بلال عبدالهادي - كلام في الفتّة

صحن فتّة الحمّص حضرته بيدي، لإلقاء نظرة ضوئيّة إليه ( والفوتوغرافي تعني ، حرفيّاً، الكتابة بالضوء!). هذا طبق مميّز، لأنه لا يمتلك خصائص الأطباق الأخرى. واسمه ، في طرابلس، لطيف لأنّه لا يحب ان يكتفي باسم واحد. فهو فتّة، في أفواه البعض، وتسقية في أفواه البعض الآخر. والاسمان جميلان. الأول لا ينظر الاّ إلى رغيف الخبز الخفيّ في الطبق. حالة الرغيف وهو يتفتت تحت حبّات الحمص. فنحن نفتّ الخبز( ومن هنا ولد الاسم الأوّل).والبعض ينظر إلى مياه الحمّص التي تسقي وتروي ظمأ الخبز المفتوت والمحمّص أو المقليّ بالسمن أو بالزيت بحسب رغبات الأفواه. ولأن الفتّة تعرف كيف تروي غليل الخبز سمّيت "تسقية".وهذا اسمها الثاني. (ولها ثالث سوف يأتي ذكره)
وتحضيرها متعدّد، لأنّ الخبز كالعجين مطواع. ومياه الحمّص "المكربنة" التي امتصّت رحيق حبات الحمّص، تتحول الى مياه ساحرة، البغض يشربها كالشاي، لأنها تهدىء من غضب الحنجرة أو تبّرد على حرارتها من الحلقوم المحموم. هذا فاصل عن الفوائد الجانبية للفتّة.
والفتّة طبق متعدّد كما قلت. وهو مغاير للحمّص الناعم أو المدقوق، او "المسبّحة " " أي الحمّص الحبّ الذي تحولّه الطحينة المخفوقة بالحامض إلى عروس تلبس فستانها الأبيض المهفهف ". والسبب طبيعتها، تكوينها، انها طبق يعيش حياتين، ثنائيّة يعتبرها من حسناته. حياة نباتية وحياة حيوانية بسبب دخول اللبن كعنصر مكوّن لغطائه الابيض الذي يبرق بزيت الزيتون الطبيعي. واللبن من مشتقات الحليب اي انه عنصر حيواني.
يكسر اللبن بقليل من الطحينة. ولا تخلو حياة "الفتّة" من مشاكل موسمية. عرف ياسر عبد الهادي مؤسس "مطعم الدنّون" أن يحلّها من وحي تراث صحن الفتّة ايام الأتراك. كان اللبن دخيلاً على الفتّة، اقتحم مكانة الطحينة وصار يزاحمها الى ان استسلمت له. والطحينة مطيعة على ما يبدو، لأنّ تاريخها مسكون بالطاعة. من ينسى "افتح يا سمسم"؟ والطحينة زيت السمسم الذي يقول:" شبيك لبيك". ولكنّ الفتّة تستعيد دورها " الطحينيّ" في موسم الصيام المسيحي، فهي تحسب باللبن على انها "زفرة"، وللتخلص من زفرتها ، تتدخل الطحينة منفردة فتجعل الحرام حلالا. الفتة باللبن تبطل مفعول الصيام المسيحي، ومن يشتهي الفتّة الحلال يستعين بالطحينة والحامض وبعض أسرار المهنة فتسقط الحرمانية. ومن هنا، اكتسبت اسمها الثالث" فتّة صيامية" والصيامية تعود نسبتها إلى أيّام الصوم المسيحية التي يمتنع فيها المسيحي عن أكل كلّ ما له صلة من قريب أو بعيد باللحم ومشتقاته من بيض او حليب أو لبن…إلخ. وهو بالمناسبة صيام صعب، فيه الكثير من التقشّف والحرمان.
والدنيا دولاب، بعد اربعين يوما، تعود سيرتها اللبنية الأولى في أفواه المسلمين والمسيحيين على السواء. إلى أن يهلّ هلال رمضان المبارك. هنا، تصيرالنجم الأول، تُسْقط طبق الفول عن عرشه ( ليس للفول، في رمضان لبنان ، عزّ، كما في الجزيرة العربيّة او أم الدنيا، ولا أعرف أسباب أفول نجم الفول في رمضانيّات لبنان الا عرضا في السحور). يطوي الفول ذيله وينتظر غروب القمر الرمضاني، وتفتّح الدنيا على العيد ليستعيد حضوره الشهيّ، ويكون اللقاء بين الفول وأفواه الآكلين لحظة شوق تتلمّظها الشّفاه.
رمضان ، في لبنان، للحمّص الناعم، المطحون، والفتّة. المائدة التي تخلو من صحن الفتة، مائدة مبتورة المذاق . تشعر المائدة المحرومة من رائحة الفتّة الفوّاحة بغصّة تنتقل إلى أفواه الصائمين.
هي المدخل، هي الفاتحة للطعام، كالحساء والسوائل الساخنة. مياه الحمّص الزكيّة التي "تُتَشْتِشُ" - والدلال بعض من دلالات التشتشة - الخبز المحمّص ، واللبن الساخن بفضل السمن المحمّى يسهل المضغ والبلع، يمّرنان الحلوم على التهام الأطباق الأساسية.
ثمّ، حين يأتي الشتاء القارس يتقدّم طبق الفتّة أو التسقية لتأمين الدفء. تشعر أعماقك بعد تناوله أنّ البرد ليس بعبعاً لا يقهر. فللفتّة قدرة على إعادة مارد الصقيع إلى قمقمه.
ملحوظة أخيرة تخصّ تزيين صفحته البيضاء بحبات صنوبر أو قلوبات مختلفة من لوز او كاجو.

بلال عبدالهادي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى