إبراهيم قيس جركس - الدين في سياق التّطوّر البشري: الجزء الأول (التّطوّر المشترك بين الآلهة والبشر). ترجمة: إبراهيم قيس جركس

أندرو براون Andrew Brown

كتاب روبرت بيلا المهم هو وصف للطّرق التي ابتكر بها البشر الأديان، وكيف صَنعتنا الأديان.

لَم أتعافى تماماً بعد من نوبتي القلبيّة، لكنّي قضيتُ فترة نقاهتي أقرأ كتاب روبرت بيلا "الدين عبر التطوّر البشري: من العصر الحجري القديم إلى العصر المحوري" Religion in Human Evolution: From the Paleolithic to the Axial Age، وهو كتابٌ قويٌّ جدّاً إلى الحَدّ الذي قد يدفعني إلى الكتابة عنه على أيّ حال. إنَّه وصفٌ لبعض الطّرق التي ابتكر بها البشر الأديان وكيف صنعتنا الأديان. وتستمرُّ العملية بطبيعة الحال. إذا كانت هناك مَلِكَتان تجعلان منّا بشراً فريدين من نوعنا، فهما السَّرد والتأمّل. الأديان توحِّدهما وتحفّزهما. لكنَّها تفعل أكثر من ذلك بكثير.

يُحدِثُ هذا الكتاب تغييراً في هذه السلسلة: فقد صَدَر هذا العام [2012]، ومؤلّفهُ عالم الاجتماع المتميز في الولايات المتحدة، لا يزال على قيد الحياة حتّى موعده. ولكن أعتقد أنَّه مهمٌ هنا مثل أيّ واحدٍ من الكتّاب الكلاسيكيين الذين تعامَلنا معهم من قبل. هذا ادّعاءٌ كبير. لكنَّ بيلا يقدّم وجهة نظره حول الظّواهر المختلفة التي نسمّيها الدّين والتي توحِّد التّاريخ (بقدر ما نعرف) مع علم النّفس وعلم الاجتماع. وأيّ نظريّة شاملة لابد أن تكون بهذا الطموح، لأنَّ الدّين ظاهرة مُعَقّدة. إنَّه شيءٌ يفعله النّاس لأنفسهم، ومجتمعاتهم، وفي نفس الوقت شيءٌ تفعله مجتمعات بأكملها لأنفسها، ولبعضها البعض، ولأفرادها. . للأديان _في بعض الأحيان_ جوانب نظريَّة. كما أنَّ لها جوانب طقسيَّة أيضاً. حتى في المسيحيّة، التي يعرفها معظمنا في الغرب، هناك عناصر من الرّقص، واللعب، وممارسة السّلطة، والمنطق، والشّعر، والأخلاق؛ هناك نُسّاخ، وباباوات، ومفتّشون، ورَبّات بيوت: وكلّهم موجودون، ناهيك عن ذكر الأساطير.

يعتمد هذا التنوّع الهائل في الأدوار، بطبيعة الحال، على مجتمع متنوّعٍ ومعقّد. أنت لا تجد باباوات أو قساوسة أو كهنة بين قبائل البوشمَن[1]، ولا في أيّ مكانِ في عصور ما قبل التاريخ. إذا كنّا نبحث عن قاسمٍ مشترك بين جميع الظواهر التي يعبِّر فيها الدين عن نفسه، فلن يكفي وصف ظاهرة واحدة. لذا يبدأ بيلا بالتّجربة المشتركة في الحياة اليوميّة _جولة لا نهاية لها من الدّافع لحلّ المشكلات، والتي لا يمكن فيها إشباع رغباتنا أبداً بشكلٍ كاملٍ. النقطة الأولى، والأهم، هي أنّ الحياة اليوميّة لا تُطاق بالمعنى الحَرفي للكَلمة إذا لم يكن هناك أيّ شيءٍ آخر، أو طريقة أخرى للعيش.

ولكن، كما يقول، لا أحد ينبغي أن يعيش هكذا. إنَّه بالتّأكيد ليس العالم الذي نعيش فيه طوال الوقت:

((بين البشر الذين يستخدمون اللغات، لا يكون عالم الحياة اليوميّة هو كلّ ما هو موجود، ولا يمكن للحقائق الأخرى التي تولّدها الثّقافة الإنسانيّة أن تفشل بالتّداخل مع عالم الحياة اليوميّة، والتي لا يمكن لنفعيّتها أن تكون مُطلقة أبداً.

على الرغم من هذه "الواقعيّة الظّاهرية"، فإنَّ عالم الحياة اليومية عالمٌ مبنيٌّ ثقافياُ ورمزياً، وليس العالم كما هو في الواقع. وعلى هذا النّحو، فإنَّه يختلف من حيث الزّمان والمكان، مع الكثير من القواسم المُشتركة عبر المشهد التّاريخي والثقافي، ولكن مع اختلافات عَرضيّة حادّة أحياناً)).

هذا الكلام مُهمّ. لا تختلف الأديان اختلافاً جذرياً عن بعضها البعض فحسب، بل هناك أيضاً العوالم التي توفّر المَهرب منها والمعنى لها. قد يكون هناك _بل وربما هناك في واقع الأمر_ آليّات نفسيّة أو معرفيّة كامنة وراء الطّرق المختلفة التي تتفاعل بها كل الثّقافات مع العالم. ولكنّها تعبّر عنها وتُظهِرها بشكلٍ مختلف، تماماً كما هي اللغات، بحيث لا يمكنك ببساطة أن تترجم بينها بالكامل.

إنَّ تطوُّر اللغة عمليَّة مُنغلقة علينا بالضّرورة. باستثناء محتمل هو لغة البيراها Pirahã[3]، يبدو أنَّ جميع اللغات المستخدمة اليوم تبدو على مستوى مماثل من التّعقيد، كما أنَّنا لا نستطيع إعادة بناء كيفيّة وصولها إلى هناك. الأديان أمرٌ مختلف. الكبيرة منها لديها تاريخ، جزئي وغير مكتمل إلى حَدٍ ما. مازال هناك مجتمعات بدائيّة أصليَّة تمّ العثور عليها ودراستها. ورغم أنَّ الثّقافة الصّناعيّة الحديثة لم تؤثّر بأيٍّ منها (حتى من خلال حقيقة أنَّها قيد الدّراسة)، ما زال بوسعنا رؤية كيف تختلف كلاً منها عن الأخرى، وعنّا نحن. هذا هو المكان الذي ينطلق منه، في عوالم حيث وجود للآلهة ولا لأناس كما نعرفهم.

جزء كبير من قصّة هذا الكتاب هو عن التّطوّر المُشترك بين الآلهة والبشرية. على الرغم من أنَّه انتهى عند "العصر المحوري"[4]، عندما ظهر الفكر الدّيني والفلسفي الحديث لأوّل مرّة، ومعه الأخلاق العالميّة، إلا أنَّه تجنب التّفاؤل الزّلق لكارين آرمسترونغ. ما لدينا هنا هو العديد من الأخلاقيّات العالميّة، وليس نمطٌ واحد فقط. ما أوصلنا إلى هنا لم يَكُن تقدُّماً:

((لا يمكن لأيّ قارئ جاد لهذا الكتاب أن يعتقد أنَّه ترنيمة لأيّ نوعٍ من الانتصار الدّيني)).

يكتب قائلاً:

((ذلك التَّطوّر الدّيني هو ببساطة ارتقاء، نحو الأمام وإلى الأعلى، لأديان أكثر تعاطفاً، ورَحمَةً، وأكثر استنارَةً، ولا يمكن أن يكون ابتعاداً عن الحقيقة)).

في القسم القادم سنرى من أين بدأنا، بين الصّيّادين وجامعي الثّمار، ونبدأ في تتبُّع تقدُّمنا الشبيه بخطى السرطان نحو العالَم الحديث.

========

[1] أندرو براون Andrew Brown: صحفيٌّ يكتب عن الدين عموماً. كما أنّ كتابه "صيدٌ في المدينة الفاضلة" Fishing in Utopia فاز بجائرة أورويل لعام 2009، وهو مذكّرات عن حياته في السّويد.

[2] شعب البوشمن، مجموعة عرقية بدائية من بقايا ثقافات الصّيد والجمع الأصلية تعيش في صحراء كالهاري التي تتوزع بين بوتسوانا وناميبيا وجنوب أنغولا، وهي من أقدم الثقافات الباقية في المنطقة.

[3] لغة البيراها هي اللغة الأصلية لشعب البيراها المعزول، وهو أحد الشعوب الأصليّة الموجودة في غابة الأمازون بالبرازيل، من مجتمعات الصيد وجمع الثمار.

[4] العَصر المحوري Axial Age: هو مصطلح يتعلَّق بتاريخ الفلسفة والأديان، صاغه الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز للإشارة إلى الفترة التّاريخيَّة القديمة الممتدّة من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد.



Religion in Human Evolution, part 1: the co-evolution of gods and humanity | Andrew Brown

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى