اعتقدت عندما رأيته في المرة الأولى يأتي في ساعة الفجر المبكرة ويفترش الأرض قبالة حانوتي لبيع التذكاريات في شارع الكازانوفا، ويمارس طقسه الغريب هناك، اعتقدت أنه م واحد من السياح الكثرين الذين يؤمون مدينتي الناصرة ليتباركوا بها، ويسيروا في طرقاتها المقدسة، يقضون فيها فترة ما ويمضون، غير أن ما حدث في اليوم الثاني اختلف كثيرًا، فقد رأيته يظهر من فضاء الشارع ترافقه علامات الغربة والحزن، يقترب من مكانه قبالة حانوتي، يغطي مكانه بحرام قديم لافت للنظر بغرابة شكله ولونه، يضع مخدة كالحة اللون، يتكئ عليها، بعدها ينتصب في جسده الأعلى، يستخرج بابورًا صغيرًا، يشعله يسكب من زجاجة الماء في مغلاة، يضع المغلاة على البابور، بعد لحظات يمسك بها من يدها، ويسكب بعضًا من مائها الغالي، بعدها يستخرج كيسًا من جيب كبوته العتيق، يحرّك ما سكبه وأضاف اليه المسحوق في كوبه العامر يرفعه إلى شفتيه ويشرب منه رشفة إثر رشفة.. فتعتلي وجهه علامات البشر والسرور.. حتى يبدو انه امتلا بها.. حينها.. بعد لحظات لا تزيد عن العشر دقائق.. كان يضبضب أغراضه الصغيرة بسرعة انسان سعيد.. يحملها في كيسها ليعود بها من حيث أتى.. الى فضاء الشارع المرتفع الممتد.
ما رأيته من ذلك الوافد الغريب استحوذ على اهتمامي المتنامي، انا المهجر ابن المهجر، صاحب ذلك الحانوت، فأخذت أفكر فيه كلّما خلوت إلى نفسي وقلّت حركة المارة في شارعنا المبارك، وكنت كثيرًا ما أتساءل عن سبب سعادته الصغيرة تلك، واتكهن بسببها، ترى ما الذي يجعل انسانًا غريبا في مدينتي الغريبة سعيدًا كل تلك السعادة بمجرد شربه كوبًا من المشروب الساخن؟ أيكون فَرحًا اختزنه في داخله وكان ذلك المشروب جزءًا وامتدادًا منه؟ أم هي الذكريات يحملها ذلك المشروب وينقلها إليه؟..زاد في تساؤلاتي هذه أن ذلك الرجل مُهلهل الثياب دأب على المجيئ إلى مكانه ذاك قبالة حانوتي بانتظام، وقد بقي أمره يجري على الوتيرة ذاتها.. إلى أن حصل ما كنت اتوقعه وأخشاه، فقد تأخر ذلك الرجل الغريب في احد الصباحات عن المجيء إلى مكانه، الامر الذي جعلني أفتقده فأشعر شيئًا ما بنوع من القلق.. ترى ماذا حدث لذلك الغريب المثير؟ أيكون قد حدث له مكروه.. أم ماذا وماذا و.. ماذا.
أكثر من تساؤل الح علي دون أن أجد له إجابة، فقد بات أمر ذلك الرجل الغريب يهمني كثيرًا، لا أعرب بالتحديد، فربما كان ذلك جراء تشابه لمسته يربط فيما بيننا، هو وانا، فنحن غريبان في هذه المدينة، وربما كان ذلك جراء أنني أحببت من جماع قلبي أن اتعرّف عليه وعلى سرّ مشروبه الساخن المُسعد..، ربما كان لهذه الأسباب كلها و.. أكثر.
هكذا أخذت اترقّب أن يأتي الصباح كي أطير إلى حانوتي وكي أفتح بابه العتيق، وخلال عرضي لما لدي من بضائع، أتوقع أن أراه يعود إلى مكانه، قبالة حانوتي وعالمي.. يفترش الأرض ويرسل ابتسامات السُعدة فتملأ الشارع وتعتلي أشجارها، فيشعر بها عصفور مُهجّر، عندها يتحرّك على فرعه القلق الميّاد وينتقل إلى فرع آخر ناشرًا المزيد من السعادة في ذلك الشارع الحبيب والغريب في آن. بعد أيام طوال ذوات حركات بطيئات ثقيلات، وبعد أن أوشكت على الياس من حضوره في صباح جميل بهي الطلعة رائعها، فوجئت به يطل من فضاء الشارع العالي هناك في المرتفع البعيد .. القريب.. في البداية أردت أن أجري إليه أن استطلع سرّ غيابه ذاك، أن أعرف جليّة ما حدث و.. أقلق.. غير أنني فضّلت بعد أن نويت الطيران إليه التروي وعدم التسرّع. فقد علمتني الأيام، بالضبط كما علمني التهجير المّرّ، أن الوقت أيضًا يمكن أن يقدّم إلينا الأجوبة المنشودة.
اندمجت في عملي ابتدأت في عرض ما لديّ من بضائع، في حين شرع هو قبالة حانوتي في إعداد وجبة سعادته الصباحية، تكرّر المشهد الرائع الذي عهدته عيناي منذ ابتدأ ذلك الرجل الغريب في تحريك سكون الصباح والشارع، استخراج الحرام والمخدة وبعدها البابور الصغير فسكب المياه وغليها وبعدها شربها بسعادة تختصر سعادة العالم كله.. عندها لم يكن لدي من القوة ما يمكّنني من التردد أكثر، فجريت إليه مسرعًا، الامر الذي جعله يتلفت متسائلًا. التقت عيوننا وارتفعت حواجبنا، دبّ بيننا شيء من الالفة، أين كنت.. أين اختفيت. سألته بلهفة فردّ بنغمة غامضة. كانت واحدة من محاولات العودة الى ارض الوطن. عندها سألته عن أية محاولة تتحدث، فروى لي حكاية طويلة مفادها أن الحرب قذفت به من بلاده بولونيا إلى بلادنا، وأن غيابه إنما كان واحدة من محاولات عودته الفاشلة. وأكد وهو يرسل نظره الى الفضاء البعيد: لن ايأس سأعود ذات يوم.
في تلك اللحظة كان قد سكب مشروبه الساخن المُسعد في كاسه، وراح يعب منه بنشوته المعهودة المثيرة. فسألته ما هذا المشروب؟ فرد بإغماضة عين وغياب عن الوجود القائم: هذا شايي البولوني.. تريد ان تذوقه؟ فهززت رأسي علامة الايجاب، بعد قليل قدّم لي الشاي.. فشربت منه.. كان شايه يشبه شاينا أيام كنا في قريتنا الوادعة هناك.. في البعيد القريب.
قصة: ناجي ظاهر
ما رأيته من ذلك الوافد الغريب استحوذ على اهتمامي المتنامي، انا المهجر ابن المهجر، صاحب ذلك الحانوت، فأخذت أفكر فيه كلّما خلوت إلى نفسي وقلّت حركة المارة في شارعنا المبارك، وكنت كثيرًا ما أتساءل عن سبب سعادته الصغيرة تلك، واتكهن بسببها، ترى ما الذي يجعل انسانًا غريبا في مدينتي الغريبة سعيدًا كل تلك السعادة بمجرد شربه كوبًا من المشروب الساخن؟ أيكون فَرحًا اختزنه في داخله وكان ذلك المشروب جزءًا وامتدادًا منه؟ أم هي الذكريات يحملها ذلك المشروب وينقلها إليه؟..زاد في تساؤلاتي هذه أن ذلك الرجل مُهلهل الثياب دأب على المجيئ إلى مكانه ذاك قبالة حانوتي بانتظام، وقد بقي أمره يجري على الوتيرة ذاتها.. إلى أن حصل ما كنت اتوقعه وأخشاه، فقد تأخر ذلك الرجل الغريب في احد الصباحات عن المجيء إلى مكانه، الامر الذي جعلني أفتقده فأشعر شيئًا ما بنوع من القلق.. ترى ماذا حدث لذلك الغريب المثير؟ أيكون قد حدث له مكروه.. أم ماذا وماذا و.. ماذا.
أكثر من تساؤل الح علي دون أن أجد له إجابة، فقد بات أمر ذلك الرجل الغريب يهمني كثيرًا، لا أعرب بالتحديد، فربما كان ذلك جراء تشابه لمسته يربط فيما بيننا، هو وانا، فنحن غريبان في هذه المدينة، وربما كان ذلك جراء أنني أحببت من جماع قلبي أن اتعرّف عليه وعلى سرّ مشروبه الساخن المُسعد..، ربما كان لهذه الأسباب كلها و.. أكثر.
هكذا أخذت اترقّب أن يأتي الصباح كي أطير إلى حانوتي وكي أفتح بابه العتيق، وخلال عرضي لما لدي من بضائع، أتوقع أن أراه يعود إلى مكانه، قبالة حانوتي وعالمي.. يفترش الأرض ويرسل ابتسامات السُعدة فتملأ الشارع وتعتلي أشجارها، فيشعر بها عصفور مُهجّر، عندها يتحرّك على فرعه القلق الميّاد وينتقل إلى فرع آخر ناشرًا المزيد من السعادة في ذلك الشارع الحبيب والغريب في آن. بعد أيام طوال ذوات حركات بطيئات ثقيلات، وبعد أن أوشكت على الياس من حضوره في صباح جميل بهي الطلعة رائعها، فوجئت به يطل من فضاء الشارع العالي هناك في المرتفع البعيد .. القريب.. في البداية أردت أن أجري إليه أن استطلع سرّ غيابه ذاك، أن أعرف جليّة ما حدث و.. أقلق.. غير أنني فضّلت بعد أن نويت الطيران إليه التروي وعدم التسرّع. فقد علمتني الأيام، بالضبط كما علمني التهجير المّرّ، أن الوقت أيضًا يمكن أن يقدّم إلينا الأجوبة المنشودة.
اندمجت في عملي ابتدأت في عرض ما لديّ من بضائع، في حين شرع هو قبالة حانوتي في إعداد وجبة سعادته الصباحية، تكرّر المشهد الرائع الذي عهدته عيناي منذ ابتدأ ذلك الرجل الغريب في تحريك سكون الصباح والشارع، استخراج الحرام والمخدة وبعدها البابور الصغير فسكب المياه وغليها وبعدها شربها بسعادة تختصر سعادة العالم كله.. عندها لم يكن لدي من القوة ما يمكّنني من التردد أكثر، فجريت إليه مسرعًا، الامر الذي جعله يتلفت متسائلًا. التقت عيوننا وارتفعت حواجبنا، دبّ بيننا شيء من الالفة، أين كنت.. أين اختفيت. سألته بلهفة فردّ بنغمة غامضة. كانت واحدة من محاولات العودة الى ارض الوطن. عندها سألته عن أية محاولة تتحدث، فروى لي حكاية طويلة مفادها أن الحرب قذفت به من بلاده بولونيا إلى بلادنا، وأن غيابه إنما كان واحدة من محاولات عودته الفاشلة. وأكد وهو يرسل نظره الى الفضاء البعيد: لن ايأس سأعود ذات يوم.
في تلك اللحظة كان قد سكب مشروبه الساخن المُسعد في كاسه، وراح يعب منه بنشوته المعهودة المثيرة. فسألته ما هذا المشروب؟ فرد بإغماضة عين وغياب عن الوجود القائم: هذا شايي البولوني.. تريد ان تذوقه؟ فهززت رأسي علامة الايجاب، بعد قليل قدّم لي الشاي.. فشربت منه.. كان شايه يشبه شاينا أيام كنا في قريتنا الوادعة هناك.. في البعيد القريب.
قصة: ناجي ظاهر