قطوفٌ رمضانيّة د. زياد العوف

قطوفٌ رمضانيّة (.)

بدا لي أنّه قدْ يكون من المناسب والمفيد في رحاب شهر رمضان المبارك أنْ أشاركَ القارئ الكريم في مقتطفاتٍ من قراءاتي المختارة المستوحاةِ من قِيَمِ ومعاني ودلالات هذا الشهر العظيم.
هذا..وقد وجدتُ في كتاب ( من بلاغة القرآن) للدكتور أحمد أحمد بدويّ (١٩٠٦-١٩٦٤م) منهلاً معرفيّاً وثقافيّاً عذْباً يطيبُ الاغتراف من فصوله للمتشوّقين إلى الوقوف على بعض الخصائص الفنيّة والجماليّة التي يحفلُ بها القرآن الكريم.
أمّا عن مؤلّف الكتاب-رحِمهُ الله- فهو أديب وشاعر وباحث وأستاذ جامعيّ مرموق أثرى الساحة الأدبية والثقافية في مصر والعالم العربيّ بعدد من الكتب والمؤلّفات القيّمة، نذكر منها:
-الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبيّة بمصرَ والشام.
-أسس النقد الأدبيّ عند العرب.
-من بلاغة القرآن.
-من النقد والأدب.
جاء في الفصل الثالث من كتاب(مِن بلاغة القرآن) تحت عنوان:
ألفاظ القرآن
- البلاغة والنَّظْم:
"لا تفضُلُ الكلمةُ صاحبتها منفردةً في قاموس اللغة، من حيث دلالة كلٍّ على معناه، فكلمة قال، لا تفضل تكلّمَ، وكلمة رجل لا ميزة لها على أسدٍ، اللهمَّ إلّا من ناحية أن بعض الكلمات أسهل جرياً على اللسان من بعض، وأخفّ نطقاً، فتجدُ مثلاً كلمة النَّفس أَسْلسَ من كلمة الجِرِشَّى، وكلمة مرتفِعات أسلس من كلمة مُسْتَشْزِرات، وإلّا من ناحية كثرة استعمال بعضها وغرابة البعض الآخر، فإذا ما نُظِمَتْ الكلمة في جملة، صارت دالّةً على نصيبها من المعنى، وصار من حقِّنا أن نسألَ: لِمَ اختيرتْ هذه الكلمة دون تلك، وَلمَ آثرْنا صيغة على أخرى؟
وإنّ الأسلوب قد يروعكَ ويبهرك، فإذا أخذتَ مفرداتِه كلَّ مفردة على حدة، فقد لا تجد فيه كبيرَ روعة، ولا قوّة أَسْرٍ، ولكن عندما انتظمتْ هذه المفردات في سلك فلاأَمَتْ ما قبلها، وارتبطت بما بعدها، اكتسبت جمالاً وجلالاً، وإنْ شِئتَ فانظر إلى قوله تعالى:
" وقيلَ: يا أرضُ ابلعي ماءكِ، وياسماءُ اقلعي، وَغِيضَ الماءُ، وقُضِيَ الأمرُ، واستوتْ على الجوديّ، وقيلَ: بُعْداً للقوم الظالمين"
(سورة هود، الآية ٤٤)
فإنّكَ إذا أخذتَ كلّ كلمة على حِدَتِها، من غير نظر إلى ما قامت به من أداء حظّها المقسوم لها في معنى الجملة كلّها، فقد لا تجدُ من التأثير ما تجدهُ لها، وهي بين أخواتِها تؤدّي معناها.
وهنا يحقُّ لنا أن نسأل عن فضل الكلمة في موضعها، ونتبيّن جمال اختيارها، وندرك ما لها من الميزة على صاحبتها، وإذا سلكنا هذا المسلك في الآية الكريمة، رأينا الآية تصوّر ما حدث بعد الطوفان، من ابتلاع الأرض ماءها، ونقاء السماء بعد أن كانت تُغطّى بسحبها، واستواء السفينة على الجوديّ، وقد طَهُرَت الأرض من رجس المشركين، فصوّر الله ذلك تصويراً حسيّاً، يؤكّد في نفسكَ استجابة هذه الطبيعة العظيمة وخضوعها لأمر الله، فهذا المطر المِدرار ينهملُ من السماء، وهذا الماء الطّاغي يجتاح نواحيَ الأرض، وهذا الاضطراب في أرجاء الكون، لم يلبثْ أن سكنَ واستقرّ، وعادت الطبيعة إلى هدوئها، عندما تلقّت أمرَ الله لها أنْ تسكنَ وتهدأ، ولكنْ لمّا كان هذا الأمر قد صدرَ إلى الكون من غير أنْ يسمعَهُ مَن في الكون، أو يرَوا قائلَهُ، بُنِيَ الفعلُ للمجهول كما ترى............وأوثِرَ تنكير الأرض لما في ذلك من تصغير أمرها، فالمقام هنا يستدعي التصغير، ويستدعي الإسراعَ بتلبية الأمر، وذلك لا يكون مع التعريف....وجاءت كلمة ابلعي مصوّرةً لما يُراد أن تصنعه الأرض بمائها، وهو أن تبتلعَه بسرعة، فهي هنا أفضل من امتصّي مثلاً، لأنّها لا تدلّ على الإسراع في التّشرّب، وفي إضافة الماء إليها ما يوحي بأنّها جديرة بأنّ تمتصّ ماءً هو ماؤها، فكأنّها لم تُكلَّفْ شطَطاً من الأمر، وقل مثل ذلك في قوله: ويا سماءُ اقلعي، ولاحظ هذا التناسقَ الموسيقيّ بين ابلعي وأقلعي، وبنى "غِيضَ" للمجهول، مصوّراً بذلك إحساس مَن شاهدوا هذا المنظر الطبيعيّ، فهم قد رأوا الماء يغيض والأمرَ يتِمّ، وكأنّما قد حدثَ ذلك من تلقاء نفسه...واختيرت كلمة استوتْ دون رسبت مثلاً لما في كلمة استوى من الدلالة على الثبات المستقرّ، وبُنيَ الفعل "قيلَ" للمجهول، إشارة إلى أنّ هذا القول قد صدرَ ممّنْ لا يُعَدّ كثرةً، حتى لكأنّ أرجاء الكون تردّد هذا الدعاء، وجاءت كلمة "بُعداً" دون "هلاكاً" مثلاً، إشارة إلى أنّ هلاك هؤلاء القوم الظالمين، إنّما قُصِدَ به إبعادهم عن الفساد في الأرض، والسخريةِ بمَن آمن وعمل صالحاً، وأوثرَ المجيء بالموصوف هنا، لأنّه لا يُرادُ الدعاء على الظالمين لاتّصافهم بالظلم، وإنّما يراد الدعاء على هؤلاء القوم بالبُعد، لاتّصافهم بالظلم، فالمقام هنا مقام حديث عن قوم ظلموا أنفسهم، فاستحقّوا لذلك أنْ يُتخلّصَ منهم، وأُحسُّ في كلمة بُعداً، دلالة على الراحة النفسية التي شعر بها مَن في الكون، بعد أنْ تخلّصوا من القوم الظالمين، ولعلّ لاستخدام المصدر الذي يؤكّد أنّ الفعل قد تمَّ، أثراً في ذلك.
أَوَلا ترى الآية قد صوّرت لك ما حدث بعد الطوفان أدقّ تصوير، في عبارة موجَزة، فها هي ذي الأرض تبتلع ماءها، وهاهي ذي السحب في السماء تنقشعُ مقلعةً، وها هو ذا الماء قد غاض، وعادت الطبيعة كما كانت، فاستقرّت سفينة نوح ومن معه على الجوديّ، وتنفّسَ الكون الصُّعَداءَ، فقد طَهُرَ من القوم الظالمين."*
رمضان مبارك..وكلّ عام وأنتم بخير.
*-د.أحمد أحمد بدويّ، مِن بلاغة القرآن، القاهرة، دار نهضة مصر،١٩٧٧م، ص ص ٥٤-٥٦ .


******

قُطوفٌ رمضانيّة (٢)

مصادر الأدب الإسلاميّ: القرآن الكريم

نقفُ اليومَ على بعض المختارات الدّالة التي تمّ اقتطافها من كتاب (تاريخ الأدب العربيّ)* لأديب العربية البليغ أحمد حسن الزيّات (١٨٨٥-١٩٦٨م) وفيها يفصّلُ المؤلِّف القولَ في مصادر الأدب الإسلاميّ؛ حيث يُرجِعُها إلى كلّ من:
-القرآن الكريم.
-الحديث الشريف.
-الأدب الجاهليّ.
-ما نُقِلَ من الأدب الأجنبيّ
على أنّنا سنكتفي هنا بذكر ماورد عن المصدر الأوّل، ألا وهو القرآن الكريم.
جاء في الفصل الثاني من الكتاب تحت عنوان:
مصادر الأدب الإسلاميّ
١- القرآن الكريم:
"القرآن أوّل كتاب دُوِّن في اللغة العربية،فدراستُه ضرورية لتاريخ الأدب؛ لأنّه مظهر الحياة العقليّة والحياة الأدبية عند العرب في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع للمسيح. وهو واضع النثر الفنّيّ ومنبع المعاني والأساليب والمعارف التي شاعت في أدب ذلك العصر. نزلَ بأسلوب بديع لا عهدَ للآذان ولا للأذهان بمثله؛ فلا هو موزون مقفَّى، ولا هو سجْعٌ يتجزّأ فيه المعنى في عدد من الفِقَر، ولا هو مرسَل يطّرِد أسلوبه دون تقطيع ولا تسجيع؛ إنّما هو آيات مفصّلة متزاوجة يسكتُ عندها الصوت ويسكن الذّهنُ لاستقلالها بالمعنى وانسجامها مع روح القارئ ووجدانه.................................
والقرآن باعتباره كتاباً أُحكمتْ آياتُه ثُمَّ فُصِّلتْ من لدُن حكيم خبير، لا يجرؤ النقد البيانيّ أنْ يطيرَ في جَنَباته. وباعتباره معجزة الرسول تحدّى به العرب أن يأتوا بسورة من مثلِه، تورّعَ المسلمون عن أنْ يقلّدوه فِراراً من تهمة المعارضة، وتنزيهاً لكلام الخالق أن يتشبَه به كلام المخلوق. وممّا لا ريب فيه أنّ بعض المشركين والمتنبِّئين قد عارضوه إبطالاً لحُجّتهِ، أو انتهاجاً لخطَّته، على نحو ماوردَ عن مسيلَمة: " يا ضِفدع بنت ضفدع؟ نِقّي ما تنقّين، فلا الماء تكدّرين، ولا الشاربَ تمنعين" ، ولكنّ الرّواةَ أغفلوا ذلك إمّا تورُّعاً وإمّا ترفُّعاً، كما فعلوا بمعارضة ابن المقفَّع والمتنبّي وأبي العلاء، إنْ صحَّ أنَّهم فعلوا ذلك.
وهناك طائفة من متأخِّري الكتّاب حاولوا الجريَ على أسلوب القرآن إعجاباً به فما حرّكوا في النفوس غير السُّخْرِ والضَّجَر لنزولهم عن رُتبته وعجزهم عن لحاقه، فكفُّوا.
ولذلك لم يكن تأثير القرآن كبيراً من جهة إحداثه مذهباً كتابيّاً يتبعه الناس ويدور عليه النقد. أمّا تأثيره القويّ فكان في نقله النثّرَ من تلك الجمل القصيرة المسجوعة المفكّكة إلى تلك الصورة الأنيقة التي تقرؤها في أحاديث الرسول وخُطبه وكتُبه، وفي خُطب الصّحابة والتابعين ورسائلهم: جُمَلٌ متزاوجةٌ، متناسقةٌ، متطابِقةٌ، متخيَّرةُ الألفاظ، حسنة التأليف، رائعة التشبيه، منطقية الغرض، تنفذ من العقل والقلب إلى الصّميم. وكذلك أثَّر في النثّر بوضعه المَثَلَ لمعالجة القَصص والوصف والاشتراع والجدَل المنتج والموعِظة الحسنة، واستحداثه ألفاظاً وتراكيبَ وموضوعاتٍ لا يعرفها العرب، فظلَّتْ آيُهُ على طوال القرون قوّةً للخطيب وحليةً للمنشئ، يرصِّع بها كلامَه فتتميَّز بطلاوتها ونفاسَتها كما تتميّز اللؤلؤة الفريدةُ في عقد من الجَزع" (١)
١- الجَزع: نوع من العقيق يُعرَفُ بخطوط متوازية مستديرة مختلفة الألوان.
*- أحمد حسن الزّيّات، تاريخ الأدب العربيّ، بيروت، دار الثقافة، ١٩٧٨م، ط ٢٨، ص ص ٩٩-١٠٠

********

قطوفٌ رمضانيّة(٣)

مصادر الأدب الإسلاميّ
٢- الحديث النبويّ:
نقتطف فيما يلي بعض القطوف الدانية ممّا أورده الأستاذ أحمد حسن الزيّات في كتابه (تاريخ الأدب العربيّ) عن الحديث النبويّ.
وقد آثرتُ عرض هذه القطوف كما وردتْ في الكتاب دون إبداء الرأي أو التعليق عليها تاركاً للقارئ الكريم - إذا أراد- العودة بنفسه إلى مصادر أخرى تخصّ الحديث النبويّ للاستزادة والتّعمّق في هذا الموضوع.
هذا..وسأقوم بذكر ما أورده المؤلّف حول خصائص وأسلوب الحديث النبويّ في قطوف تالية بعون الله.
جاء في الفصل الثاني من الكتاب تحت عنوان:
- الحديث *
"الحديثُ هو قول رسول الله أو حكاية فعله أوحديث الصَّحابة عنه. فهو في المنزلة الثانية من كتاب الله فيما يتعلّق بالدين والثقافة، وأغزرُ ينابيع التشريع في العبادات والحقوق، وأقوَمُ طريق يؤدّي إلى فهم القرآن: يوضّح إشكاله، ويفصّل إجماله، ويقيّد إطلاقه، ويخصّص عمومه. والأحاديث التي صحّتْ عن رسول الله قليلة، ولكنّها موسومة بطابع البيان والإلهام والعبقريّة، لنشأته في قريش، واسترضاعه في بني سَعْد وهي أفصح القبائل العربية، وتضلّعه من لغة القرآن واطّلاعه على لغة العرب، وقدرته الفطريّة على ابتكار الأساليب العالية، ووضْع الألفاظ الجديدة لما استُحدِثَ من المعاني الدينية والفقهيّة؛ ولكنّ قيمتها اللغوية ودلالتها التاريخية لا تسمو إلى مكان القرآن في ذلك، لأنّ القرآن كان يدوّنهُ عند نزولهِ كتَبَة الوحي، وكونه كلام الله جعلَ الاحتفاظَ بنصّهِ فرضاً على المسلمين، " فمَنْ بدّلهُ بعد ما سمعَه فإنّما إثمُهُ على الذين يبدِّلونَه" سورة البقرة/ الآية ١٨١ .
أمّا الحديثُ فلم يدوَّن إلّا حوالي منتصَف القرن الثاني للهجرة، وكان قبل ذلك يُروى من الذاكرة، والذاكرة كثيراً ما تخون، فناله من تغيير الكلمات واختلاف الروايات أكثر ممّا نال الشِّعرَ الجاهليّ. وزاد في ذلك أنّ العلماء أجازوا رواية الحديث بالمعنى لاستحالة المحافظة على اللفظ في نقله مشافهةً طوال هذه السنين.
وقامت الخصومات السياسية، ونجمتْ الفِرق الدينية، فاستجاز أولو الأهواء الكذِبَ على الرسول، فوضعوا ألوف الأحاديث تأييداً لدعوتهم وترجيحاً لنزعتهم. واستباح قومٌ وضع الأحاديث الموافقةَ لمبادئ الدين وقواعد الفضيلة.........فملؤوا الكتبَ بأحاديث الترغيب والترهيب وتعدَّوا ذلك إلى وضعها في فضائل الأشخاص والمدن والسُّوَر لدعوة سياسية أو نزعة عصبية أو غاية دينية...........................
ومِن طريق الوضْع أدخلوا في الحديث طائفة كبيرة من الحِكم المأثورة عن العرب، والآراء المنقولة عن العجم، فأثَّرتْ في الخطابة والجدَل والشّعر تأثيراً غيرَ قليل.
كان عمرُ وبعض الصَّحابة لا يرونَ التَّوسّعَ في رواية الحديث اتّقاء لخطر الوضْع وحرصاً على كتاب الله أنْ يجُرَّ هذا الوضع إلى الاختلاف فيه أو الانشغال عنه..................................
ونظنُّ أنّ ذلك الخوفَ هو ااذي صرفه أيضاً عن الإشارة بجمع الحديث كم أشار بجمع القرآن حتى لا يكون بجانب كتاب الله كتاب آخر يشاركة العناية...........................................
فكان من جرّاء ذلك الخوف هذه الفوضى التي شوّهت جمال الدِّين، وموّهتْ حقائق التاريخ، وساعدت على نشْرِ الفتنة، ولم يغطنوا إلى درئها إلّا حين استفحلَ الشرُّ وانتشر الأمرُ وأصبح الطِّبُّ لدائها مستحيلاً. "

*- تاريخ الأدب العربي، ص ص ١٠٩-١١٠

****

- مصادر الأدب الإسلاميّ (٤)

- الحديث النبويّ:
ذكرنا في القطوف السابقة- متابعةً للأستاذ أحمد حسن الزيات في كتابه(تاريخ الأدب العربيّ) أنّ الحديث النبويّ يمثِّلُ المصدر الثاني للأدب الإسلاميّ بعد القرآن الكريم وقبل كلٍّ من الشعر الجاهليّ وما نُقِلَ من الأدب الأجنبيّ.
نستكمل في هذه القطوف بيان خصائص وأسلوب الحديث النبويّ وتأثيره في الأدب الإسلامي كما تجلت للأستاذ الزيّات.
جاء في الفصل الثاني من الكتاب* :
" ليس من همِّ الأديب أن يُعنى عناية الفقيه واللغويّ والنحويّ والمؤرّخ بما نال الحديث من اختلاف وتبديل، ولا بما نال المحدّثين من جرح وتعديل، فإنّ الأدب إنّما يعتبر الأحاديثَ صادقها وكاذبها مذهباً من مذاهب القول ومصدراً من مصادر المعنى لهما الأثر البالغ فيه. وليس من شكٍّ في أنّ الوضّاعين كانوا يقلّدون أسلوب الرسول ويتوخَّون استعمال كلماته واصطلاحاته، حتى لا نجدَ بين أكثر الأحاديث إلّا فرقَ ما بين صدق النّسبةِ إلى الرسول وكذبها. هذا من جهة الشكل، أمّا من جهة الموضوع فإنَّ الأحاديث الصحيحة كانت طريق العلم والإرشاد، والأحاديث الموضوعة كانت طريق الرأي والاجتهاد؛ لأنّها آراء فرديّة اجتهاديّة نسبها أصحابها إلى الرسول لتحلَّ في قلوب الناس محلّ الثقة، فكانت طريقاً لِبَسْطِ الفِقه، وتهذيب الخلق، ونشر الثقافة، ونشوء الرأي المجتهد بجانب السنّة الصحيحة في التشريع.
-أسلوب الحديث
" الحديث كما يدلّ عليه اسمه لا يخرج عن هذا النوع العادي المألوف الذي يملأ كلّ مجلس ويتناول كلّ موضوع. ومن مستلزماته عدم التحضير وقلّة التفكير واختلافه باختلاف المقامات والأحوال؛ ولكنّ أحاديث الرسول وإنْ كانت فيضَ الخاطِر وعفوَ البديهة، يبدو عليها أثرُ الإلهام وسِمة العبقريّة وطابع البلاغة، وأسلوبها أقرب إلى أسلوب عصر النبوّة منه إلى أسلوب القرآن، وإنّما يمتاز بإشراق ديباجته واتّساق عبارته وتساوق ألفاظه وفِقرهِ لأداء معنى واضح معيّن، ومطابقة مدلوله لمقتضى الحال، وملاءمة لغته للغة المخاطَب.
وأشدُّ ما يكون ذلك ظهوراً حين يخاطب الوفود، فالرسول يستعمل الغريبَ، ويلتزم السّجْعَ، ويذكر ألفاظاً من مهجور اللغات تبعاً لما جرى على لسان الوافدين عليه: من ذلك حديثه مع طهفةَ بن أبي زهير النّهديّ، ومع لقيط بن عامر بن المنتفق، وذلك من حُسنِ أدبه وسموّ بلاغته وقوّة تأثيره.
أمّا أكثر الأحاديث فإنّ عليها رواء الطّبع وجلال النّبوّة ورونق الفصاحة.
وللرسول قدرةٌ عجيبة على التشبيه والتمثيل وإرسال الحِكمة وإجادة الحِوار، وتلك ميزة الرسل من قبلُ، ولا سيّما المسيح، لأنّ المرسَلين في مقام المعلّمين، وأنجع ما يكون في التعليم طريقة التمثيل والمحاورة، كقوله عليه السلام:
-" إنَّ المنبتَّ لا أرضاً قطعَ ولا ظهَراً أبقى. "
-" المؤمن هيِّنٌ ليِّن كالجمل الأٌنُف إنْ قِيدَ انقادَ، وإنْ أُنيخَ على صخرة استناخ. "
.........................
-" لو توكّلتم على الله حقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خِماصاً وتروحُ بِطاناً. "
-" مثَلُ المؤمن كالنَّحلة لا يأكلُ إلّا طيّباً ولا يطعمُ إلّا طيّبا."


...................................................
-" الناس كلّهم سواسية كأسنان المشط. "

.......... .......... ....................
-" إنّ قوماً ركبوا سفينةً فاقتسموا، فصار لكلّ رجلٍ منهم موضِع، فنقَرَ رجلٌ منهم موضِعه بفأس، فقالوا له ما تصنعُ؟ قال هو مكاني أصنعُ فيه ما أشاء، فإنْ أخذوا على يده نجا ونجَوا، وإنْ تركوه هلكَ وهلكوا. "
وأثرُ الأسلوب النبويّ فاشٍ في كلام الصّحابة وخطبهم، وعلى الأخصّ في أسلوب من اشتدَّ خِلاطهم به أو كثُرتْ روايتهم عنه، كالإمام عليٍّ وأبي هريرة. "
*- تاريخ الأدب العربيّ، ص ص ١١٠-١١٢

***

(٥)
قُطوفٌ من نَهْجِ البلاغة*

من المعلوم لروّاد المكتبة العربية أنّ كتاب ( نَهْج البلاغة) هو العنوان الذي اختاره مصنِّفهُ الشريف الرضِيِّ( ٣٥٩-٤٠٦ هجريّة) لما جمعه فيه من الأقوال والخُطب والكتب والرسائل والحِكم والمواعظ المنسوبة إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- كرَّم الله وجهه- .
ولسنا هنا بصدد التحقّق من صحّة هذه النسبة ؛ إذ فيها ممّا يدعو إلى الشكِّ الكثير . وحسبنا أنْ نشير هنا إلى أنّ الكتاب قد جُمِعَ بعد وفاة عليّ بن أبي طالب بأربعة قرون ، حيث كانتْ وفاته - رضي الله عنه عام (٤٠ للهجرة) ، كما أنّ محتويات الكتاب لم تتصلْ بسند إلى قائلها ، ناهيكَ عمّا ورد فيه من مصطلحات دينيّة وعقَديّة استجدّت بعد عصر الإمام عليّ ، فضلاً عن الإسراف في الصنعة اللغويّة، من سجع وطِباق وجِناس وغيره، ممّا لم يكنْ معهوداً في حينه ، بالإضافة إلى ماورد في الكتاب من ادّعاء بعلم الغيب ، وسبّ وقذف لبعض الصحابة الكرام، ممّا نجلُّ الإمام عليّاً كرَّم الله وجهه أنْ يصدر عن مثله .ولعلّ ممّا يعزّز هذا الشكّ في نسبة الكتاب أنّ بعض المحقّقين يعزو تأليفه إلى العالم الإماميّ الشريف المرتضى(٣٥٥- ٤٣٦ هجريّة) وهو شقيق الشريف الرضيّ الأكبر.
نعود إلى الشريف الرضيّ لنشير في عُجالة إلى أنّه يُعَدّ من أئمة العلم والفقه والحديث والأدب في عصره، كما أنّه تولّى "نِقابة الطالبيين" بعد أبيه ، وضُمّتْ إليه سائر الأعمال التي كان يليها أبوه ، وهي النظر في المَظالِم والحجِّ بالناس.
ويُعَدُّ الشريف الرضي واحداً من فحول الشعراء في عصره ، ويتميّز شعره بالجزالة والعذوبة في آن، وتغلِب عليه سِمةُ البداوة الرقيقة.
كما تتجلّى في شعره مخايل العزّة والأنَفَة ، وذلك لشريف محتِده ورفعة نسبهِ وعلوّ قدرِه .
وقد أكّد شارح ( نهْج البلاغة) الإمام محمّد عبده على ذلك ، حيث قال في تقديمه للكتاب:
" ...وكان من سموّ المقام بحيث يكتب إلى الخليفة القادر بالله العبّاسيّ أحمد بن المقتدر من قصيدة طويلة يفتخر بها ويساوي نفسه بالخليفة:
عَطفاً أمير المؤمنين فإنّنا
في دوحة العلياء لا نتفرّقُ
ما بيننا يومَ الفخَار تفاوتٌ
أبداً، كلانا في المعالي مُعْرِقُ
إلّا الخلافة ميّزتكَ فإنّني
أنا عاطلٌ منها وأنت مطوَّقُ" (١)
نعود إلى كتاب ( نهج البلاغة) لنشير إلى أنّ مؤلفه قد قسّمه إلى أقسام ثلاثة؛ حيث ضمّ القسم الأوّل خُطب الإمام عليّ ، بينما احتوى القسم الثاني كتُبَه ورسائلَه، في حين تضمّن القسم الثالث الحكمَ والمواعظَ والعِبَر.
هذا ، وقد وقع اختياري على نصّ بليغ من الحكمة العَلَويّة اقتطفته من القسم الثالث من الكتاب في خصائص قلب الإنسان بين الإفراط والتفريط؛ ذلك أنّ اهتمامي بالكتاب يعود بالدرجة الأولى إلى قيمته الأدبيّة والبلاغيّة، ولعلّي أقتفي في ذلك خُطا الإمام محمّد عبده؛ حيث يقول:
" ...ولم أطلبْ من وجه الكتاب إلّا ما تعلّق منه بسبكِ المعاني العالية والعبارات الرفيعة في كلّ ضَرْب من ضروب الكلام. وحسبي هذه الغاية فيما أريد لنفسي ولِمَن يطّلع عليه من أهل اللسان العربيّ" .(٢)
جاء في قسم الحِكم والمواعظ من الكتاب:
" ولقد عُلِّقَ بِنِياط هذا الإنسان بَضعةٌ هي أعجبُ ما فيه، وذلك القلب. وله موادُّ من الحكمةِ وأضدادٌ من خِلافها. فإنْ سنحَ لهُ الرّجاءُ أذلّه الطَّمعُ. وإنْ هاج به الطَّمعُ أهلكهُ الحِرصُ. وإنْ ملكهُ اليأسُ قتلهُ الأسفُ. وإنْ عرَضَ لهُ الغضبُ اشتدَّ به الغيظُ. وإنْ أسعدهُ الرِّضى نسي التَّحفّظَ. وإنْ نالهُ الخوفُ شغلهُ الحذرُ. وإنِ اتَّسعَ لهُ الأمنُ استلبتْهُ الغِرَّةُ.* وإنْ أفاد مالاً أطغاهُ الغِنى.
وإنْ أصابتْهُ مصيبةٌ فضحهُ الجزَعُ.
وإنْ عضَّتهُ الفاقةُ شغلهُ البلاءُ.
وإنْ جهَدَهُ الجوعُ قعدَ بهِ الضَّعفُ.
وإنْ أفرطَ بهِ الشِّبَعُ كظَّتْهُ البِطنةُ،
فكلُّ تقصيرٍ بهِ مضِرٌّ وكلُّ إفراطٍ لهُ مفسِدٌ" .(٣)
*- سبقَ نشْرُه.
(١)- نهْجُ البلاغة، شرح الإمام محمّد عبده، دار التعارف، بيروت، ١٩٨٢،ص١٣ .
(٢)- المرجع نفسُهُ، ص ١١ .
(٣)- " " ، ص ٦٨١ .
*- الغِرَّةُ : الغَفْلَةُ .


***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى