رمضانيات موسى إدريس حامد

(1)

ثاني أيام الشهر الفضيل دعيت أخوة وأصدقاء أعزاء لتناول وجبة إفطار رمضاني في منزلي المتواضع، وقد لبوا الدعوة مشكورين.
إلى هنا القصة عادية جدا، وتحدث مع ملايين من البشر حول العالم ممن يؤلمون موائد الرحمن في منازلهم للأهل والأقارب والأصدقاء كتقليد وعرف رمضاني يعزز روح التوادد والتكافل والألفة في الشهر المبارك .
الأمر غير العادي، هو أن يأتي المدعوون مع غروب الشمس أي في موعد الإفطار تحديدا، ويغيب صاحب الدعوة "شخصي المتواضع" الذي ترك هاتفه المحمول في صالون المنزل، وأنشغل بترتيبات السفرة الرمضانية في المطبخ، معتمدا على جرس المنزل، ناسيا أن المدعويين لا يعرفون رقم الشقة حيث أسكن، وإن كان احدهم على علم بالمبنى دون معرفة الشقة أو الدور تحديدا .
ومع مرور الوقت، وخصوصا بعد رفع أذان المغرب بوقت ليس بالقصير، إنتابني القلق فتوجهت إلى حيث هاتفي الجوال الذي نسيته في إحدى زواية المجلس، لأجده في وضعية الصامت وعليه عشرات المكالمات، عندها تنبهت للكارثة التي وقعت في براسنها دون قصد، فنزلت للشارع دون ان ألوي شيئا من هول الصدمة، وقد مر على موعد الإفطار 30 دقيقة او أكثر أحسست بها وكأنها دهرا كاملا ..
كان الشارع كعادته وقت الإفطار في حالة هدوء وصمت مطبق، لا بشر .. ولا سيارات تعبر إلا من شخصي الضعيف وأنا في حالة ذهول شديد مما جرى، وبيد مرتعشة أخذت أداعب أزرار الهاتف مؤملا الرد ممن دعوتهم إلى منزلي ولبوا الدعوة مشكورين وحضروا في الموعد، ولم أكن في أستقبالهم بسبب "الهاتف الصامت" لا ..!
ورغم ما جرى، رد الإخوان على اتصالاتي وكان القلق باديا على نبرات صوتهم، لإعتقادهم أن امرا جلل حلى بي وهو ما منعني من الرد على اتصالاتهم من امام المبنى حيث أعيش، وبعد ان أطمئنوا على سلامتي، أبلغوني أنهم الأن قريبون من أماكن سكناهم، بعد أن أدى بعضهم صلاة المغرب في المساجد القريبة والبعيدة، وأن العودة بعد كل ما مروا به أمر غير وارد .
عندها رميت بكل ما املك من فنون وتكتيكات التوسل والرجاء على أمل عدولهم والعودة من فورهم مرة أخرى، متعذرا بشتى الأعذار التي قد تشفع لي في مسعاي، وأردفت القول: "اذا لم تعودا وتتناولوا افطاركم الذي تم تجهيزه في السفرة من السادسة مساء، سوف لن أعود للمنزل ولن اتناول افطاري، وسأبقى في الشارع حتى "يقضي الله أمرا كان مفعولا" ..
وبعد تردد وتململ، صاحبه الكثير من الجدال، وافق الأخوة مشكرين على العودة مرة أخرى، وكنت على رأس مستقلبيهم في مدخل المبنى والفرحة لا تسعني، لم لا وقد رأيت فيه انتصارا لشخصي وسمعتي التي كانت قاب قوسين أو أدنى من التلاشي أو الذهاب في أدراج الرياح، او هكذا خيل لي..!
عموما التئم شمل الصحب الكريم حول مائدة الإفطار، ساد خلال الأحاديث الودية وتبادل النكات فيما جرى باعتباره الحدث أو الواقعة الأكبر مع بداية الشهر الكريم، ليستمر السمر لساعات طويلة، انفض بعدها السامر على أمل لقاءات ودعوات أخرى خلال الشهر الفضيل، ومن فوري راقت كل واحدا منهم إلى سيارته عرفانا بالجميل لقبولهم الدعوة مرتين في يوم واحد..!
#الخلاصة: تصور معي يا مؤن او تخيل اذا أحببت، كيف كان سيكون موقفي بين المجتمع اذا لم أتدارك الامر ولم يستجب الأخوة المدعويين لمناشدتي المتكررة، ويتم الامر كما قدر له..
أكيد "فضيحة بجلاجل" يتناقل فصولها الأجيال لسنوات وسنوات أي "لسنة لفلان !!!



****

(2)

لشهر الصيام في بلادي التي غادرتها قسرا مثلي مثل غيري من أبناء شعبي، طقوس خاصة تنطلق نذرها الأولى منتصف شهر شعبان وتستمر حتى يهل هلال شهر رمضان المبارك، حيث تستعد الأسر في تجهيز الأطعمة الرمضانية التقليدية على قلتها، ففي منزلنا المتواضع كانت الوالدة رحمها الله وأسكنها الفردوس الأعلى، تنهمك خلال الربع الأخير من شهر شعبان في تنظيف وغسل كميات كبيرة من حبوب القمح والشعير بعد إزالة الأتربة والشوائب والقشور وتجفيفه تحت أشعة الشمس قبل الدفع به للمطحنة أو الطاحونة بمسماها المعروف، باعتبار ان القمح مكون أساس في إعداد شوربة الأفطار الرمضانية باللحمة، إلى جانب وجبة "الإنجيرة" بالمرق والإدام ( ويكون غالبا من القرع "الدبة" او البامية "العاواب" والملوخية) أما العدس والحمص و"الشرو" والبطاطس فيستبعد كليا من المائدة الرمضانية، لأعتقاد سائد بين الناس أن العدس والبطاطس أو "الدنش" وجبات خاصة بأهل المرتفعات من غير المسلمين وأيضا الفقراء المعدمين، أو هكذا يعتقد لجهل الأغلبية بالفوائد الغذائية للبطاطس والبقوليات الأخرى عموما ..
وإلى جانب الوجبة التقليدية للسحور هنالك "الإكلت" العصيدة بالسمن البلدي و"الرقئو" أي الزبادي أو "الحقان" (البن الرائب) علما أن العصيدة تعد وجبة رئيسية في السحور وتتشارك في تناولها جميع الأسر بفئاتها المختلفة طوال الشهر الفضيل، كما يعتبر "الكلع" (قدر من الفخار) فضلا عن الأثافي أو "الأتافي" و"الموكس" أدوات المطبخ التقليدي.
ومن المظاهر الرمضانية الأخرى, تقليد شرب "السنو" أو "سنا" (عشبة برية تتميز بخاصية تليين المعدة وتكافح عسر الهضم، حيث يتناول افراد الأسرة مجتمعين خلاصة مغلي "السنا" قبل حلول الشهر الكريم بأسبوع أو حوله، وقد يسبق الخطوة شرب فنجان من السمن البلدي صباحا على الريق لترطيب المعدة وتسليك القولون، أما ماتبقى من أيام شهر شعبان هي بمثابة أعياد خاصة عند صغار السن، حيث يترقب الكل هلال شهر رمضان بفرحة عارمة، وفي اليوم الموعود يترقب الجميع مقدم الضيف العزيز والوافد الكريم حيث تتسمر الأعين صوب منارة المسجد الكبير التي تضيء سماء المدينة بألوانها الخضراء والصفراء الزاهية إيذانا بثبوت رؤية الشهر الكريم ..
عندها تهنئ الأسر بعضها البعض، وتتهيأ ربات البيوت لإعداد وجبة السحور التقليدية "الإكلت" في الغالب، فيما يستعد المسحراتية المعتمدين في تجهيز أدواتهم التقليدية (الطبلة والفانوس أبو جاز "الكروسين") وللمسحراتية قوانينهم وأنظمتهم التي يتقيدون بها، ولكل حي مسحراتي خاص به ومنطقة تحرك، وينطلقون في الغالب قبل أذان الفجر بوقت كاف لتنبيه الناس بموعد السحور، ولكل واحد منهم أسلوبه وصوته المميز وحتى نوعية الأهازيج والمواويل والأناشيد التي يتغنون بها، كقولهم "أصحى يا نايم وحد الدايم" و أسحروا يا عباد الله" وأحيانا ينادون رب المنزل بأسمه "أصحى يا فلان أو موعد السحور ياعلان" وهكذا، وغالبا ما ترافقهم جوقة أطفال الحارة الذين يتبعون المسحراتي في مراحل جولته وحتى انتهاء مهمته الإنسانية الخيرية ..
ومن أشهر المسحراتية، سالم اليماني، العم أبو إدريس بخيتاي، محمد صالح عوالي وعثمان حيلا وأخرين ..!!
حقيقة كانت أيام جميلة مقرونة بذكريات الصطفولة والصبا، وستبقى كذلك ما حيينا ..!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى