رغائبنا الرقيقة
هل كان ينبغي، أيتها الوردة، تركك في العراء
أيتها الوردة العزيزة؟
ماذا تفعل هنا وردة في هذا المكان؟
الذي يضنينا فيه القدر.
الكتاب: يستطيع الرجل أن يمارس الحب مع وردةٍ إذا أراد، وردة حقيقية شامية حمراء، بحجم قبضة الكف الندية، وصلتنا في إحدى الزيارات مع باقة كبيرة متبرجة من الزنبق والقرنفل والفل....اشتهيتُ إحدى تلك الوردات، فطلبتها من صاحبها، ولم أكتفِ بشمّها وتقبيلها، بل مارست معها الحب سراً حتى ذبلت.
هل كان خوفك أكثر وأنت تحبو في الزنزانة، أم وأنت تخرج مكتملاً من ذاكرة الكاتب؟
الكتاب: لم أكن في أي سجن، بل كنت أجلس في الزاوية، أجلس وأهذي...تحولت رغمًا عني إلى مثلث بلا قاعدة، غرست رأسي فوق مزبلة الرماد العارمة... رفعت كتفي سبورة للغبار. فتحت رجلي كثيرًا كي تمر الهاوية...كانت الجبال تتناسل من تحت إبطي، والعشب اليابس يطلّ من بين أضلاعي...وكانت اليرقات تنقط من زاويتي السفلى وأنا أنتظر أن تمر العاصفة.
غاب الجدار الرابع عن الوعي، بينما أخذت شخوصك تتلمس مكانها الجديد، كيف عالجت مخيلتك غياب الخشبة والممثلين؟
الكتاب: من الطبيعي أن يكون ثمة جدار رابع غير مرئي يفصل بينه وبين جيش من الأقواس والرؤوس السوداء الصامتة ذات العيون اللامعة المتربصة به
لكن الجدار الرابع الوهمي لم يكن وهميًّا هذه المرة، حلّت محله كوّة صغيرة مرتفعة ومرّ وقت طويل جدًّا قبل أن يعي بأنه يجلس بين أربعة جدران حقيقية.
ألم تتعبك تفاصيل الكاتب وهو ينبشها من لحم الذاكرة، قل لي هل أخافتك رجفة أصابعه:
الكتاب: وهل يصبح الألم يتيمًا؟
سنوات كثيرة سترف كأجنحة النوارس فوق مسلخ الغروب
سنوات تحترق كالعشب اليابس بين حجارة الخرائب
كالجفون المفتوحة قسرًا أمام شمس الصيف، أحداث كثيرة ستجري تحت جسر الفصول التي تحولت رغمًا عنها إلى فصل واحد، فصل دائم طويل، إلى حكايات مستديرة مسننة تأكل أبطالها.
ألا يجب أن نجد شيئًا نقوله لأبنائنا؟
حدثني عن طفولتك قليلًا؟ أين كنت تعيش قبل أن تكبر ويصير في جعبتك عنوان وحكاية؟
الكتاب: عندما كنت صغيرًا كانت الأرض بالنسبة لي مجرد كرة من الخرق ألهو بها وتلهو بي، كبرت كثيرًا، أكبر في وطن مؤثث بالصخور السوداء وطنافس التين، جئت متأخرًا عن الثورة السوريّة الكبرى، ولكنني كنت مثل الجميع أجلس على الطين اليابس، أنتعل الطين الرخو، أنام تحت الطين والتبن المرصوص، أهلي لا يعرفون الأنهار والبحار والغابات، كانوا يفترشون الجرود والوديان وسفوح الجبال يلتحفون الغيم والغبار يزرعون القمح والشعير والحبق، نافذتهم الوحيدة هي السماء.
الشمس أخذت بالغياب، لطالما أحزنتكَ الشمس، هل ندخل إلى الصالون؟
الكتاب: الشمس موجودة في كل مكان قادرة وحدها أن ترانا إلى الأبد، أمام الجدران وخلف النوافذ تحت الماء وتحت التراب، لا شيء يستطيع أن يمنعها أو يحجبها عنا...حتى عندما نكون داخل الرحم ترانا، ثمن الشمس مرتفع جدًّا في بلادنا، بلاد الشمس والرمل والغبار.
لكنك عدَلت في سطر آخر عن رأيك وقلت: ثمن الضوء مرتفع جدًّا في بلادنا وليس الشمس؟
الكتاب: لا يمكن لحياة أن تستمر أو أن تكون أصلاً إلا بوجود هذا الثنائي العظيم؛ العتمة والضوء.... العتمة تنسل الضوء والضوء ينسل العتمة، وكلّ منهما سبب لوجود الآخر ووجود الأشياء والأحياء ولكن أين الضوء؟ متى سيأتي؟
في الصفحات الأخيرة من جسدكَ، لمسنا وشومًا كثيرة تحمل كلمات لا تنسى، حتى أنني اقتطفت بعضًا منها وكتبتها في دفتري الصغير، تكثيف مطلق للألم عبر صورة الأمّ والحبيبة والبيت والأرصفة، غابةٌ من الشعر التي لم تطأها قدم بشريّة:
لم تهب الريح يوم عودتي
لم ترقص الأشجار.
سألت عن شجيرتي فلم أجدها واقفة
هل كان الحنين إلى تلك الأمكنة حنينًا إلى الأبيض والأسود؟
أم هروبًا إلى ألوان الطين؟
كنت أسأل الجدران السميكة العمياء عن نوافذها.
أليس من حق المكان أن يكون له نافذة واحدة على الأقل، نافذة بلا قضبان تقف في وجه الشمس؟
وكنت أسأل الجدران النخرة عن تلك التواريخ والأسماء المحفورة فوقها.
كنت أظن أننا نمشي كي نمحو آثار الخطوات التي خلفها من سبقونا، لكن تبين لي أننا نقتفي آثارهم، وإنّ كثر احتكاك نعالنا بالأرصفة لا تؤدي إلا إلى شيء واحد هو تآكلها.
يجب علينا أن نقيس أعمارنا بعدد الخطوات وليس بعدد الأحذية.
لو كانت أمي تستطيع أن تعيد التجربة، لخرجتُ من رحمها مباشرًة إلى خشبة تحرقُها الشمس وتركت الموج يقودني حيث يشاء.
الكتاب: كانت الكلمات عالقة بين المرايا ولم أكن أستطيع السماح لها بالخروج قبل أن أتمكن من تمشيط شعرها وتسليحها بخناجر الكحل.
لا شيء أكثر مذلة من الكلمة التي لا تقال.
أشرتُ إليه بيدي إلى غيمةٍ سميكة تعبر فوقنا، رغبةً مني في تخفيف حدة حزنه وملله، بعد أن أصابت الريح وشوم ذراعه بذاكرة أخرى، رحتُ أقرأ بصوت عالٍ:
عنوانكَ جاء لغزًا "قهوة الجنرال"، لصديقكَ الكاتب والمسرحي غسان الجباعي، نلتَ المركز الثاني في جائزة المزرعة عام 2014، وكنتَ....
قاطعني الكتابُ وخرج متجهًا نحو مقعدين من حجرٍ فوق جرفٍ يطلّ على ذلك البحر، كان يردد:
حيث لم يتغير شيء في المشهد السماويّ، سوى أنهم نصبوا شباكًا من القضبان الحديديّة العملاقة تعزل اليابسة عن الماء أو الماء عن اليابسة.
وهذه ليست قراءة لكتاب، بطيئةً أتنقلُ فيها بين خطوط المقدّمة، وأدخلُ في صلب الموضوع عبر عرض موجزٍ ومكثّف ودقيق، ثم أقفل المقال بخاتمة مناسبة تفي بغرض المهنة، حاجبةً رأيي الشخصيّ في زاوية ما، أو رافعةً حاجبي بين إحدى الكلمات موحيةً بنتفٍ من التعليقات، فهنا لا مجال للـ نعم أو الـ لا، الهندسة الصحافيّة واضحة لا لبس فيها عندما تستدعي منكَ أن تعمّر بناء لكتابٍ قرأته، التجاوز هنا غير مسموح، باستثناء الأسلوب الذي تعبرُ مياهه بين أصابعك دون أن تشعر.
وهذا ليس تحليلًا نقديًّا أُشرّحُ فيه كتلة العمل، والإسقاطات التي تقف وراءه مكتوفة الأيدي، والظروف التي تداعت للنيل من الذروة، أو للوصول إليها، عبر تشابكٍ لغويّ عقليّ معرفيّ ثقافيّ مُحكم، قادنا إلى آلافٍ من النظريّات والكتب التي تهدف أولًا وأخيراً إلى قول شيء واحد: الإبداع ليس له مدرسة.
أنا هنا في لقاءٍ حيٍّ ومباشرٍ مع كتاب، أقامَ في بيتي منذ فترة وجيزة، لا أعلم إن طاب له السكن مع جثث تناقضاتي، وهو الوحيد المزدحم، الحزين السعيد، المتشائم المتفائل، العنيد الصبور، الحاقد المتسامح، الهادئ الثائر.
اقترحتُ عليهِ صباح اليوم، وقبلَ أن يخلد إلى صمته المعتاد قرب النافذة، وقبل أن أنسلّ أنا إلى يومي هائمةً بمخيلته البرية، لماذا لا نكتب عن الشخوص الذي قفزت من أضلاعه وسكنت بيتي؟
لماذا لا أجهز قلمًا ودفترًا لكتابٍ يرفض الجلوس في مكتبة؟
وأين المشكلة إن صار الكلام الذي دار بيننا أثناء القراءة مكتوبًا في مقال؟
الكتاب يُدحرجُ الفتات فوق الطاولة
والقارئ يلهو في ترتيب النهاية
الكتاب يثقب صور الحائط
والقارئ يهرب إلى أحلامه.
لماذا لا نتبادل أطراف الحديث مع فنجان قهوة؟ لا لا ليست للعزيمة هنا علاقة بعنوانكَ أيها الكتاب "قهوة الجنرال"، لكنني أظن أن حميميةً تجمعني مع رائحة الورق لا بدّ أن يكون طرفها الثالث فنجان قهوة.
خفت في البداية من رفضه، فقد وصلني نزقه ومزاجه المتقلب طيلة فترة مكوثه هنا، فهو وحيدٌ وضجر، لا يلبسُ الغبار أن يذوق طعمه حتى تموء قطة غلافه السوداء، لا دخلَ له بوقفاتكَ الطويلة عند فصلٍ أو جملةٍ أو نقطة، فليس في الجسد من نافذة إلاّ وخُلِعت، وما من مهرب من الفيضان سوى الغناء بلغة ليست مألوفة لدينا، لم نعتد استخدامها كي نطمئن.
لكنني أقنعته وتركته يتصرف كما لو كان في زنزانته يُهندسُ رئتيه فوق ورق السجائر، اختارَ أن يجلسَ قرب السلّم الخشبي على الشرفة، قال لي:
"لقد كُتِب على السلّم أن يبقى واقفًا هكذا: قدماه راسختان في الأرض ويداه مرفوعتان نحو السماء، لا يستطيع الجلوس أو الركوع أو النوم، إنها السلالم التي ترفع السماء بسواعدها. صنعها الإنسان على شاكلته، وجعلها معراجًا للروح، ترتقي فوقه درجًة بعد درجة، ثم تعود إلى الأرض لتجعلها أكثر جمالًا وبهجة".
طلب مني أن أخفضَ موسيقى رحمانينوف، أعجبته ضوضاء الجيران الخفيفة المتساقطة مع شرانق الضوء فوق نباتات الشرفة، معالق، ارتطام صحون، أمهاتٌ يصرخن في مطابخهن، مطرقةٌ تدقُ مسمارًا بعيدًا.
وكي يطمئن قليلًا، رحتُ أبحث عن كتابٍ قديم في المكتبة، بينما كان يحدق في السماء، قاطعتُ طيور نظراته: أظنكَ تحبُّ هذه القصيدة للوركا:
أريد أن أعود إلى الطفولة
ومن الطفولة إلى الظلّ
أتذهب أيها العندليب؟
اذهب.
أريد أن أعود إلى الظل
ومن الظل إلى الزهرة.
أتذهب، أيها الشذى؟
أريد أن أعود إلى الزهرة.
ومن الزهرة
إلى قلبي.
أتذهب أيها الحبّ؟
وداعًا
إلى قلبي المقفر.
هل تحب أن يبدو المكان الذي يجمعنا الآن شبيهًا بخشبة المسرح، إضاءة أو تعتيم، كالرواية تماماً التي قسّمت أحداثها وسيرها بما يشبه الفصول المسرحيّة؟
الكتاب: انتظري حتى يطلع الضوء.
يطلع الضوء ويغيب يمحو النجوم ويعيد رسمها من جديد
منذ الأزل وهو يطلع ويغيب: قبل الروح، قبل القلب وتقوّس الأضلاع وفطنة الأصابع، قبل الموجة والصخرة والنورس، قبل الريح المواتية والمد الأخرس، وقبل الجسد المنتصب واللغة، منذ أن طفت خشبة وانتفخ شراع، وبكت غيمة عابرة فوق الجمر، منذ المغارة والنار والبذرة والبارود....منذ القبلة الأولى والولادة والموت.
هذه المفردات رافقتك كثيرًا وكأننا في حضرة جوقة على مدرج رومانيّ، ما إن تنتهي الأغاني حتى يظهر البطل، لا ليس البطل، إنه مونولوج الأشياء التي رافقت السرد منذ البداية.
الكتاب: نعم صحيح، كانت الأرض مفروشة بغلالة شفافة من العفن الفوسفوري، عفن نسجته الرطوبة والكائنات الدقيقة والنسيان، وكان الزمان قططًا سوداء وأحداقًا ترقص فيها النار، لم يكن المكان قفصًا ذهبيٍّا بالطبع، بل مجرد قبو صغير مظلم، محكم الإغلاق، بأربعة جدران وأربع زوايا تحرسها ثلاث قطط متوحشة.
في فصل "ممارسة الحب مع وردة ذابلة"، تذكرت ريلكه في قصيدته الوردة، حيث غرقنا مع الجذور، صوب حزن الوردة من التفافها المعمر حول نفسها، حتى خرجنا والندى يطفو فوق أجسادنا، يقول في أحد المقاطع:
وردة وحيدة هي الورود جميعاً
هي التي لا يحلّ محلها
هي الكاملة
المحاطة بنص العالم
من دونها كيف سنقول
ما كانت رجاءاتنا
وما كانت رغائبنا الرقيقة
هل كان ينبغي، أيتها الوردة، تركك في العراء
أيتها الوردة العزيزة؟
ماذا تفعل هنا وردة في هذا المكان؟
الذي يضنينا فيه القدر.
الكتاب: يستطيع الرجل أن يمارس الحب مع وردةٍ إذا أراد، وردة حقيقية شامية حمراء، بحجم قبضة الكف الندية، وصلتنا في إحدى الزيارات مع باقة كبيرة متبرجة من الزنبق والقرنفل والفل....اشتهيتُ إحدى تلك الوردات، فطلبتها من صاحبها، ولم أكتفِ بشمّها وتقبيلها، بل مارست معها الحب سراً حتى ذبلت.
هل كان خوفك أكثر وأنت تحبو في الزنزانة، أم وأنت تخرج مكتملاً من ذاكرة الكاتب؟
الكتاب: لم أكن في أي سجن، بل كنت أجلس في الزاوية، أجلس وأهذي...تحولت رغمًا عني إلى مثلث بلا قاعدة، غرست رأسي فوق مزبلة الرماد العارمة... رفعت كتفي سبورة للغبار. فتحت رجلي كثيرًا كي تمر الهاوية...كانت الجبال تتناسل من تحت إبطي، والعشب اليابس يطلّ من بين أضلاعي...وكانت اليرقات تنقط من زاويتي السفلى وأنا أنتظر أن تمر العاصفة.
غاب الجدار الرابع عن الوعي، بينما أخذت شخوصك تتلمس مكانها الجديد، كيف عالجت مخيلتك غياب الخشبة والممثلين؟
الكتاب: من الطبيعي أن يكون ثمة جدار رابع غير مرئي يفصل بينه وبين جيش من الأقواس والرؤوس السوداء الصامتة ذات العيون اللامعة المتربصة به
لكن الجدار الرابع الوهمي لم يكن وهميًّا هذه المرة، حلّت محله كوّة صغيرة مرتفعة ومرّ وقت طويل جدًّا قبل أن يعي بأنه يجلس بين أربعة جدران حقيقية.
ألم تتعبك تفاصيل الكاتب وهو ينبشها من لحم الذاكرة، قل لي هل أخافتك رجفة أصابعه:
الكتاب: وهل يصبح الألم يتيمًا؟
سنوات كثيرة سترف كأجنحة النوارس فوق مسلخ الغروب
سنوات تحترق كالعشب اليابس بين حجارة الخرائب
كالجفون المفتوحة قسرًا أمام شمس الصيف، أحداث كثيرة ستجري تحت جسر الفصول التي تحولت رغمًا عنها إلى فصل واحد، فصل دائم طويل، إلى حكايات مستديرة مسننة تأكل أبطالها.
ألا يجب أن نجد شيئًا نقوله لأبنائنا؟
حدثني عن طفولتك قليلًا؟ أين كنت تعيش قبل أن تكبر ويصير في جعبتك عنوان وحكاية؟
الكتاب: عندما كنت صغيرًا كانت الأرض بالنسبة لي مجرد كرة من الخرق ألهو بها وتلهو بي، كبرت كثيرًا، أكبر في وطن مؤثث بالصخور السوداء وطنافس التين، جئت متأخرًا عن الثورة السوريّة الكبرى، ولكنني كنت مثل الجميع أجلس على الطين اليابس، أنتعل الطين الرخو، أنام تحت الطين والتبن المرصوص، أهلي لا يعرفون الأنهار والبحار والغابات، كانوا يفترشون الجرود والوديان وسفوح الجبال يلتحفون الغيم والغبار يزرعون القمح والشعير والحبق، نافذتهم الوحيدة هي السماء.
الشمس أخذت بالغياب، لطالما أحزنتكَ الشمس، هل ندخل إلى الصالون؟
الكتاب: الشمس موجودة في كل مكان قادرة وحدها أن ترانا إلى الأبد، أمام الجدران وخلف النوافذ تحت الماء وتحت التراب، لا شيء يستطيع أن يمنعها أو يحجبها عنا...حتى عندما نكون داخل الرحم ترانا، ثمن الشمس مرتفع جدًّا في بلادنا، بلاد الشمس والرمل والغبار.
لكنك عدَلت في سطر آخر عن رأيك وقلت: ثمن الضوء مرتفع جدًّا في بلادنا وليس الشمس؟
الكتاب: لا يمكن لحياة أن تستمر أو أن تكون أصلاً إلا بوجود هذا الثنائي العظيم؛ العتمة والضوء.... العتمة تنسل الضوء والضوء ينسل العتمة، وكلّ منهما سبب لوجود الآخر ووجود الأشياء والأحياء ولكن أين الضوء؟ متى سيأتي؟
في الصفحات الأخيرة من جسدكَ، لمسنا وشومًا كثيرة تحمل كلمات لا تنسى، حتى أنني اقتطفت بعضًا منها وكتبتها في دفتري الصغير، تكثيف مطلق للألم عبر صورة الأمّ والحبيبة والبيت والأرصفة، غابةٌ من الشعر التي لم تطأها قدم بشريّة:
لم تهب الريح يوم عودتي
لم ترقص الأشجار.
سألت عن شجيرتي فلم أجدها واقفة
هل كان الحنين إلى تلك الأمكنة حنينًا إلى الأبيض والأسود؟
أم هروبًا إلى ألوان الطين؟
كنت أسأل الجدران السميكة العمياء عن نوافذها.
أليس من حق المكان أن يكون له نافذة واحدة على الأقل، نافذة بلا قضبان تقف في وجه الشمس؟
وكنت أسأل الجدران النخرة عن تلك التواريخ والأسماء المحفورة فوقها.
كنت أظن أننا نمشي كي نمحو آثار الخطوات التي خلفها من سبقونا، لكن تبين لي أننا نقتفي آثارهم، وإنّ كثر احتكاك نعالنا بالأرصفة لا تؤدي إلا إلى شيء واحد هو تآكلها.
يجب علينا أن نقيس أعمارنا بعدد الخطوات وليس بعدد الأحذية.
لو كانت أمي تستطيع أن تعيد التجربة، لخرجتُ من رحمها مباشرًة إلى خشبة تحرقُها الشمس وتركت الموج يقودني حيث يشاء.
الكتاب: كانت الكلمات عالقة بين المرايا ولم أكن أستطيع السماح لها بالخروج قبل أن أتمكن من تمشيط شعرها وتسليحها بخناجر الكحل.
لا شيء أكثر مذلة من الكلمة التي لا تقال.
أشرتُ إليه بيدي إلى غيمةٍ سميكة تعبر فوقنا، رغبةً مني في تخفيف حدة حزنه وملله، بعد أن أصابت الريح وشوم ذراعه بذاكرة أخرى، رحتُ أقرأ بصوت عالٍ:
عنوانكَ جاء لغزًا "قهوة الجنرال"، لصديقكَ الكاتب والمسرحي غسان الجباعي، نلتَ المركز الثاني في جائزة المزرعة عام 2014، وكنتَ....
قاطعني الكتابُ وخرج متجهًا نحو مقعدين من حجرٍ فوق جرفٍ يطلّ على ذلك البحر، كان يردد:
حيث لم يتغير شيء في المشهد السماويّ، سوى أنهم نصبوا شباكًا من القضبان الحديديّة العملاقة تعزل اليابسة عن الماء أو الماء عن اليابسة.