هدى بوحمام - رمضانيات مغتربة..

1- غربة.. أول رمضان بعد أحداث نيوزيلاندا

ينتظر مسلمُو العالم حلول شهر رمضان لتطهير أرواحهم من ضغوطات السنة والمشاعر السلبية التي ترتّبت عن تلك الضغوطات. فهو شهر الراحة النفسية والتغذية الروحية والتصالح مع الذات عبر العبادة والتفكّر والتدبّر. وأنا مثل سائر المسلمين، لستُ أقلّ حماساً وترحيباً بهذا الشهر الفضيل. أنتظره كلّ سنة لتضميد جروحي والتّجرّد من ماديات الحياة قليلا مُقابلَ التفرُّغ للعبادات أكثر. وطبعا كأي مغتربٍ، أُلملمُ كلّ التفاصيل التي بين يدي كي أصنع الطُقوس المطلوبة وأفرح بها.

كانت أول ليلة من ليالي رمضان هذه السنة مُختلفة؛ وأنا أدخل إلى مسجد الحي الدافئ مع صغره، لاحظت وجود سيارة شرطة أمام باب المسجد. استغربت قليلا! لم يسبق لي أن رأيتُ مثل هذا المنظر من قبل. زاد استغرابي عندما وجدتُ باب بيت الله مقفولاً بينما كان دائما مفتوحاً مُشعاً ومُرحِّباً بزُواره خاصة في رمضان! سحبت الباب ولم أُدقّق كثيراً. سلّمتُ على من أعرفه ومن لا أَعرفه ووجدتُ لنفسي أقربَ رُكنٍ للإمام.

قبل إقامة الصلاة بدقائق، أخبرنا أحد القائمين على المسجد أنهم رَأوا رجلاً مشبوهاً يحوم حول نواحي المسجد بالأمس ممّا جعلهم يبلغوا رجال الأمن الذين قرروا البقاء أمام المسجد في وقت التراويح وصلاة الجمعة طيلة شهر رمضان حرصاً على حمايتنا. كما قرّروا إبقاء باب المسجد مُغلقاً طوال فترة الصلاة ومنحونا رمزا سريّا للدخول إلى المسجد في حال حضر أحدنا بعد بداية الصلاة. لم أتوقع أبدًا سماعَ ما سمعته في أول ليلة من ليالي التراويح التي كنت أنتظرها بشغف منذ سنة!

كنتُ لم أنسَ بعدُ الأحداث الإرهابية التي حلّت بمساجد كريست شورش بنيوزيلاندا. في الواقع كنت أنتظر رمضان كي أُضمد جُرح ذلك الحادث. عادة، ومع كثرة مثل هذه الأحداث الشنيعة، أحزن بضعة أيام على الناس الأبرياء الذين قُتلوا بغير حق وأتجاوزه. ولكنّني لم أستطع تجاوز حادث نيوزيلاندا. كان هذا أول حادث إرهابي يُرعبني! لم تُخفني قطّ مثل هذه الأحداث لأنّ الخوف لا يُمثّل لي أي حلٍ ولا يساعدني على السير إلى الأمام كما أرغب دائماً. فقط أستمر في السعي وراء أهدافي والتي من بينها نشر السلام والحُب كما علّمني الإسلام.

أرعبني ذلك الحادث لأنّي منذ فترة بدأت أُعلّم أطفال الجالية المُسلمة اللغة العربية في المسجد. أعمل جاهدة على زرع قيم الحب والتَّآخي والسلام فيهم، أعلّمهم قيَم الإسلام! تتراوح أعمار تلاميذي بين الثلاث سنوات والست عشرة سنة. يغمرهم الذكاء والطموح والخلق الحسن. أرى فيهم نورَ قمرٍ ممتلئٍ شامخٍ مثل قمر شهر رمضان في سماء صافية. تربطني بكل واحد منهم علاقة خاصة؛ صرتُ معهم أُمّاً وأُختًا وخالة. يجعلونني أشعر بالكثير من المشاعر اللطيفة…

بعد حادث نيوزيلاندا، صار يأخذني الخيال بعيدا وأتساءل ماذا لو حدث في مسجدنا عمل إرهابي مُماثل؟ كيف سأتصرف؟ من سأَحمي وبمن سأُضحي؟ هل سأكون كافية؟ فأنا أريد حمايتهم جميعَهم، أريد حماية تعبي معهم لكي يكونوا الأفضل، أريد حماية تعب آبائهم الذين يُحضرونهم إلى المسجد رغم زحمة الحياة في هذه البلاد السريعة. وماذا عنّي؟ ماذا عن تعب والديّ في تربيتي ووصولي إلى ما أنا عليه؟ ماذا عن تعبي مع نفسي كي أصبح من أكون؟ فلأفكر الآن، رُبما لا يترك لي الإرهابي المجال لأفكر في كل هذه الأمور لاحقا؟

أرجع إلى الواقع الجميل بين ألوان الأقسام الصيفية وآيات القرآن الكريم المنقوشة على جدران مسجدنا وحماس تلاميذي وأسئلتهم التي تَكْبُرهم. لم أُحَدثهم أبدا عن الإرهاب لأنّي لا أعرف كيف أشرح لهم هذه الظاهرة المعقّدة. لا أُريد أن أُربك تفكيرهم النقي والبسيط. ليس هناك ما يُشرَح وليس هناك ما يُفهَم عن الإرهاب خاصة في بيت السلام! صرت أخاف عليهم من كل ما يحيط بهم، من مدرستهم وجيرانهم وأصدقائهم ومن خُبث التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي.

أُدرك أن الخوف لن ينفعني في شيء، فقط يسرق منّي لذّة تلك المشاعر اللطيفة وها هو ينتهك حُرمة رمضان أيضاً. في كل فُرصة تُتاح لي، تدور عيني وينقبض قلبي حين أرى طفلة تلعب بعيداً عن صفوف الصلاة. أُحاول إسكات صوتٍ في داخلي يصرخ ويُنادي الطفلة ألا تبتعد عنا فقد يُهاجمنا إرهابي!

ولكن كفى! من الآن فصاعدا سأُسكت ذاك الصوت الداخلي، فلتلعب الطفلة حيثما تشاء ما دام اللهُ فوقها. سيزول الخوف وسننتصر على الإرهاب. لن نسمح بسرقة فرحة رمضان منّا. فليقف رجل الشرطة أمام باب المسجد مشكورا وليُقفل الباب في وقت الصلاة كما يجب من أجل حمايتنا. سنُصلّي ونتخشّع ونُشبِعَ أرواحَنا العطشى. سنتعلّم القرآنَ واللغةَ العربية ودروسَ الإسلام في مسجدنا الجميل. سنسعى من أجل السلامِ والحُبِّ رغماً عن أنف الإرهاب.
سأُعلّمُ تلاميذي ألا يخافوا لأنّ الله معنا!


****

2- رمضانيات مغتربة.. فلنستمتع بروحانيات رمضان

ها قد أطلّ عليّ رمضان الحبيب من جديد، شهر العبادة والروحانية واسترجاع الذات وتضميد جروح الروح التي خَلَّفتها هموم السنة الفارطة. عاد من جديد كما وعدني في آخر مرة وها أنا أستقبله بصدر مفتوح رغم رياح بلاد الغربة المعاكسة؛ تلك البلاد الباردة مشاعرها، التي لا تستشعر عظمة هذا الشهر الفضيل، لا يُرفع فيها آذان، ولا تُرتّل فيها آيات قرأن، ولا تمتلئ فيها شوارع المساجد من كثرة المقبلين على الصلاة والقيام. أسفي عليها فأرضها لا تهتز من ملاقاة جباه الساجدين لربهم المُطوّلة، ولا تسقى من دموع التائبين إلى ربهم.

لا، لم أعتد على قضاء رمضان صامتٍ ووحيدٍ دون حياة اجتماعية تحرك في داخلي روح الانتماء، لم أعتد على صلاة الفجر دون سماع صوت الإمام وهو يُردد بإصرار: "الصلاة خير من النوم"، لم أعتد على صلاة التراويح في غرفة مستأجرة تجمع القليل من المصلّين، دون مكبر صوت يضخم حجم الآيات في أذني ولا تلاوة خاشعة تروي عطش روحي المنهكة، ولا صفوف طويلة متزاحمة متراحمة، لم أعتد على شوارع مظلمة دون ازدحام الناس وضجيج السيارات والباعة، لم أعتد على الإفطار بمفردي دون مائدة أُمِّي وصلاة المغرب مع أبي وإخواني ومضارباتنا اليومية حول من سيغسل صحون الإفطار... لم أعتد ولن أتعوّد!

ولكنّني اعتدتُ على الشرح والتبرير.. لماذا أصوم؟ كيف أصوم؟ وهل أستطيع شرب الماء؟ كيف أتحمّل الصيام شهرا كاملًا؟ هل أستمتع بالصيام؟ أصبحتُ خبيرة في الردّ على أسئلة سطحية لا تنتهي وتتكرر باستمرار في كل مكان أتواجد فيه مع الناس في هذه البلاد البعيدة. اعتدتُ أيضا على شعورهم بالشفقة عليّ حين يحين وقت وجبة الغداء، فيذهب الكلّ مهرولاً لتغذية جسمه بينما أعثر على ركن هادئ أختلي فيه بنفسي كي أغذّي روحي بالذكر والدعاء. واعتدت طبعاً على اعتذارهم لي كلّما أخذوا رشفة ماء أو عصير. تعبت وأنا أفسِّر لهم أنه ليس هناك داعي للاعتذار فأنا لست مرغمة على الصيام كما يتخيّلون. لا يرغمني أبي أو أخي على الصيام كما أوهموهم. اعتدتُ على رؤيتهم لي كطفرة مثيرة للفضول وفي نفس الوقت يصعُب الاقتراب منها، فيختارون المسافة ويتهمونني بوضعها.

علّمتني حياة الغربة أن أتأقلم مع أي وضع أعيش فيه وأن أتعامل معه بمرونة، جعلتني أقدّر أهمية الحلول الوسطى في تصالحي مع وضعي. فتعلمت خلق الأجواء بنفسي ولنفسي، صرت أبحث عن السعادة في تفاصيل لم أعرها اهتماماً من قبل: أزين مائدة فطوري الصغيرة بفانوس مضيئ وألبس ثوبًا تقليدياً وأتفرج على سلسلة رمضانية.. ليست بأجواء مثالية ولكنّها تفي بغرض تذكيري بمن أكون، إذا استطعت أن أراها بعين راضية. أُصلي التراويح وأستمتع بما أوتيتُ بين يدي حامدة شاكرة. أرى في صيَامي بين الغُرب تميّزاً وقُوةً وانتماءً وهويةً، فالنجمة المختلفة في السماء تلمع أكثر! صحيحٌ أنّ شرحيَ الدائم لنفسي ولِما أفعله يُتعبني، ولكنّني أعتبره مُهمة للتعريف بديني وثقافتي، مُهمةً رسمية تدفعني لأكون دائماً أفضل نسخة من نفسي.

قد لا تعطينا الحياة الفرصة كي نختار الظروف التي نعيش فيها، ولكنّنا حتماً يمكننا أن نختار كيف نريد عيشها والتعامل معها. يشكل التصالح مع الظروف وتقبُّلها أهم خطوة للعيش بسعادة وأصعبها في الوقت ذاته. لا أستطيع أن أنكر أنني أشتاق لرمضان في بلدي وبين أهلي ولكنني أنجح في إقناع نفسي أن شهر رمضان أينما وجَدنا لا يبخل علينا بالروحانية والطمأنينة والتقرب من اللّه، فضله يعمّ على العالمين، يكفي أن نبحث عن الجوانب الايجابية في الصورة وأن ونتمسّك بها كي نخلق أجواء الفرح ونعيشها برضا وسلام مع أنفسنا في هذه الحياة الفانية.


****


3- هدى بوحمام - ليكن شهرَ شُكرٍ لله


يقترن شهر رمضان بالدعاء والخشوع والتدبّر والتفكّر في كتاب الله وسنة رسوله الأمين. ينتظر المسلمون هذه الأيام المعدودة على مدار السنة لما ينزل فيها من سكينة وراحة نفسية رحمة من ربّ العالمين، من أجل أن يتحبّبوا إلى الله ويتقرّبوا منه أكثر.

من بين العبادات الكثيرة التي يُمارسها الراغبون في رضا الله عبادة الدعاء؛ فهناك الذي يطلب التيسير في عمل مستعص، والتي تطلب ذرية صالحة بعد انتظار طويل، والذي يطلب العفو والمغفرة من ذنب ثقيل على القلب، والتي تطلب رحمة لأبيها المُتوفي من سنين، والذي يطلب مالًا وفيرا ليُعيل عائلته، والتي تطلب هداية لولدها العاق وغير المسؤول، والذي يطلب فرصة هجرة إلى بلدٍ بعيد يُقدّر كفاءته، والتي تطلب نجاحا لمشروعها الذي تعبت فيه، والذي يطلب زيارة إلى المسجد الحرام، والتي تطلب توفيقًا في دراستها وأهدافها الدُنيوية، والتي تطلب شفاء لزوجها المريض…

أزيد من ١.٧ مليار مسلم يطلبون من الواحد الأحد ويتدلّلون عليه ويبالغون في سؤالهم له ويلحّون عليه ولا يملّ سبحانه وتعالى من سماعهم كلّهم ولا يتعب، يستجيب لدعائهم كلّه بحكمة هو أدرى بها من عباده.

أنا أيضا لا أفوّت بركة هذا الشهر الفضيل وكرم الله فيه وأغتنم أبوابه المفتوحة وأدعو لنفسي ولأحبّتي بكلّ ما أشتهي وأمرّغ جبيني ساجدة قانتة للحنّان المنّان وأشكو له ضيقي وضعفي وقلّة حيلتي تقرّبا منه وطمعًا في لطفه وفتحه، وآتي إليه متلاشية محطَّمة فيجبر خاطري ويلملم أشتاتي ويرزقني، لأنّه الله! ولكنّ رمضان هذه السنة زارنا في ظروف غير معتادة، في ظل جائحة كورونا التي علّمتنا أنّر بّك فعّال لما يُريد وإنّما أمره إِذَا أَراد شيئًا أَنْ يقول له كُن فيكون. ذكّرتنا أن القدر أقوى من إرادتنا وأنّ خطط الله أبقى من خططنا وبرامجنا. لذلك اقتضى هذا الأمر أن يكون رمضان أيضا مختلفًا.

ارتأيتُ أن يكون رمضان هذه السنة فرصة لشكر الله وحمده بقدر الطلب منه على الأقلّ، بما أنّ القريب المجيب يأمرنا بالإكثار من الدعاء والإلحاح فيه والمواظبة عليه لقوله تعالى: “ادعوني أستجيب لكم” وفي ٱية أخرى: {وإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} بعد أن تمهلنا وجلسنا نتفكّر في نعم الله علينا التي لا تعدّ ولا تحصى، يجب أن نتذكّر في قيامنا وسجودنا أن نشكر الله على الحياة، والصّحة، وكمال الصورة، والعائلة، والقوت، والبيت، والعلم النافع، والعقل، والتفكير السليم، والصحبة الصالحة، والزوجة الصالحة والذرية الصالحة. ما أجمل أن نخبر الله في عز حاجتنا واضطرارنا أننّا ممتنون له لأنه منّ علينا بقلب سليم ونفس خيّرة، وجاد علينا بدين الإسلام، والهداية، والثبات، والخشوع، وانشراح الصدر، والقدرة على الحب والشعور بالسعادة والانشغال بالنفس، وعافانا من أمراض البغض والحقد والحسد والكره والحزن والنفاق والوسواس والكسل.

يقول ابن القيم رحمه الله أن الشكر يكون بالقلب خضوعاً واستكانةً، وباللسان ثناءً واعترافاً، وبالجوارح طاعةً وانقياداً.

إنّ استعراض هذه النعم في لحظة خشوع رمضانيّ على الله ونسبها إليه يُنتج لمسة ذات أثار عظيمة، حيث نستشعر قيمتها في قلوبنا ممّا يملأها بالرضا والقناعة، وكذا ننال رضا الله بالامتثال لأمره عبر شكره ونحظى بحبّه لأنّه يحب العبد الشكور ونقتدي بالنبيّ محمد عليه الصلاة والسلام وباقي الأنبياء في شكرهم الدائم لله ونفوز بزيادة في الخير والرزق لقوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُم لأََزِيدَنَّكُم} تخيّلوا الزيادة في كل ما ردّدناه على الله وحَمَدناه عليه!

بما أننا عباد دائمو الطلب من ربنا ولا يملأ جوفنا إلا التراب، يتغيّر طعم الدُعاء عندما نطلب منه أن يقبل حمدنا على ما أعطانا، ونشكره بطاعة تكون لخالص وجهه وابتغاء مرضاته. نهدأ في الدعاء ونركزّ على ما نملك الآن، ننسى ما مضى وما سيكون. نتقرّب من الله أكثر عندما نُقرّ له بأنّنا فعلنا ذاك الخير فقط ليرضى، مع أنه العليم الخبير الذي لا يخفى عنه الجهر ولا السر، فنسأله أن يتقبّله منّا ويغفر لنا تقصيرنا في شكره ويوزعنا أن نشكر نعمه علينا ونستعين به تبعًا لما أوصانا به الحبيب في دُبُر كل صلاة أن نقول: ((اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذكرك، شُكرك ، وَحُسْنِ عبادتك.))

ودعنا لا ننسى أن نشكر الله على ما اعتقدنا أنه شرّ لنا، وعلى ما لم نحط به علمًا وعرفنا بعد زمن أنه رحمة من الله بنا ورأفة بقلوبنا. يجب أن نشكره على ذلك الأمر الذي لم يقدره لنا في الوقت الذي أردناه فيه بقوة، وذاك الشخص الذي أزاله من طريقنا في شدّة تعلّقنا به وذاك المرض الذي ابتلانا به من حيث لا ندري، و على الغربة التي فكّرنا أنها قدر ملعون، وعلى كل المصائب التي ردّتنا إليه ردًّا جميلًا. يستحقّ المولى الشكر الكثير على اختياراته الحكيمة لنا وتدبيره الذي يحمينا دائما حتى من أنفسنا. فهو الغنّي المالك المهيمن لا يزيده شكرنا ولا ينقص منه في شيء، وإنّما ينفعنا لقوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ}

يقول عائض القرني أنّ من لا يشكر الله على الخبز الدافئ، لا يشكره على الموائد الشّهيّة والوجبات اللّذيذة، لأن الكَنود الجَحود يرى القليل والكثير سواءً.

إنّ من ينسى أنه يملك سقفا يؤيه وماء يرويه وقوتا يُغدّيه ويؤجل شكر الله ويستمّر في طلب الزيادة والأحسن يُنسيه الله نفسه ويُلهيه في ملذات الدنيا التي لا تنفع روحه في شيء. فليكن رمضان هذه السنة شهرَ شُكر واعتراف لله، نتعوّد فيه على حمد العاطي تحبّبا وطاعة مثلما يتحبّب إلينا سبحانه بالأرزاق والنعم الوفيرة.


****

4- رمضان في المهجر.. ذكرى وتحديات

تحية لكل الحريصين على تربية جيل مؤسس على قيمنا رغم مصاعب الغربة وعقباتها (أسوشيتد برس)


حل رمضان الذي لا يخذل الوعد أبدا، مخلص العهد ودائم الوصل. عمت نسائمه المرسلة من الله وساد عبقه في بقاع العالم. يختلف الاستقبال والترحيب به باختلاف المكان والعادات، ولكن المراد منه يوحدنا؛ كلنا نطمع في ترميم الروح وتطهيرها من شوائب السَنة بالتقرب من الخالق والتسليم إليه.

وتنهال علينا النعم في هذا الشهر الكريم خاصة نعمة الاستشعار والخشوع، نتلذذ طعم السكينة والهدوء النفسي بقلب مفتوح وروح خصبة ونحس بحب الله لنا ولطفه بنا، نعيد شريط السَنة الفارطة ونقف عند المواقف التي دبرها لنا الله بعلمه وأخرجنا منها ناجين، فنحمده كثيرا بقلب خالص. نتذكر الذنوب والمعاصي، فنستغفره ونطلب منه العفو. نخر له ساجدين ونسأله الاستجابة لدعائنا والتيسير في أمورنا.

ومن بين النعم المستهان بها والتي تظهر أكثر في رمضان نعمة الجماعة والعيش في بلد مسلم، بلد يتجهز فيه الكبير والصغير لحلول الشهر الفضيل، شعبا وحكومة. ربما لا يصوم كل الناس ولكنهم كلهم يعلمون أن رمضان هنا دون أن يحتاجوا للبحث عن هذه المعلومة لأنها بارزة في جميع النواحي، في الهدوء الذي يكون في الصباح الباكر وفي الارتجاج الذي يحدث مع قرب الإفطار وتزمير السيارات وفي ازدحام محلات الخبز والحلويات وتسامر الليل.. إن في هذه النعمة قوة ليس لها مثيل، قوة لا يعرف قيمتها إلا من يفتقدها في ديار المهجر.

المسلم في بلاد المهجر يمشي وحده عكس الجماعة؛ يحارب شعور التشرد والوحدة والبعد عن الأصل والهوية، ويصنع لنفسه دائرة من الانتماء ويزينها بالألوان والأضواء كي يفرح قلبه ويتذكر حماس الطفولة

والمغترب لا يملك قوة العيش مع الجماعة؛ ليس هناك سوق عريض مزين بالفوانيس يعرض ما طاب من البضائع الخاصة بهذا الشهر ويضج بالناس المتحمسة لاقتناء ملابس جديدة لصلاة التراويح ومقادير الحلويات وأطباق رمضان المعتادة، ليس هناك مسجد بصومعة طويلة وأبواب كبيرة مفتوحة وشوارع يملأ وسعها المصلون من الطرف إلى الطرف. ليس هناك جيران تلفك بالأحضان وتبارك لك حلول هذا الشهر العظيم. لن يدخل عليك أطفالك وهم يهتفون أن المعلمة أخبرتهم أن رمضان قادم وأنهم يرغبون بالصيام مثلما يصوم أصدقاؤهم. لن يفكر أحد في تغيير توقيت عملك لكي تتمكن من الإفطار في بيتك مع عائلتك. لا يحدث شيء من كل هذا في بلاد المهجر.

والمسلم في بلاد المهجر يمشي وحده عكس الجماعة؛ يحارب شعور التشرد والوحدة والبعد عن الأصل والهوية، ويصنع لنفسه دائرة من الانتماء ويزينها بالألوان والأضواء كي يفرح قلبه ويتذكر حماس الطفولة. يحضر الأجواء اللازمة لشهر رمضان بنفسه ولنفسه؛ فليس هناك سوق مزين ولا مسجد كبير ولا جيران يحضنون ويباركون. ويعير الاهتمام لأدق التفاصيل وأصغرها؛ مثل أن يكون إبريق الشاي ملائما للأكواب والصينية، وتكون المبخرة بجانب مكان الصلاة كما في بيت الجدة، ويكون جهاز التلفاز مفتوحا على قناة مكة وكأن مئذنة الإمام بجانب البيت. يحرص على إبقاء عادات سرية مثل صب زيت الزيتون فوق طبق الأكل كما كان يفعل أمامه والده أيام الزمن الجميل. يعيش المغترب هكذا على لملمة التفاصيل وجمعها بعناية كي يعيش جو رمضان الذي نشأ فيه. يرتدي ملابسه التقليدية ويذهب إلى المسجد كل ليلة بعد الإفطار ويسلم على المسلمين جميعا كأنهم العائلة والجيران والأصدقاء الذين يفتقدهم.

ويختلف الوضع إذا كان لدى المغتربين أطفال، ويزداد الشعور بالمسؤولية والخوف. الكبار يعلمون جيدا من أين أتوا وما هي أصولهم ولديهم النضج الكافي لاستيعاب الازدواجية في العيش التي يفرضها بلد المهجر. ولكن الأطفال لا يملكون هذا النوع من النضج؛ مازالت بنيتهم النفسية هشة وفي طور تكونها، مما يتطلب جهدا أكبر من الآباء في توفير جو رمضاني سلس ولافت ومقنع. يجب أن يشرح الآباء لأطفالهم لماذا نصوم 29-30 يوما ونصلي التراويح بلغة تناسب مستوى تفكيرهم، بأنشطة تتناسب مع اهتماماتهم وتجذب فضولهم. ثم يزن الطفل كل هذه المعطيات في رأسه كي يواجه زملاءه وأصدقاءه خارج البيت، الذين لا يعرفون شيئا عن رمضان وعاداته، ويشرح لهم اختلافه عنهم ببساطة يفهمونها كي لا يضايقوه، وليتعايشوا معه في سلام.

المسلمون أينما حل عليهم رمضان يستقبلونه بقلوب فرحة ومشتاقة ويغرسون ذلك في قلوب أطفالهم ويحاربون من أجل ثبات هذا الحب وتقويته كي لا يضمحل بين كثرة الفتن

ويبدأ الآباء في التجهيزات الرمضانية بهمة، وتجدهم يبحثون في المواقع الإلكترونية عن أنشطة تساعدهم على إيجاد جو رمضاني ممتع للأطفال في البيت، وجوائز تحفيزية لمن صام اليوم كله وحفظ سور من القرآن وصلى الصلاة في وقتها. يختارون الزينة والأضواء بعناية ويرتبون ركن الصلاة كي يصلوا جماعة، ويكثرون من شراء الكتب التربوية محاولين بكل جهدهم أن يقوموا بما يقوم به السوق والمسجد والمدرسة والجيران والشارع في البلدان المسلمة. يأخذونهم إلى المساجد وتجمعات المسلمين كي ينموا شعور الانتماء فيهم. يتعبون كثيرا كي ينشأ أطفالهم في نفس الأجواء التي نشؤوا فيها وكي يتربوا على خلق الدين ومبادئه. يفعلون كل هذا ويدعون الله أن يعينهم على الصلاح والتربية الحسنة.

إن المسلمين أينما حل عليهم رمضان يستقبلونه بقلوب فرحة ومشتاقة ويغرسون ذلك في قلوب أطفالهم، ويحاربون من أجل ثبات هذا الحب وتقويته كي لا يضمحل بين كثرة الفتن. يتوارثون التشبث بالدين والتمسك بالقيم والعادات جيلا بعد جيل مهما كان التيار معاكسا؛ يبدعون في إيجاد الأجواء الخاصة بهم ويتفننون في إظهار التفاصيل والحفاظ عليها من الزوال والتلاشي.

إن هذا المقال بمثابة تحية احترام وتقدير ووقفة امتنان وشكر لكل المغتربين المحاربين والمجاهدين من أجل العيش بالجلد الأولي، والحرص على تربية جيل مؤسس على قيمنا ومبادئنا الحسنة رغم كل مصاعب الغربة وعقباتها. كانت سيدة طيبة الروح تقول لي دائما إن أجر المغتربين مضاعف، لم أبحث في صحة قولها ولكنني أؤمن جدا بذلك.


****

5- رمضان الجالية

حلّ رمضان الذي لا يخذل الوعد أبدًا، مُخلص العهد ودائم الوصل. عمّت نسائمه المُرسلة من الله وساد عبقه في بقاع العالم. يختلف الاستقبال والترحيب به باختلاف المكان والعادات والطقوس ولكن المُراد منه يُوحدنا؛ كُلنا نطمع في ترميم الروح وتطهيرها من شوائب السنة بالتقرّب من الخالق والتسليم إليه.

تنهال علينا النعم في هذا الشهر الكريم خاصة نعمة الاستشعار والخشوع، نتلذذ طعم السكينة والهدوء النفسي بقلب مفتوح وروح خصبة ونُحس بحُب الله لنا ولُطفه بنا، نُعيد شريط السنة الفارطة ونقف عند المواقف التي دبّرها لنا الله بعلمه وأخرجنا منها ناجين، فنحمده كثيرا بقلب خالص. نتذكر الذنوب والمعاصي، فنستغفره ونطلب منه العفو. نُخر له ساجدين ونسأله الاستجابة لدعائنا والتيسير في أمورنا.

من بين النعم المُستهان بها والتي تظهر أكثر في رمضان نعمةُ الجماعة والعيش في بلد مُسلم، بلد يتجهز فيه الكبير والصغير لحلول الشهر الفضيل، شعبا وحكومة. رُبّما لا يصوم كل الناس ولكّنهم كلهم يعلمون أن رمضان هُنا دون أن يحتاجوا للبحث عن هذه المعلومة لأنها بارزة في جميع النواحي، في الهُدوء الذي يكون في الصباح الباكر وفي الارتجاج الذي يحدث مع قرب الإفطار وتزمير السيارات وفي ازدحام محلات الخبز والحلويات وتسامرُ الليل… إنّ في هذه النعمة قُوة ليس لها مثيل، قُوة لا يعرف قيمتها إلا من يفتقدها في ديار المهجر.

المُغترب لا يملك قوة العيش مع الجماعة؛ ليس هناك سوق عريض ومُزين بالفوانيس يعرض ما طاب من البضائع الخاصة بهذا الشهر ويهج بالناس المُتحمّسة لاقتناء ملابس جديدة لصلاة التراويح ومقادير الحلويات وأطباق رمضان المُعتادة، ليس هناك مسجد بصومعة طويلة وأبواب كبيرة مفتوحة وشوارع يملأ وسعها المُصلون من الطرف إلى الطرف. ليس هناك جيران تلفّك بالأحضان وتبارك لك حلول هذا الشهر العظيم. لن يدخل عليك أطفالك وهم يهتفون أن المُعلّمة أخبرتهم أن رمضان قادم وأنهم يرغبون بالصيام مثلما يصوم أصدقاؤهم. لن يفكر أحد في تغيير توقيت عملك لكي تتمكنَ من الإفطار في بيتك مع عائلتك. لا يحدث شيء من كل هذا في بلاد المهجر.

المُسلم في بلاد المهجر يمشي وحدَه عكس الجماعة؛ يُحارب شعور التشّرد والوحدة والبُعد عن الأصل والهُوية، ويصنع لنفسه دائرة من الانتماء ويُزيّنها بالألوان والأضواء كي يفرح قلبه ويتذكّر حماس الطفولة. يحضّر الأجواء اللازمة لشهر رمضان بنفسه ولنفسه؛ فليس هناك سوق مزيّن ولا مسجد كبير ولا جيران يحضنون ويُباركون. ويُعير الاهتمام لأدق التفاصيل وأصغرها؛ مثل أن يكون إبريق الشاي مُلائما للأكواب والصينية، وتكون المبخرة بجانب مكان الصلاة كما في بيت الجدّة، ويكون جهاز التلفاز مفتوحا على قناة مكّة وكأن مئذنة الإمام بجانب البيت. يحرص على إبقاء عادات سريّة مثل صبّ زيت الزيتون فوق طبق الأكل كما كان يفعل أمامه والده في أيام الزمن الجميل. يعيش المُغترب هكذا على لملمة التفاصيل وجمعها بعناية كي يعيش جو رمضان الذي نشأ فيه. يرتدي ملابسه التقليدية ويذهب إلى المسجد في كل ليلة بعد الإفطار ويسلّم على المُسلمين جميعا كأنّهم العائلة والجيران والأصدقاء الذين يفتقدهم.

يختلف الوضع إذا كان لدى المُغتربين أطفال ويزداد الشعور بالمسؤولية والخوف. الكبار يعلمون جيدا من أين أتوا وما هي أصولهم ولديهم النضج الكافي لاستيعاب الازدواجية في العيش التي يفرضها بلد المهجر. ولكن الأطفال لا يملكون هذا النوع من النضج؛ لا زالت بنيتهم النفسية هشّة وفي طور تكوّنها، مما يتطلّب جهدا أكبر من الآباء في توفير جو رمضاني سلِس ومُلفت ومُقنع. يجب أن يشرح الآباء لأطفالهم لماذا نصوم ثلاثين يوما ونُصلي التراويح بلغة تُناسب مستوى تفكيرهم، بأنشطة تتناسب مع اهتماماتهم وتجذب فضولهم. ثُم يزن الطفل كل هذه المعطيات في رأسه كي يُواجه زملاءه وأصدقاءه خارج البيت، الذين لا يعرفون شيئا عن رمضان وطقوسه ويشرح لهم اختلافه عنهم ببساطة يفهمونها كي لا يُضايقه ويتعايشوا معه في سلام.

يبدأ الآباء في التجهيزات الرمضانية بهِمّة وتجدهم يبحثون في المواقع الإلكترونية عن أنشطة تُساعدهم على خلق جو رمضاني مُمتع للأطفال في البيت، وجوائز تحفيزية لمن صام اليوم كلّه وحفظ سورا من القرآن وصلى الصلاة في وقتها. يختارون الزينة والأضواء بعناية ويُرتبون ركن الصلاة كي يُصلوا جماعة ويكثرون من شراء الكتب التربوية مُحاولين بكل جهدهم أن يقوموا بما يقوم به السوق والمسجد والمدرسة والجيران والشارع في البلدان المسلمة. يأخذونهم إلى المساجد وتجمعات المسلمين كي ينمّوا شعور الانتماء فيهم. يتعبون كثيرا كي ينشأ أطفالهم في نفس الأجواء التي نشأوا فيها وكي يتربوا على خلق الدين ومبادئه. يفعلون كل هذا ويدعون الله أن يعينهم على الصلاح والتربية الحسنة.

إن المُسلمين أينما حلّ عليهم رمضان يستقبلونه بقلوب فرحة ومُشتاقة ويغرسون ذلك في قلوب أطفالهم ويُحاربون من أجل ثبات هذا الحب وتقويته كي لا يضمحلّ بين كثرة الفتن. يتوارثون التشبث بالدين والتمسّك بالقيم والعادات جيلا بعد جيل مهما كان التيّار معاكسا؛ يُبدعون في خلق الأجواء الخاصة بهم ويتفنّنون في إظهار التفاصيل والحفاظ عليها من الزوال والتلاشي.

إن هذا المقال بمثابة تحية احترام وتقدير ووقفة امتنان وشكر لكلّ المغتربين المُحاربين والمُجاهدين من أجل العيش بالجلد الأوليّ، والحرص على تربية جيل مُؤسس على قيمنا ومبادئنا الحسنة رغم كل مصاعب الغُربة وعقباته. كانت سيدة طيبة الروح تقول لي دائما أن أجر المغتربين مضاعف، لم أبحث في صحة قولها ولكنّني أؤمن جدًّا بذلك.


======================
هدى بوحمام، مغربية قاطنة في الولايات المتحدة الأمريكية. أدرس الطب و الناس. بدأت الكتابة منذ زمن قليل، كوسيلة لترسيخ تجاربي البسيطة في الحياة و أيضا مشاركة أفكاري و وجهة نظري في مواضيع مختلفة. لا أتقن قواعد اللغة العربية، فأنا كنت قد هجرتها لمدة طويلة من الزمن، و لكن قوة كتاباتي تتمثّل في إحساسي المدفون فيها. بدأت بالكتابة لنفسي أولاً، ثم أتت فكرة المشاركة مع القرّاء. كتاباتي عميقة المعنى و اختيار الكلمات فيها بسيط و لكنه مقصود.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى