* الحلقة الأولى
الكاتب منكود الحظّ
في عالم الأدب والأدباء مفارقات ومغالطات وأفكار مسبقة كثيرة وأوهام تحتاج إلى بعض المراجعة والنظر النقديّ فيها.
من بين هذه الأوهام ما نسمعه من شكوى هذا المشتغل بالأدب أو ذاك من أنّ القرّاء لا يقبلون على قراءته فيبدو غريبا في عالم الأدب رغم اعتقاده بأنّه مبدع جدير بالمتابعة.
وبقطع النظر عن فكرة نرجسيّة الكاتب فإنّ اللوم يقع عادة على الناشرين الذين لا يقدّرون العباقرة والمتميّزين (ما مصلحتهم في ذلك؟) وحين ينشرون لا يوزّعون الكتاب التوزيع المناسب (النشر هو استثمار فلماذا لا يحرص الناشر على استثماراته؟). وإذا توفّر الكتاب في المكتبات والمعارض وتواصلت الرغبة عن اقتنائه يميل اديبنا إلى اتهام النقّاد ورجال الإعلام بالتقصير في تعريف القرّاء بكتابه الفريد فهم يجاملون وفق منطق الشلليّة ولا يجتهدون في البحث عن الأصوات الجديدة. وإذا تواصل التجاهل ينبرون ينتقدون القرّاء أنفسهم متّهمين إيّاهم بالجهل بحقيقة الأدب أو عدم القراءة أصلا في مجتمع جاهل.
لهذه المظلوميّة وجوه اخرى وصور سنعود إليها لكنّ بعض هؤلاء الأدباء يصلون إلى الإعلاء من شأن أنفسهم وأعمالهم منكودة الحظّ بطرق أخرى نذكر منها طريقتين. الأولى مهاجمة الأعمال التي حقّقت بعض النجاح بإقبال القرّاء عليها والتنكيل بها وبأصحابها بقطع النظر عن قيمتها ووسائل تسويقها (مثال الهجوم على كتابات فاتن الفازع) أو حصولها على جائزة محلّيّة أو عربيّة بالادّعاء بأنّ العمل لا يستحق لأّنّه تقليدي وخال من بيفيدوس الإبداع (هذا بزعم التقييم النقدي الموضوعي) أو أنّه كان من باب العلاقات الشخصيّة والمجاملات. والطريقة الثانية تبدو مغرية أكثر لأنّها تتلحّف برداء راديكاليّة نقديّة لللمجتمع المشهديّ ومنزلة الفنّ فيه (شيء من سوسيولجيّة الأدب ممزوج بنقود مدرسة فرنكفورت للفنّ المغترب مخلوط بإحساس فظيع بالضيم) . فتصبح الكتابات الناجحة وإن جزئيّا مجرّد نفايات في سوق الاستهلاك الأدبي فقدت وظيفتها النقديّة ورضي عنها الإله الخفيّ الذي يحدّد ما ينبغي استهلاكه في الأدب وغير الأدب. لذلك يصبح الكاتب الحقّ هو الذي يأنى بنفسه عن قدر شيئيّة الكتابات في عالم مشيّء مغترب.
وللحديث بقايا
***
* الحلقة الثانية
في الأدب الرفيع وغيره
لا أحد يعرف من الكتّاب والنقّاد والمحرّرين الأدبيّين العوامل التي تجعل كتابا أدبيّا يلقى رواجا كبيرا لدى القرّاء وانتشارا في سوق الكتاب. لو أمكن لهم، خصوصا المحرّرين الأدبيّين، أن يحدّدوا الشروط والثوابت لأنتجوا لنا يوميّا كتبا تصبح "باست سيلر". فالواقع أننّا لا نجد شيئا جامعا بين الأعمال التي تدرج في هذا الباب. وكثير من الكتاب المتجهّمين عادة يعتبرونها أقرب إلى أدب "الجمهور عاوز كدة" على طريقة السينما المصريّة.
ولكن منْ من الكتّاب لا يريد أن يكون كتابه حدثا أدبيّا يروج بين الناس وينتشر؟
والحقّ أنّني لا أفهم لماذا يربط بعض الكتاب والنقّاد "الباست سيلر" بالشعبويّة بالضرورة والحال أنّ اعمالا كثيرة جيّدة أو نعتبرها كذلك تجد لدى القرّاء اهتماما ومتابعة وفي عالم النشر مكانة فتباع بأرقام خياليّة احيانا.
وأكبر ظنّي أنّ وراء ذلك فكرة التعلّق بالروائع والأعمال الخالدة والجودة. فثمّة اساطير عن الأدب وغير الأدب تبنى شيئا فشيئا وتصبح مرجعيّات بها تقاس الأعمال الأخرى. وهذا مقبول لولا الفهم القاصر الذي يجعل الكاتب يبحث عن شيء لم تأت به الأوائل أو يتوهّم أنّه يعيد فتح إفريقيّة الأدب السامي الرفيع أو يحدث في دنيا الكتابة إحداثا.
وتشهد ملايين الكتب المنشورة منذ ظهور جنس الرواية على الأقلّ أنّ الأعمال التي اصبحت مرجعيّة قليلة حدّ الندرة وأنّ أغلب ما ينشر لا ينشد الخلود بقدر ما يؤدّي وظيفة ما في عالم النشر والقراءة. فمن وظائف الأدب أيضا التسلية في اوقات الفراغ وتنويع ما يمكن إتاحته م عروض الكتب الأدبيّة للناس بحسب اهتماماتهم وميولهم في القراءة ومستوياتهم. لذلك يبدو أنّ النظرة التي تحتقر روايات عبير أو الألغاز أو القصص البوليسيّة مثلا قصيرة . فلهذه الكتابات وظائف تختلف عن وظيفة ما نعتقد أنه الأدب الرفيع أو الأدب الذي أوهمتنا المؤسّسة المدرسيّة والجامعيّة ورسّخ فينا النقّاد الأكاديميّون وغير الأكاديميّين والإعلام الثقافيّ والجوائز الأدبيّة أنّه أدب عالى المستوى.
ليس المطلوب وراء هذه الملاحظة أن نتخلّى عن معاييرنا واذواقنا ولكن علينا أن ندرك أنّ ما يتوّج ادبا رفيعا لا يلغي أصناف الأدب الأخرى التي لا تروق لنا فببساطة يمكن ألا تعجبنا روايات تعدّ راقية مثلما لا تعجبنا أعمال نعدّها قليلة الأدب (أقصد قليلة الحظ من الأدبيّة).
بطبيعة الحال أنا اتحدّث عن الروايات التي تتوفّر فيها شروط الجنس الأدبي للرواية وليس عن الخربشات التي يوضع على غلافها عبارة "رواية". فهذه تندرج ضمن حريّة النشر بخيرها وشرّها. ومن شرورها أنها تقبل كلّ من هبّ ودب.
***
* الحلقة الثالثة
التفاصيل في الرواية
انتشرت نزعة لدى المحرّرين الأدبيّين مناهضة لكثرة التفاصيل في الرواية بحجّة تخليصها من الزوائد. وهذه الزوائد يمكن أن تكون جملا لا تضيف شيئا لأنها تعيد معلومات سبق ذكرها (يقابلها مبدأ في الإعادة إفادة وفي التكرار تاكيد) ويمكن أن تكون مشهدا برمّته أو خطّا سرديّا يتشابك مع خطّ آخر أو اكثر ويمكن أن يكون أحيانا شخصيّة كاملة أو فصلا برمّته.
لم امارس التحرير الأدبي بمعناه المحترف لكنّ فكرة الحذف والبتر تخيف الروائيّين عادة وإن لم تكن فكرة التشذيب في حدّ ذاتها سيئة إذا كانت تجوّد العمل وتمنحه مقروئيّة أكبر وتماسكا في العالم التخييليّ أكبر.
لكنّ بالمقابل أعتقد أنّ قوّة السرد الروائيّ تكمن في التفاصيل وكيفيّة إيرادها فكثير من الروايات الكبرى إذا حذفنا منها التفاصيل والتفريعات والتدقيقات نجدها من صنف "حلّ الصرّة تجد خيطا". فما الذي يتبقّى من "الشيخ والبحر" إذا شذّبنا الحكاية على قصرها من تفاصيلها؟
أعرف أنّ لدى القرّاء نزعة إلى تجاوز المقاطع الوصفيّة المطوّلة وغير المطوّلة لكنّ المشهد الافتتاحيّ في "جرمنال" بتفاصيله هو الي يبني بدلالاته المحاكية للواقع والرمزيّة في آن واحد عالم الرواية.
لنتصوّر "موسم الهجرة إلى الشمال" خالية من الحكايات الصغيرة التي اوردها الطيّب صالح وركّز فقط على الشخصيّة الرئيسيّة فأيّ ديناميّة يمكنها ان تكشف الصراع التراجيديّ الذي عاشه البطل؟
من الثابت أنّ كتابات كثيرة لم توظّف فيها التفاصيل التوظيف المناسب ومن باب أولى وأحرى أن نجد مشاكل في التفصيل والتفريع لدى من لا يمتلكون ناصية السرد لكنّ وراء كثير من المواقف المناهضة للتفاصيل أسبابا أخرى نذكر منها بعجالة سببين. احدهما تجاريّ يرتبط بالناشرين. فتضخّم العمل يطرح مشاكل في النشر ومدى إقبال القرّاء على الروايات الطويلة. ومثال ثلاثيّة نجيب محفوظ التي كانت عملا واحدا معروف ونحمد الله أّن الناشر لم يطلب الحذف والتشذيب بل قسم الرواية إلى اجزاء فقط. والسبب الآخر موقف من الواقعيّة التي تميل إلى إعادة بناء العالم بالتفاصيل الكثيرة ولنا في المشاهد المطوّلة المدقّقة لدى بلزاك مثال حسن.
المشكلة أنّ هذه التفاصيل التي تزعج بعض الناشرين والقرّاء والمحرّرين الأدبيّين والنقدة المتعالمين هي التي تبين عن قدرات الروائيّين في الكتابات الواقعيّة وغير الواقعيّة. فالمسألة لا تقاس بالذراع وإنّما بجودة التوظيف ولا ينفع معها الحديث عن روايات طويلة (كالحرب والسلام او مدن الملح) وما يسمّى نوفيلا (وهي في حقيقة امرها روايات مكتملة).
نرجو ألا نجد قرّاء يسيطر عليهم التمرين المدرسيّ المسمّى تلخيصا والكتب التي تلخّص الروايات للتلاميذ فيبحثون عن متعة الحكاية لا عن متعة أسلوبها وطريقة قولها.
***
* الحلقة الرابعة
روايات لا تعجبنا...
كنت أتحدّث قبل يوم من شهر الصيام مع صديق عراقيّ يعيش في بريطانيا وهو باحث وروائيّ شغل مناصب إعلاميّة عديدة عن الثقافة العربيّة والأدب والرواية ففاجأني بموقف سلبي جدّا من رواية الطيّب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" ومن كتابات الطيّب صالح كلّها.
والصدفة وحدها شاءت أن يعلّق أحد الأصدقاء الذي تفاعلوا مع الحلقة الأولى من هذه الرمضانيّات فقرأت في تعليقه ما يلي: "شخصيا قرأت "موسم الهجرة إلى الشمال" صغيرا وأعدت قراءتها كبيرا أكثر من مرة. فأصبح يداخلني شعور بأن لتقديم توفيق بكار الخرافي دورا كبيرا في الإعلاء من شأن الرواية".
لا اريد أن أدافع عن المبدع الطيّب صالح وكتاباته فهو لا يحتاج إليّ ونصّه البديع سيبقى من روائع الرواية العربيّة مهما قيل عنه مدحا أو قدحا. وليس لي اعتراض على حرّيّة الصديقين الواقعيّ والافتراضي في تقييم بعض الروايات. فمثلما أؤمن بحريّة الروائي والكاتب عموما أؤمن بالقدر نفسه بحريّة القارئ. فأنا أيضا لا تعجبني روايات كثيرة لكتّاب كبار عالميّين يحتفل بهم النقّاد الأكاديميّون والقرّاء العاديّون إلى حدّ جعلوا منهم أساطير غير قابلة للمسّ من قداستها.
ما أريد التنبيه إليه أّن للقراءة الانطباعيّة، بحسب ثقافة القارئ وخبرته الأدبيّة وميوله وأسلوب تعامله مع النصوص الإبداعيّة، وجاهةً مّا. فمهما حاول النقد أن يبني معايير موضوعيّة للجودة الفنّيّة وتنزيل الأعمال الأدبيّة في جنسها الأدبيّ مطابقة أو مخالفة وقواعد الأسلوب الرفيع أو الوضيع وسياقها المعرفيّ والتاريخيّ للحكم عليها فإنّ الأساسيّ في القراءة هو التفاعل الذي ينشئه النصّ الأدبيّ بين ذات القارئ (وهو متعدّد ثقافة وخبرة) وذات المؤلّف (الضمنيّ على الأقلّ بعد أن أعلن النقّاد والفلاسفة عن "موت المؤلّف" وهو موت معلن ولكنّه يحتاج إلى تثبّت).
وهذا التفاعل الذوقي العفويّ مهما حاولنا فهمه اجتماعيّا وعرفانيّا يرتبط جماليّا وتجريبيّا بشيء بسيط جدّا يمثّله فعلان في العربيّة هما: نعم للمدح وبئس للذمّ. بعد ذلك تأتي التبريرات العقليّة والإيديولوجيّة والنقديّة المختلفة.
أذكر أنّ كاتبا اسطورة هو مارسيل بروست حين قدّم الجزء الأوّل من روايته المعلم "في البحث عن الزمن المفقود" إلى الناشرين رفضته دور النشر ومن بيها دار غاليمار الشهيرة. طبعا كان الرفض من قرّاء محترفين ومحرّرين أدبيّين يشتغلون مع هذه الدور. ولولا أندري جيد الذي اعجب بالرواية لما نشرت في ما بعد. ومحلّ الشاهد أنّ قلّة تذوّق نصّ مّا قد يكون من قارئ محترف أو من محرّر ادبيّ أو من كاتب من الكتّاب لأسباب ذوقيّة فلم نرفضه من قارئ لا يدّعي في علم الأدب فلسفة؟
***
* الحلقة الخامسة
من تمارين النقد الأكاديميّ
منذ أيّام كتب الصديق الناقد العراقي عبد الله إبراهيم تدوينة بعد أن قرأ بحثا جامعيّا تناول سيرته الذاتيّة "أمواج" معلّقا: "إنها أغرب أطروحة كُتبتْ على الإطلاق؛ كونها الأسوأ في ضعفها، وهزالها، وعدم أخذها بأيّ من أعراف البحث، لما كان صاحب القول مخطئا، وإلى ذلك، فالباحثة، والمشرف، ولجنة المناقشة جعلوا من السيرة الذاتية (أمواج) رواية، بل (رواية تاريخية)، وعلى ذلك مضوا في البحث والمناقشة، شيء عجيب بحقّ وحقيق!!!".
ولاحظت بالمقابل أنّ كثيرا من الكتّاب الأصدقاء في الواقع والفضاء الأزرق وغير الأصدقاء يضعون في تدوينات على صفحاتهم بالفيسبوك أغلفة أعمال جامعيّة خصوصا من مذكّرات الماجستير تناولت أعمالهم.
ومن البيّن أنّهم يعتبرون ذلك ضربا من الاعتراف بأدبهم يجدر التنويه به فيشكرون المشرف على البحث والطالب. فللمؤسّسة الجامعيّة هيبة ترتبط بالرصانة العلميّة والجدّيّة والموضوعيّة وما إلى هذا من صفات ممدوحة. وهي إلى ذلك من المؤسّسات التي تمنح، بصورة من الصور حضورا أو غيابا، بعض الشرعيّة الأدبيّة للأعمال الأدبيّة إذ تعرف الجامعات والمؤسّسات التعليميّة في الأصل بأّنها تصطفي الجيّد وتذيعه بين جمهورها.
وقد مرّ حين من الدهر، والأرجح أنّه حين ممتدّ إلى اليوم، كانت فيه الجامعات تتّهم بالمحافظة والرجعيّة وحتى بلادة الذوق والعجز عن متابعة الجديد والإبداع الحقيقيّ بسبب عنايتها بالأعلام الذين توقّفوا عن الإبداع بسبب الموت. فهي تتعامل مع الموتى لا الأحياء وتعنى بالقديم لا الجديد.
لكن لا احد ممن ينشرون الأغلفة حدّثنا عن نوعيّة هذه المقاربات النقديّة ومناهجها المعتمدة فيها وإشكاليّاتها ونتائجها ومدى كشفها عن فرادة هذا النصّ الإبداعي أو ذاك... إلخ. وها إنّ ما قاله عبد الله إبراهيم يكشف جانبا ربّما ممّا هو مخفيّ.
فما لا يعرفه الكثيرون أنّ مثل هذه الأعمال التي يعلوها الغبار في مخازن الكلّيّات،، وهي بالمئات والآلآف، مجرّد تدريبات جامعيّة يتعلّم من خلالها الطالب في خطواته الأولى في طريق البحث بعض الصرامة المطلوبة في المفاهيم النقديّة والمنهج والتوثيق والتحرير والاستدلال والاستنتاج. إنّها تمارين مدرسيّة لا يطلب منها ما يتوقّعه الأديب الذي يُدرس نصّ من نصوصه فتكون الخيبة على قدر ما في هذه التمارين من حدود توضع لها وعلى قدر مهارات الطالب الباحث ومدى إلمامه بالنظريّات والمناهج وثقافته الأدبيّة بالخصوص. وإذا أضفنا إلى ذلك مشاكل التكوين الجامعي في الآداب ومدى جدّيّة المشرف ومتابعته وحرصه على جودة العمل البحثيّ ثمّ لجنة المناقشة ومدى ابتعادها عن المجاملات والتهوين من قيمة تمرين مذكّرة الماجستير أمكننا أن نتخيّل صدمة الأديب وغير الأديب مثلما وقع لعبد الله إبراهيم.
ولنا عودة إلى النقد الأكاديميّ ومشاكله.
***
* الحلقة السادسة
الأديب والنّقد الأكاديميّ: سوء التفاهم
منذ البدء أقول إجمالا: إنّ بين الأديب الذي يُدرس أدبه في رسالة جامعيّة والباحث المبتدئ أو الراسخة أقدامه في البحث سوء تفاهم جذريّ.
فمن حقّ الأديب أن يبحث عن الاعتراف بمنجزه وهو يعتقد أنّ التمارين الجامعيّة ذات مصداقيّة أكبر من الكتابات الصحفيّة أو الثقافيّة العامّة. لذلك ترى نقاشا متوتّرا احيانا بين المتأدّبين عن حظّ الأدب التونسيّ في المدرسة والجامعة تدريسا وبحثا. فالأدب كما قيل ظاهرة مدرسيّة أساسا (وهذه تحتاج إلى تحاليل تفيض عن هذا المقام).
لكنّ الأديب يرجو من وراء الاعتراف كذلك تقدير عمله حقّ قدره بأدوات يعتقد أنّها علميّة يمتلكها الباحثون فيكشفون عن مواطن الإبداع في نصوصه المدروسة ومميّزاتها وخصوصيّاتها.
لكنّ الوجه الآخر من العملة أنّ البحث الأكاديميّ في الأدب يتّجه بحكم ارتباطه بالنظريّات المختلفة والمناهج المتعدّدة وجهة مغايرة. فرغم كلّ الحديث الشائع عن الأدبيّة والخصائص الفنّيّة والأساليب والشعريّة (الإنشائيّة)... إلخ (وهي مفاهيم في حدّ ذاتها متقلقة لا تصمد كثيرا أمام النقد العلميّ حتى أصبحت عقائد مسلّما بها) يبحث الدارسون في أمور هي من الكلّيّات لا الخصوصيّات وما الأعمال الأدبيّة في نهاية المطاف إلا شواهد ومعطيات اختباريّة يجرّبون فيها وعليها المفاهيم والافتراضات والأفكار المتّصلة بهذا المبحث او ذاك (كالزمان والمكان والشخصيّات والحبكة والراوي والحواريّة... إلخ) أو مسائل من قبيل حضور التاريخ في الرواية أو صورة المرأة أو الشرق والغرب وما إلى هذا حتّى نذكر مواضيع كلاسيكيّة تكشفها عناوين بعض الكتب النقديّة.
من هنا منشأ أساسيّ لسوء التفاهم. فالأديب يبحث عن مميّزات نصّه المفرد الخاصّ بتقنياته وجماليّاته ورؤيته وكيفيّات القول فيه والباحث يسائل قضايا أعمّ من النصوص المفردة وإن اتّخذ هذا النصّ أو ذاك مرقاة إلى ما هو أعمّ.
وهذا أمر لا يخصّ أدباءنا وأعمالهم فحسب بل يتّصل وثيق الصلة بالنقد الأكاديميّ عامّة.
أليس العلم بحثا في الكلّيّات؟ وأليست النصوص التي تطرح أسئلة جديدة وتبتكر قضايا فّيّة وجماليّة تضع النقد ونظريّاته في أزمة نادرة؟
فلا تثريب على الناقد الأكاديميّ ولا عزاء للأديب، بعض العزاء على الأقلّ، إلاّ في أصناف اخرى من النقد غير النقد الأكاديميّ قد أعود إليها في رمضانيّات أخرى.
***
* الحلقة السابعة
عن النقد غير الأكاديميّ
يكاد الدارسون الأكاديميّون يحتلّون جميع فضاءات النقد الأدبيّ. وهذا ممّا يزعج الكثيرين لأسباب مختلفة لا تعنينا كثيرا في هذه التدوينة. بيد أنّ هذه الظاهرة تستدعي بعض التدقيقات. منها اوّلا أنّ صفة الأكاديميّ لا تسوّغ لهذا الناقد أوذاك أن يكون كلامه عن الأدب دقيقا موضوعيّا علميّا ومنها ثانيا أنّ التكوين الأكاديميّ لا يقتصر على الجامعيّين بل يشمل كذلك من مرّوا من مدرّجات الجامعات وحصلوا فيها على زاد يؤهّلهم مبدئيّا لممارسة النقد ومنها ثالثا أنّ جودة النقد أعلق بثقافة الناقد الأدبيّ وليست رهينة الأدوات النقديّة التي يشتغل بها.
أمّا النقد الأكاديميّ في حدّ ذاته، بصرف النظر عن جودته، فلا نراه كذلك إلا بعد تحكيمه علميّا في مناقشات الرسائل والأبحاث (الدكتوار والماجستير) ونشره في المجلأّت المحكّمة أو الأعمال المقدّمة للتاهيل الجامعيّ وبعض ما ينشره من بلغوا رتبا معيّنة في المهنة (المثلة كثيرة ولكني أذكر محمّد القاضي أو محمّد آيت ميهوب من المتّصلين بالحياتين الأكاديميّة والثقافيّة). وهذا يعني أنّ النقد الأكاديميّ يحتاج إلى اعتراف هيئات ولجان تجيزه تمثّل الجماعة العلميّة بقطع النظر عن الأفراد فيها. لكنّ هذا الاعتراف لا يعني أنّ ما يكتب في إطاره ويجاز موجّه إلى الجمهور العادي من الأدباء والمتأدّبين الذين قد يقرؤنه من باب الاطّلاع فلهم أن يعجبوا به أو أن يردّوه فالأمر سيّان.
لكنّ النقد الأدبيّ لا نجده في رحاب الجامعات فحسب ولا يكتبه الأكاديميّون المحترفون المعترف بهم فحسب بل نجد كتابات نقديّة مهمّة وأعلق بالحياة الثقافيّة المتحرّكة وزخمها في الصحف والمجلاّت الثقافيّة رغم ما نشهده من انحسارها المؤسف. ولنا في هذا الباب نقّاد مميّزون في تونس يمثّلون هذا الصنف من النقد غير الأكاديميّ من قبيل ما ينشره ناجي الخنشاوي (في الشعب) أو هيام الفرشيشي (في الشارع المغاربي). وهو نقد يمزج بين ما هو صحفيّ في إيجازه وطريقة عرضه وما هو ثقافيّ بما يثيره من قضايا أدبيّة ونقديّة فيجتهد في تقديم تقييم للعمل والحكم عليه.
والواقع أنّ هذا التقليد الصحفي قديم في تونس نجده مع زين العابدين السنوسي مثلا وكتّاب مجلّته "العالم الأدبيّ" وما نشر في مجلّة "المباحث" من تحاليل ودراسات. وأصبح بعض النقّاد في الصحف معروفين بكتب في النقد حرّكت السواكن مهما يكن موقفنا من مضومنها وتوجّهات اصحابها النقديّة مثل كتب أبوزيّان السعديّ رحمه الله وحسونة المصباحي.
وقد أنشأ هذا النوع من النقد الذي لم ينشأ في الجامعة اعمالا مهمّة جدّا. يكفي أن نذكر منها الكتاب البديع للشابّي حول الخيال الشعريّ عند العرب وقد كتبه ولما يبلغ العشرين من لعمر. فرغم كلّ المآخذ الأكاديميّة الممكنة عليه فإنّه مثّل ثورة فكريّة وأدبيّة كبرى في الأدب التونسي والعربي كذلك.
ما اردنا قوله بإيجاز إنّ المشكل ليس في سيطرة الجامعيّين على النقد فهم ايضا يتدخّلون بصفتهم مثقّفين ويتكيّفون كذلك مع المحامل التي يكتبون فيها كالصحف (وممن استحضرهم الآن شفيع بالزين) والمنابر التي يتكلّمون فيها بل تكمن المشكلة في أنّ غير الجامعيّين من المثقّفين لا يملؤون إلا قليلا هذا الفضاء الشاسع الذي نسمّيه نقد الأدب.
***
* الحلقة الثامنة
هل مات المؤلّف حقّا؟
"ماذا أراد المؤلّف أن يقول؟" كان المعنى المراد والمقصد ونوايا الكاتب دوما، بطرق مختلفة ومهما تعدّدت النظريّات والمقاربات، ممّا يبحث عنه الناقد وينشد المدرّسون والطلبة في تمرين شرح النصّ الوصول إليه.
وسواء عليا أفسّرنا الأثر والنصّ بحياة كاتبه أم عصره ومجتمعه أم عقده النفسيّة التي تتجلّى في كتابته فإنّ المؤلّف حاضر حضورا طاغيا لحظة التأويل باعتباره كائنا فردا أو نتاجا اجتماعيّا وثقافيّا.
لكنّ النقد الجديد (بارط) وبعض الفلاسفة (فوكو) حين حملا إلينا نعي المؤلّف مستبدلين اللغة الأدبيّة غير المتعدّيّة به أو التشكيلات الخطابيّة لم يمنعا فكرة الربط بين مقاصد النصّ ومقاصد صاحبه من التغلغل في الأذهان. فيكاد الناقد والطالب من حيث لا يشعران يسألان السؤال المحرّم كما لو انّه سؤال مشروع ("ماذا يقصد المؤلّف؟") وكثير من النقد للشعر يبحث دون مواربة في أنا الشاعر. وإلى ذلك أفرد الباحثون في السرديّات لونا من القول سموه كتابة الأنا (السيرة الذاتيّة واليوميّات والمذكّرات... إلخ) لاتخاذها حياة المؤلّف موضوعا للكتابة.
طبعا في النقد الأدبيّ أسئلة عديدة معلّقة ولها احتمالات في الإجابة ليست بديهيّة ولا حاسمة: هل يقتصر القصد في النصّ على ما أراد المؤلّف قوله؟ هل الأنا المكتوبة هي أنا المؤلّف المرجعيّ الواقعيّ الذي يقول أنا؟ هل الكتابة انعكاس للمؤلّف شخصا وكائنا ثقافيّا واجتماعيّا وتاريخيّا؟ ما هي صور المؤلّف في نصّه؟ كيف يعبّر عن إيديولوجيّته ومواقفه وكيف يستنبطها القارئ؟
مهما تكن المواقف الصادمة سواء بإرجاع كل شيء إلى هذا الكائن الواعي العاقل المتخيّل المميّز الذي نسمّيه مؤلّفا (فكرة العبقريّة) أو بإعلان نعيه وقبره نهائيّا فإنّ الأدب يظلّ مرتبطا بصورة ما بصاحبه فيراه القارئ من خلال السطور أو يتوهّم صورته المنعكسة في نصّه وإن أشاح الباحث عنه بوجهه باسم الموضوعيّة وتحكّم فكرة موت المؤلّف التي صارت أقرب إلى العقائد الراسخة.
فهل مات المؤلّف حقّا؟ وفيم تكمن حياته اليوم؟
***
* الحلقة التاسعة
لماذا الرواية وليس التاريخ؟ (على سبيل المشاكسة الجادّة)
سألني صديق ممّن يشتغلون بما يسمّى الحضارة في أقسام العربيّة بجامعاتنا التونسيّة ويتحكّك على علم التاريخ كما لو أنّه "العلم الوحيد الذي نعرفه ونعترف به" على حدّ تعبير ماركس في القرن التاسع عشر:
"لماذا تكتب في رمضانيّاتك عن الرواية والنقد والتخييل رغم أنّ ما كتبته من رمضانيّات سابقة عن تاريخ الثقافة التونسيّة مفيد أكثر؟" واضاف مازحا ولا شكّ: "يزّينا من الخيال والتخييل والمخيال والحكاية والرواية هات الصحيح اللي ينفع".
لن أسرد ما اجبته به ولكنّني احببت اليوم أن أشير إلى مسألة حول التاريخ والرواية صارت معروفة في كتابات المؤرّخين المحترفين الذين سعوا إلى دراسة ابستمولوجيّة التاريخ نفسه وأنطولوجيّته (ماذا للمؤرّخ أن يعرف؟ وكيف يكتبه وهو يمارس علم التاريخ؟). غير أنّ زملاءنا (لنقل بعضهم أو اغلبهم سيّان) ممّن تربّوا في أقسام العربيّة ودرسوا فيها موادّ تسمّى الحضارة ثم اتّجهوا إلى البحث فيها وصاروا مختصّين بالمعنى الأكاديميّ سرعان ما تنكّروا لتكوينهم الأدبيّ وصارت الرواية عندهم محض خيال لا يفيد وهي قد تكون موضوع بحث للتمثّلات الثقافيّة في أحسن الحالات (يستحضر هنا بعض ما كتبه ادوارد سعيد مثلا). أمّا العلم والمعرفة فنجدهما في مقاربات المؤرّخين وعلماء الاجتماع والأنتروبولوجيّين مثلا ومناهجهم في البحث.
ليس جديدا أن تعدّ النظرة الوضعيّة الضيّقة الأدب والشعر لغوا (نقصد اللغة اداةُ والهذر مضمونا معا) وخيالا يمتدّ من أجمل الشعر اكذبه إلى الرواية التي تكتب للمتعة الجماليّة التي لا هدف من ورائها (بما في ذلك لغتها اللازمة غير المتعدّيّة ووهم الواقعيّة وأثر الواقع كما في النقد الجديد).
تكمن مشكلة صديقي في التقابل الحاد الذي يقيمه بين الأدب والتاريخ دون أن يرقى إليه ولو بصيص (لا أدري كيف خرجت كلمة بصيص) من الريبة والشك. أفليس التاريخ نفسه أدبا؟ فما يروى على انّه وقائع تاريخيّة إنّما هو كتابة وسرد ورواية فالثقة في المرويّات التاريخيّة على انّها تقدّم الواقع المنقضي على نحو مطابقيّ، ولو على سبيل التقريب، مجرّد سذاجة واوهام لم يعد أيّ مؤرّخ محترف يصدّقهما لأنّه يعلم علم اليقين أنّه يصنع خطابا ننعته بأنّه تاريخيّ ويسر مرويّات وحكايات وروايات. وتقوم صناعة الخطاب المتماسك المقنع وسرده بالضرورة على البحث عن حبكة (بالمعنى الأصيل للكلمة عند ارسطو) ويستخدمان الطرائق نفسها في التخييل والبناء.
لا أتذكر من اعتبر أنّ التاريخ رواية قد تحقّقت وأنّ الرواية تاريخ كان من الممكن أن يتحقّق. وبقطع النظر عن الوقوع من عدمه فإنّه يكفي اشتراك الرواية والتاريخ في الحبكة وفي التعامل مع الزمن (كما حلّله ببراعة بول ريكور) حتى ندرك أنّ التخييل بمعنى (Fiction) أمر أبعد شأوا من الفهم الذي يسند إليه دلالة الزيف والوهم والكذب وتحريف الواقع.
***
* الحلقة العاشرة
القارئ حين يجنقل في ملعب المطالعة...
استوقفني أمس إعلان لعصابة عشّاق الكتب بسوسة بقيادة القارئ المحترف حلمي الشيخاوي عن تنظيم الموعد الشهري (اليوم الفاتح من افريل) للحديث في الكتب التي قرأتها المجموعة في شهر فيفري المنقضي. ليس في الأمر ما يدعو إلى التوقّف فهذه العصابة المميّزة ناشطة جدّا وجدّيّة في تعاملها مع الكتّاب ومناقشة اعمالهم (حتّى أنّ بعض الكتّاب ومجموعات القاءة الأخرى صارا يطلبان عقد لقاءات مع هذه المجموعة).
ما استوقفني حقّا هو عنوان هذه اللقاءات "القارئ هو النصّ" وفقرة مهمّة تربط هذا العنوان بأطروحة موريس بلانشو في كتابه "الفضاء الأدبيّ" بالخصوص. وعموم ما يستنتج من الكلام بعد عزله عن استدلال بلانشو هو جمل صادمة م قبيل "ليس القارئ متلقّيا ولا الكاتب مرسلا بالضرورة" و"للقراءة دور تأسيسيّ في خلق الأثر" و"الكتاب غير المقروء شيء لم يكتب بعد" و"القراءة كتابة للكتاب دون وساطة الكاتب" و"تحرير الكتاب من الكاتب" و"الكتاب يكون كتابا عندما لا يحيل على شخص كتبه" و"القارئ ينخرط في تجربة محو الكاتب"... إلخ.
طبعا لا تنفصل مثل هذه التقريرات الجازمة عن فكرة موت المؤلّف ولا عن التصوّر الرومنسي للمطلق الأدبيّ والردّ على التصوّرات الوضعيّة والتاريخانيّة في فهم الأدب والأثر والروائع والتاريخ الأدبيّ. وهي تقريرات كما هو بيّن مغرية للقرّاء إذ تمنحهم سلطة أساسها التخلّص من القيود والتعامل بحرّيّة مع المكتوب بما يتجاوز على نحو راديكاليّ ملء الفراغ والبياض في التأويل الأدبيّ وجعل القارئ الضمنيّ مكوّنا داخل النصّ على ما نجده في بعض نظريّة التقبّل التي تميّز بين الجانب الفّيّ المضمّن في النّصّ والجانب الجمالي الموكول أمره إلى القارئ وتجربة القراءة.
المشكل أنّ الثلاثي الثابت في التخاطب الأدبيّ هو الكاتب والنّصّ والقارئ ويعسر أن نلغي أيّ مكوّن منها بإعلان موته أو محوه (الكاتب) أو اعتباره ثانويّا بسبب لاحقيّته (القارئ) أو إفراغ النّصّ من دلالته الإيديولوجيّة والنفسيّة ونسبه المعلن بموجب حقوق التاليف على الأقلّ (الكتاب).
ثمّة شيء مشترك بين المكوّنات الثلاثة أراه مناسبا جدّا لتحقيق معادلة غير مختلّة:
يكتب الكاتب نصّه وفق خطاطات مسبقة ينوّع عليها بالضرورة مطابقة لها أو مخالفة (الجنس الأدبيّ والأسلوب والمنطق السرديّ والتراث السابق...إلخ)
وينتج النصّ دلالته ومضمونه ويبى قوامه الفنّي ومقترحاته الجماليّة وفق خطاطات ايضا وسيناريوهات سابقة (لذلك نجد فكرة التاثيرات والسرقات والمحاكاة قديما والتناص والحواريّة حديثا)
يعسر أن يعيش القارئ تجربته الجماليّة خارج هذه الخطاطات ايضا بما أنّه مشدود إلى تكوينه الأدبيّ المؤسّسي (المدرسة والجامعة والمكتبة والنقد والإعلام... إلخ ) وغير المؤسّسي (الخبرة القرائيّة والنصوص التي اطلع عليها والذوق نفسه).
وتفسير ذلك أنّه لا يمكنا أن نلعب شطرنج القراءة كما نشاء. فالقراءة المتحرّرة مطلقا عسيرة المنال لأنّها ذاتيّة جدّا لا تلقى بالا إلى اّنا حين نقرأ نكون كمن يرقص على حبل رهيف وإن كان بوسعنا أن "نجنقل" في ملعب المطالعة كلاعب ماهر في ملعب كرة قدم لكنّا لا نستطيع فعلا ذلك خارج المستطيل الأخضر فلا احد في المدارج أو وراء خط التماس سيأخذ مراوغاتنا ولمساتنا السحريّة ماخذ الجد والجدّ هنا لعبة القراءة نفسها.
@ (هذه التدوينة تحيّة إلى عصابة عشاق الكتب وزعيمها حلمي الشيخاوي)
***
الحلقة الحادية عشرة
أحكام النقد المتعالم
تصلني في "تنبيهات غوغل" أخبار وتعاليق ومقالات كلّما ذكر اسمي فيها. واليوم فتحت الرسائل التي وصلتني فوجدت فيها مقالا بجريدة عُمانيّة شهيرة يحمل عنوانا مريبا "خبز على طاولة ميلاد أم جائزة على طاولة النعّاس؟". فمن الواضح أنّ المقال يريد أن يبيّن أنّ هذه الرواية لا تستحقّ جائزة البوكر في الدورة التي أشرفت فيها على لجنة تحكيمها لذلك ذكر اسمي ونبّهني الشيخ غوغل مشكورا. طبعا ليس هذا المقال الأوّل في الموضوع ولن يكون الأخير علاوة على القيل والقال والنميمة التي تشكّك في كلّ جائزة.
وفي المقال المذكور اعتراضات باللفظ أو بالإشارة على جدارة رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" للروائي الليبي محمّد النعّاس. ولست في مقام الردّ أو الحجج أو حتّى مناقشة صاحب المقال في رأيها. فهو حرّ في ما يقول وفي ما يقيّم ولا أملك لا بحكم موقعي الجامعي ولا موقعي في لجنة التحكيم حقّ الردّ عليه.
لكن لفتت انتباهي حجّة واحدة أوردها هنا بنصّها. يقول صاحب المقال: "على الرغم من أن الرواية منولوجية (أحادية الصوت) من ناحية السرد، إلا أنها خرجت عن النوع، في كونها ليست منولوجية الأيديولوجية (...) إنّ الأحادية السردية أفقدتها إمكانية تحولها لعمل كوني عميق كحال الرواية البوليفونية (المتعددة الأصوات)".
أمّا الفكرة فبيّنة: رواية النعّاس تقوم على اعترافات الراوي وتداعي ذكرياته بعد قتل زوجته برقة فظيعة وأناقة مريعة تكشف عنها الصفحات الأخيرة في الرواية. ومادام الشكل الذي صيغت فيه الرواية هو الاعترافات أو ما شابهها فإنّ السارد هو المعترِف نفسه أي شخصيّة الخال ميلاد فيكون بذلك الصوت الوحيد المهيمن في الرواية هو صوت الراوي - الشخصيّة.
أما الحكم فواضح: لا يمكن أن تكون رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" رواية "كونيّة" (كذا!) لأنّها ليست بوليفونيّة متعدّدة الأصوات.
لنترك جانبا المقصود بـ"الرواية الكونيّة" ولننتبه إلى كيفيّة استعمال مفهوم البوليفويّة. فما إن تلقّف النقد العربيّ هذا المفهوم عن طريق الترجمات الفرنسيّة والأنكليزيّة (ومنهما إلى العربيّة) لعمل باختين عن أدب دوستويفسكي وبدأ ينتشر في بعض الدراسات حتّى أصبح هذا المفهوم الوصفيّ حكم قيمة في الكثير ممّا يحبّر عن الرواية. وهو مفهوم في مظانّه يشير إلى خصائص التعدّد والاختلافات المتفاعلة في الاستعمالات اللغويّة ومستويات اللغة والآراء والمواقف التي تسند إلى الآخرين والإيديولوجيّات المصطخبة في النصّ الواحد وعلاقة الخطاب الذاتيّ بالخطابات الاجتماعيّة الأخرى والخطاب المنقول وغير هذا من الظواهر التي تدكّ مفهوم المنشئ الواحد للخطاب الروائيّ وإطلاقيّة اللغة الموحّدة الصافية.
ولكن كلّ هذه الطاقة الوصفيّة التي يتضمّنها مفهوم تعدّد الأصوات (ورديفه الحواريّة) بمعناه الباختينيّ الأصيل صار في بعض النقد عندنا حكما بجودة الرواية إذا توفّر (أو بالأحرى إذا ذهب في وهم القارئ - الناقد أنّه قائم في النصّ) وإذا لم يكن له الوضوح النظري والمعرفة المناسبة كي يراه يصبح النصّ أحاديّ الصوت ومن ثمّة يحكم عليه سلبا.
ليست هذه أوّل مرّة ألاحظ فيها هذا الوهم لدى النقّاد وأشباه النقّاد فقد عانت منه رواية "الطلياني" أيضا وغير الطلياني.
المشكلة الوحيدة التي ينبغي على أمثال صاحب المقال أن يبيّنها لنا حتّى نصدّقه في حكمه النقديّ هي: "هل توجد رواية واحدة ينطبق عليها مفهوم الرواية في أدنى تعريفاته غير حواريّة (غير متعدّدة الأصوات)؟"
فمثلما يحقّ للقارئ أن يعبّر عن رأيه في الرواية بنِعْمَ مادحا وبِئْسَ ذامّا فعليه، إذا عنّ له أن يتعالم، أن يكون دقيقا في استعمال المفاهيم والمصطلحات متمتّعا بالحدّ الأدنى من الوضوح النظريّ. عدا هذا يصبح النقد تحكّما مضحكا ولغوا لا طائل من ورائه.
***
الحلقة الثانية عشرة
إن هو إلاّ خيال...
بعض الكلمات حق يراد به باطل. وهذا التعبير القديم صالح في عبارات كثيرة نذكر مها اليوم عبارة تسمع دوما كلّما تعلّق الأمر بنقد واقعيّة بعض الأعمال الأدبيّة أو الفنيّة مهما كانت قيمتها. وليس هذا هو المهمّ بل المهمّ استعمالها لتأكيد فصل الأدب والفنّ عن مرجعه الواقعي وتبرير حقّ الفّنان في أن يقول كلّ ما يريد قوله دون محاسبة ولا حتّى نقد إذا حمله فنّه إلى ما في التخييل من مبالغة وتضخيم وإسراف أو من تجاوز للحدود التي يرسمها الحسّ الاجتماعي المشترك. فالحجّة قائمة دوما لإنقاذ المبدع من ورطته مع الرأي العام أو المتديّنين أو السياسيّين أو غيرهم: "إن هو إلاّ محض خيال وأدب...".
وهي حجة نقرأها اليوم في الفيسبوك عن عمل دراميّ يتناول المدرسة التونسيّة وما يدور فيها باعتبارها مجتمعا مصغرا لا يمكنه إلا أن يتأثّر بما في المجتمع الكبير من مخازي ومفاسد (لا تسألوني عن موقفي منه لأنّي لم أشاهد العمل). ولما وصل أمر التشكّيات من العمل إلى الوزارة والنقابات وأبناء القطاع وحتى إلى الحكومة والرئاسة في ما يبدو علاوة على الأولياء والعائلات حتّى أخرج البعض من علبة أدوات التبرير والدفاع القديمة عبارة: "ما هو إلا خيال...".
حقّا هو خيال لأنّ العمل الفّينّيّ لا يمكنه إلاّ أن يكون خيالا ولا يعكس الواقع على نحو ما تعكسه المرآة أو الكاميرا (وهي نفسها لا تعكس كل شيء فعين المصوّر وذهنه هو الذي يوجّه الصورة ويبنيها وليس الآلة المحايدة - الكاميرا بحدودها التقنيّة). فإذا كان مجرّد خيال فلماذا استطاع هذا العمل أن يثير في الناس النقاش والسؤال سواء بالإدانة بعد الشعور بالإهانة أو الدفاع عن المدرسة التونسيّة بما أنّه لا يصوّر الواقع القائم بل يبالغ فيه؟
وهذه الحجّة استعملت حين هاجم الأزهر رواية "اولاد حارتنا" لجيب محفوظ: "إن هي إلا عمل فنّيّ..." لا يمسّ الرواية الدينيّة في شيء رغم كلّ القرائن التي تفيد من داخل النصّ نفسه أن محفوظ لم يكن ساذجا بل كان يحاور، وإن أنكر هو نفسه في لحظة خوف من تبعات تكفيره ولا شكّ، الرواية الدينيّة لتاريخ البشريّة.
وأخرجت هذه الحجّة كذلك للدفاع عن سلمان رشدي بعد تكفير الخميني له وهدر دمه بسبب روايته "الآيات الشيطانيّة".
وفي الحالتي الأخيرتين أرى استعمال هذه الحجة: "إن هو إلا خيال..."، رغم النوايا الطيّبة في مواجهة دكتاتوريّة التكفير الديني، من باب تحقير الأعمال التي اختار أصحابها أن يحاوروا أعظم النصوص التي تؤثّر في عقليّات البشر ويناقشوا الروايات الكبرى التي يعتقد فيها الناس ويقدّسونها. ففي الكتب السماويّة باعتبارها سرديّات عن الإنسان، منشأ وصيرورة ومنتهى، قصص وحكايات مثرية للخيال ومؤثّرة في النفوس جديرة حقّا بأن تحاور. وما الكتب التي دوّنت تفاعلات القصّاص الدينيّين إلاّ شاهد على هذا الخيال الخصيب.
من حقّ الرواية باعتبارها فنّا علمانيّا أن تجلب إلى مجالها الرواية المقدّسة بتأويلاتها البشريّة لتتفاعل معها ضروبا من التفاعل بحسب العصور والإيديولوجيّات ولكن وفق مقتضيات الفنّ.
فبعيدا عن بعض النقد الحديث الذي أراد فصل الأدب عن الواقع بمفاهيم من قبيل "الوهم المرجعيّ" و"أثر الواقع" و"الإيهام بالواقع" و"مشاكلة الواقع" فإنّ الكتابة على اعتبار مفهوم المحاكاة الأرسطيّة تظلّ فعل تحويل يعمل على تمثيل الواقع من خلال تمثيل الفعل الإنساني وترتيب ما يتولّد عنه من أحداث يلحق بعضها السابق فيكون التعرّف والتطهير.
نعم إن هو إلاّ تخييل وخيال ولكنّه بسبب ذلك تحديدا هو تمثيل للواقع وتأويل للروايات السابقة الدينيّ منها والدنيويّ. ومن حقّ المبدع على ذلك أن يستفزّ بفنّه النفوس المطمئنّة ويحاور المعاني الكبرى مهما كانت.
أليست الحرّيّة مبتدأ الإبداع وخيره؟
****
الحقة الثالثة عشرة
الشعر والخبر
تبدو المقابلة الشائعة بين النثر والشعر في العربيّة وغيرها كما لو أنّها وجدت لتمييز الشعر دون غيره من اجناس الكلام.
فالنَّثْرُ في دلالته المعجميّة، في لساننا العربي كما في غيره من الأسنة التي نعرفها، هو "الكلامُ الذي يرْسَل بلا وزنٍ ولا قافية". لذلك نجد تحت النثر أجناسا واصنافا من الأقاويل مختلفة.
ليس غرضنا مناقشة هذه المسألة بل التنبيه إلى وهم كبير في الثقافة العربيّة جعل الشعر ديوانا للعرب وعنوانَ تفوّقهم الأدبيّ. ولئن كنّا لا نناقش هذه الفكرة بتوسّع فإنّنا نحتاج إلى تنسيبها من جهة الأشكال الأدبيّة الكبرى. فاختباريّا يبدو جنس الخبر، بنيةً ووظائف، أقوى تعبيرا عن نسق الثقافة العربيّة ونسقها الفرعيّ الفّنيّ الأدبيّ حتّى أنّنا نجده في كل متون هذه الثقافة من الأمثال وايام العرب والتاريخ والحديث النبويّ والسيرة النبويّة والتراجم وكذلك الأدب بالمعنى الجماليّ الحصري من بخلاء الجاحظ إلى المقامات واخبار العشّاق مع فروق مهمّة وتلوينات تبرز مرونة هذا الجنس الأدبيّ والشكل الخطابيّ.
إنّ هذه المنزلة التي يحتلّها الخبر (وهو يكون "نثرا" ولكنّه يستوعب الشعر كذلك) في الثقافة العربيّة القديمة وفي علوم مختلفة فيها واجناس خطابيّة متوّعة منها لتجعله في الحقيقة الديوان الوافي للعرب يجمع ذاكرتهم الثقافيّة (الأمثال وأيام العرب مثلا) بقدر ما يدوّن احوالهم في أيامهم المختلفة (البخلاء والمغنّين والعشّاق مثلا) ويبرز خصائص ثقافتهم ومميّزاتها ويتضمّن ممكننات سرديّة لا متناهية للإبداع الأدبي وتوليد أشكال جديدة (المقامة مثلا).
لعلّنا حتاج إلى بعض الجرأة لنقول إنّ الشعر عند العرب على أهمّيّته في الفنّ القوليّ ومكانته في النفوس لا يمكن له، بحكم لغته المصنوعة على مقتضى تقاليد عريقة وأسلوبه في التفاعل مع أنماط التصورات الذهنيّة والمعطيات التاريخيّة والتحوّلات الاجتماعيّة والإيديولوجيّة، أن يكون ديوانا للعرب.
والأرجح أنّه علينا أن نولي الخبر، ببنيته السرديّة المرنة وتحوّلاته من التوثيقيّ إلى الجمالي الفّنّيّ وباتساع الحقول التي اندرج فيها، مكانته التي هو جدير بها لا في المضمامين التي يعبّر عنها فحسب بل في ابتداع أشكال من السرد مهمّة لا تخلو من جماليّات خاصّة معبّرة عن صميم الثقافة العربيّة.
***
الحلقة الرابعة عشرة
عن تونسيّة الرواية التونسيّة...
اضطلعت الرواية في بلدان العالم العربي بدور إيديولوجي خطير تجتمع فيه رواية القصص الوطنيّة وكتابة الذاكرات المحليّة ودراسة المجتمعات في خصائصها ومميّزاتها وكشف واقعها المخفيّ واختلاف شواغل البشر الذين يعيشون في رقع جغرافيّة متقاربة لكنّها مختلفة.
ولكن في رصيدنا الروائيّ المتراكم ما هي الرواية التي تعبّر عن الخصوصيّة التونسيّة ولنقل الروح التونسيّة؟ (أقصد لا يخطئ من يقرأها في وصفها بالتوkسيّة على الأقلّ)
كانت الإجابة في الوسط الأدبيّ بتونس واضحة: إنّها "الدقلة في عراجينها" للبشير خريّف وبعض أعماله الأخرى. وهي إجابة تبدو لأوّل وهلة مقنعة إلى حدّ ما. لكنّ المشكلة أنّ الزمان الذي اكتنف أحداث هذه الرواية هو ثلاثينات القرن الماضي والحال أنّ تونس تغيّرت كثيرا. وعلاوة على ذلك لم تخلق هذه الرواية شخصيّة تبقى في الذاكرة مثل شخصيّة زكريا المرسنلي في "الياطر" او مصطفى سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال" أو عمر الحمزاوي في "الشحّاذ". فالرواية أيضا، ولنقل الروايات "الناجحة" منها، تنحت شخصيّات نموذجيّة فاتنة تعبّر عن أبعاد إنسانيّة حتى إن كانت محلّيّة وربّما بسبب محلّيتها.
كنت أجد في كتابات عليّ الدوعاجي القصصيّة، روحا تعبّر عن مدينة تونس أكثر ممّا وجدته في كتابات خريّف ربّما بحكم انتمائي اجتماعيّا إلى حيّ من مدينة تونس القديمة عاش فيه الدوعاجي نفسه. بيد أنّ الدوعاجي، شأنه شأن خريّف، لم يصنع شخصيّات قويّة تتجاوز محليّتها وتفتن القارئ.
وقد جعلتني هذه المقارنة بين رائدين كبيرين من روّاد السرد في تونس، الدوعاجي وخريّف، أتبيّن، روائيّا وفنّيّا، أنّ تونس نفسها اسم يخفي تنوّع التصوّرات الاجتماعيّة وتعدّد الأعراق التي سكنتها والطبقات التاريخيّة والثقافيّة التي تعتمل في عمقها مع اختلافات أنتروبولوجيّة بين جنوبها وشمالها ومدنها وأريافها .
وبناء على هذا الموقف الواعي، بقطع النظر عن حظه من الصواب والخطأ، أرى أنّ على كلّ روائيّ تونسيّ أن يتساءل عن موقعه من المشهد الروائي التونسيّ والعربيّ. وهو تساؤل قد لا يكون مهمّا من الناحية الفنّيّة ولكنّه مهمّ جدّا من الناحية الإيديولوجيّة.
***
الحلقة الخامسة عشرة
شيء عن الرواية والسيرة الذاتية
تبدو العلاقة بين الرواية والسيرة الذاتيّة قائمة على ما نسمّيه مفارقة القارئ. فهو يبحث عن التاريخي الواقعيّ في الرواية وينشدّ إلى التخييليّ الفنّي في السيرة الذاتيّة.
وتجد هذه المفارقة حلّها في شيء ممّا قاله طه حسين نفسه عن "الأيّام": "الأدب كلّه سيرة ذاتيّة حتّى حين يؤرّخ الأدب لأحداث مضت" وأضاف: "من ذا الذي قال إنّ الرواية أعلى مرتبة من السيرة الشخصيّة في موازين الأدب؟".
لسنا نريد العودة إلى مسألة مدروسة معروفة كان قد ذكرها الدارسون بل أحببنا أن نذكّر بانشداد السيرة الذاتيّة، رغم كلّ المميّزات التي أجهد النقاد أنفسهم في تبيانها، إلى الرواية. ولكن يبدو لنا الفرق متّصلا بما ذكره مبدع كبير هو فرغاس يوسا في رسائله إلى كاتب شاب. فقد استخدم تمثيلا وهو يتحدّث عن الرواية رشحناه نحن بما نراه في السيرة الذاتيّة. فالرواية، وهنا موطن استعارته، هي عمليّة معاكسة للتعرّي (ستريب تيز) تقتضي من صاحبها أن يجهد نفسه لإخفاء الجانب الشخصيّ. وإذا سلمنا بهذا التمثيل تكون السيرة الذاتيّة نوعا من التعرّي يعرضه المؤلّف على قارئه لأمر ما.
غير أنّنا حين نظر في ما كتب من سير ذاتيّة في العربيّة (وإذا استثنينا إلى حدّ ما "الخبز الحافي" لمحمّد شكري وإلى حدّ أبعد سيرة عبد القادر الجنابي "تربية عبد القادر الجنابي") فإنّ جانب البوح والتعرّي في هذه السير محدود جدّا حتى لا نتحدّث عن غيابه.
ورغم مشكلة التجنيس في سيرة محمّد شكري التي وصفها بـ"سيرة ذاتيّة روائيّة"، وهي غير السيرة الذاتيّة بحصر المعنى ، فإنّ ردّ فعل الرقابة العربيّة على هذا النصّ ونشره في البداية بغير العربيّة مترجما ينمّ عن جزء أصليّ من المشكلة. فليست مؤسّسة الرقابة باعتبارها جزءا من الجهاز الأدبيّ في معناه الاجتماعيّ الذي حدّدته النظريّة الاجتماعيّة للأدب إلاّ تعبيرا مكثّفا عن منظومة القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة السائدة وسياسة الجسد وتمثّلاتها لاستخدامه وحدوده وضوابطه.
من هنا كانت الرواية التي يفترض أنّها تغطّي ولا تعرّي بحسب استعارة يوسا أكثر جرأة في التعامل مع الجسد والمخازي والعيوب وأقوى في مواجهة منظومة التصوّرات المحافظة. بيد أّنّ الجرأة والمواجهة هنا محدودتان لأسباب كثيرة تحتاج إلى نظر لا تعود بالضرورة إلى الرقابة.
***
الكاتب منكود الحظّ
في عالم الأدب والأدباء مفارقات ومغالطات وأفكار مسبقة كثيرة وأوهام تحتاج إلى بعض المراجعة والنظر النقديّ فيها.
من بين هذه الأوهام ما نسمعه من شكوى هذا المشتغل بالأدب أو ذاك من أنّ القرّاء لا يقبلون على قراءته فيبدو غريبا في عالم الأدب رغم اعتقاده بأنّه مبدع جدير بالمتابعة.
وبقطع النظر عن فكرة نرجسيّة الكاتب فإنّ اللوم يقع عادة على الناشرين الذين لا يقدّرون العباقرة والمتميّزين (ما مصلحتهم في ذلك؟) وحين ينشرون لا يوزّعون الكتاب التوزيع المناسب (النشر هو استثمار فلماذا لا يحرص الناشر على استثماراته؟). وإذا توفّر الكتاب في المكتبات والمعارض وتواصلت الرغبة عن اقتنائه يميل اديبنا إلى اتهام النقّاد ورجال الإعلام بالتقصير في تعريف القرّاء بكتابه الفريد فهم يجاملون وفق منطق الشلليّة ولا يجتهدون في البحث عن الأصوات الجديدة. وإذا تواصل التجاهل ينبرون ينتقدون القرّاء أنفسهم متّهمين إيّاهم بالجهل بحقيقة الأدب أو عدم القراءة أصلا في مجتمع جاهل.
لهذه المظلوميّة وجوه اخرى وصور سنعود إليها لكنّ بعض هؤلاء الأدباء يصلون إلى الإعلاء من شأن أنفسهم وأعمالهم منكودة الحظّ بطرق أخرى نذكر منها طريقتين. الأولى مهاجمة الأعمال التي حقّقت بعض النجاح بإقبال القرّاء عليها والتنكيل بها وبأصحابها بقطع النظر عن قيمتها ووسائل تسويقها (مثال الهجوم على كتابات فاتن الفازع) أو حصولها على جائزة محلّيّة أو عربيّة بالادّعاء بأنّ العمل لا يستحق لأّنّه تقليدي وخال من بيفيدوس الإبداع (هذا بزعم التقييم النقدي الموضوعي) أو أنّه كان من باب العلاقات الشخصيّة والمجاملات. والطريقة الثانية تبدو مغرية أكثر لأنّها تتلحّف برداء راديكاليّة نقديّة لللمجتمع المشهديّ ومنزلة الفنّ فيه (شيء من سوسيولجيّة الأدب ممزوج بنقود مدرسة فرنكفورت للفنّ المغترب مخلوط بإحساس فظيع بالضيم) . فتصبح الكتابات الناجحة وإن جزئيّا مجرّد نفايات في سوق الاستهلاك الأدبي فقدت وظيفتها النقديّة ورضي عنها الإله الخفيّ الذي يحدّد ما ينبغي استهلاكه في الأدب وغير الأدب. لذلك يصبح الكاتب الحقّ هو الذي يأنى بنفسه عن قدر شيئيّة الكتابات في عالم مشيّء مغترب.
وللحديث بقايا
***
* الحلقة الثانية
في الأدب الرفيع وغيره
لا أحد يعرف من الكتّاب والنقّاد والمحرّرين الأدبيّين العوامل التي تجعل كتابا أدبيّا يلقى رواجا كبيرا لدى القرّاء وانتشارا في سوق الكتاب. لو أمكن لهم، خصوصا المحرّرين الأدبيّين، أن يحدّدوا الشروط والثوابت لأنتجوا لنا يوميّا كتبا تصبح "باست سيلر". فالواقع أننّا لا نجد شيئا جامعا بين الأعمال التي تدرج في هذا الباب. وكثير من الكتاب المتجهّمين عادة يعتبرونها أقرب إلى أدب "الجمهور عاوز كدة" على طريقة السينما المصريّة.
ولكن منْ من الكتّاب لا يريد أن يكون كتابه حدثا أدبيّا يروج بين الناس وينتشر؟
والحقّ أنّني لا أفهم لماذا يربط بعض الكتاب والنقّاد "الباست سيلر" بالشعبويّة بالضرورة والحال أنّ اعمالا كثيرة جيّدة أو نعتبرها كذلك تجد لدى القرّاء اهتماما ومتابعة وفي عالم النشر مكانة فتباع بأرقام خياليّة احيانا.
وأكبر ظنّي أنّ وراء ذلك فكرة التعلّق بالروائع والأعمال الخالدة والجودة. فثمّة اساطير عن الأدب وغير الأدب تبنى شيئا فشيئا وتصبح مرجعيّات بها تقاس الأعمال الأخرى. وهذا مقبول لولا الفهم القاصر الذي يجعل الكاتب يبحث عن شيء لم تأت به الأوائل أو يتوهّم أنّه يعيد فتح إفريقيّة الأدب السامي الرفيع أو يحدث في دنيا الكتابة إحداثا.
وتشهد ملايين الكتب المنشورة منذ ظهور جنس الرواية على الأقلّ أنّ الأعمال التي اصبحت مرجعيّة قليلة حدّ الندرة وأنّ أغلب ما ينشر لا ينشد الخلود بقدر ما يؤدّي وظيفة ما في عالم النشر والقراءة. فمن وظائف الأدب أيضا التسلية في اوقات الفراغ وتنويع ما يمكن إتاحته م عروض الكتب الأدبيّة للناس بحسب اهتماماتهم وميولهم في القراءة ومستوياتهم. لذلك يبدو أنّ النظرة التي تحتقر روايات عبير أو الألغاز أو القصص البوليسيّة مثلا قصيرة . فلهذه الكتابات وظائف تختلف عن وظيفة ما نعتقد أنه الأدب الرفيع أو الأدب الذي أوهمتنا المؤسّسة المدرسيّة والجامعيّة ورسّخ فينا النقّاد الأكاديميّون وغير الأكاديميّين والإعلام الثقافيّ والجوائز الأدبيّة أنّه أدب عالى المستوى.
ليس المطلوب وراء هذه الملاحظة أن نتخلّى عن معاييرنا واذواقنا ولكن علينا أن ندرك أنّ ما يتوّج ادبا رفيعا لا يلغي أصناف الأدب الأخرى التي لا تروق لنا فببساطة يمكن ألا تعجبنا روايات تعدّ راقية مثلما لا تعجبنا أعمال نعدّها قليلة الأدب (أقصد قليلة الحظ من الأدبيّة).
بطبيعة الحال أنا اتحدّث عن الروايات التي تتوفّر فيها شروط الجنس الأدبي للرواية وليس عن الخربشات التي يوضع على غلافها عبارة "رواية". فهذه تندرج ضمن حريّة النشر بخيرها وشرّها. ومن شرورها أنها تقبل كلّ من هبّ ودب.
***
* الحلقة الثالثة
التفاصيل في الرواية
انتشرت نزعة لدى المحرّرين الأدبيّين مناهضة لكثرة التفاصيل في الرواية بحجّة تخليصها من الزوائد. وهذه الزوائد يمكن أن تكون جملا لا تضيف شيئا لأنها تعيد معلومات سبق ذكرها (يقابلها مبدأ في الإعادة إفادة وفي التكرار تاكيد) ويمكن أن تكون مشهدا برمّته أو خطّا سرديّا يتشابك مع خطّ آخر أو اكثر ويمكن أن يكون أحيانا شخصيّة كاملة أو فصلا برمّته.
لم امارس التحرير الأدبي بمعناه المحترف لكنّ فكرة الحذف والبتر تخيف الروائيّين عادة وإن لم تكن فكرة التشذيب في حدّ ذاتها سيئة إذا كانت تجوّد العمل وتمنحه مقروئيّة أكبر وتماسكا في العالم التخييليّ أكبر.
لكنّ بالمقابل أعتقد أنّ قوّة السرد الروائيّ تكمن في التفاصيل وكيفيّة إيرادها فكثير من الروايات الكبرى إذا حذفنا منها التفاصيل والتفريعات والتدقيقات نجدها من صنف "حلّ الصرّة تجد خيطا". فما الذي يتبقّى من "الشيخ والبحر" إذا شذّبنا الحكاية على قصرها من تفاصيلها؟
أعرف أنّ لدى القرّاء نزعة إلى تجاوز المقاطع الوصفيّة المطوّلة وغير المطوّلة لكنّ المشهد الافتتاحيّ في "جرمنال" بتفاصيله هو الي يبني بدلالاته المحاكية للواقع والرمزيّة في آن واحد عالم الرواية.
لنتصوّر "موسم الهجرة إلى الشمال" خالية من الحكايات الصغيرة التي اوردها الطيّب صالح وركّز فقط على الشخصيّة الرئيسيّة فأيّ ديناميّة يمكنها ان تكشف الصراع التراجيديّ الذي عاشه البطل؟
من الثابت أنّ كتابات كثيرة لم توظّف فيها التفاصيل التوظيف المناسب ومن باب أولى وأحرى أن نجد مشاكل في التفصيل والتفريع لدى من لا يمتلكون ناصية السرد لكنّ وراء كثير من المواقف المناهضة للتفاصيل أسبابا أخرى نذكر منها بعجالة سببين. احدهما تجاريّ يرتبط بالناشرين. فتضخّم العمل يطرح مشاكل في النشر ومدى إقبال القرّاء على الروايات الطويلة. ومثال ثلاثيّة نجيب محفوظ التي كانت عملا واحدا معروف ونحمد الله أّن الناشر لم يطلب الحذف والتشذيب بل قسم الرواية إلى اجزاء فقط. والسبب الآخر موقف من الواقعيّة التي تميل إلى إعادة بناء العالم بالتفاصيل الكثيرة ولنا في المشاهد المطوّلة المدقّقة لدى بلزاك مثال حسن.
المشكلة أنّ هذه التفاصيل التي تزعج بعض الناشرين والقرّاء والمحرّرين الأدبيّين والنقدة المتعالمين هي التي تبين عن قدرات الروائيّين في الكتابات الواقعيّة وغير الواقعيّة. فالمسألة لا تقاس بالذراع وإنّما بجودة التوظيف ولا ينفع معها الحديث عن روايات طويلة (كالحرب والسلام او مدن الملح) وما يسمّى نوفيلا (وهي في حقيقة امرها روايات مكتملة).
نرجو ألا نجد قرّاء يسيطر عليهم التمرين المدرسيّ المسمّى تلخيصا والكتب التي تلخّص الروايات للتلاميذ فيبحثون عن متعة الحكاية لا عن متعة أسلوبها وطريقة قولها.
***
* الحلقة الرابعة
روايات لا تعجبنا...
كنت أتحدّث قبل يوم من شهر الصيام مع صديق عراقيّ يعيش في بريطانيا وهو باحث وروائيّ شغل مناصب إعلاميّة عديدة عن الثقافة العربيّة والأدب والرواية ففاجأني بموقف سلبي جدّا من رواية الطيّب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" ومن كتابات الطيّب صالح كلّها.
والصدفة وحدها شاءت أن يعلّق أحد الأصدقاء الذي تفاعلوا مع الحلقة الأولى من هذه الرمضانيّات فقرأت في تعليقه ما يلي: "شخصيا قرأت "موسم الهجرة إلى الشمال" صغيرا وأعدت قراءتها كبيرا أكثر من مرة. فأصبح يداخلني شعور بأن لتقديم توفيق بكار الخرافي دورا كبيرا في الإعلاء من شأن الرواية".
لا اريد أن أدافع عن المبدع الطيّب صالح وكتاباته فهو لا يحتاج إليّ ونصّه البديع سيبقى من روائع الرواية العربيّة مهما قيل عنه مدحا أو قدحا. وليس لي اعتراض على حرّيّة الصديقين الواقعيّ والافتراضي في تقييم بعض الروايات. فمثلما أؤمن بحريّة الروائي والكاتب عموما أؤمن بالقدر نفسه بحريّة القارئ. فأنا أيضا لا تعجبني روايات كثيرة لكتّاب كبار عالميّين يحتفل بهم النقّاد الأكاديميّون والقرّاء العاديّون إلى حدّ جعلوا منهم أساطير غير قابلة للمسّ من قداستها.
ما أريد التنبيه إليه أّن للقراءة الانطباعيّة، بحسب ثقافة القارئ وخبرته الأدبيّة وميوله وأسلوب تعامله مع النصوص الإبداعيّة، وجاهةً مّا. فمهما حاول النقد أن يبني معايير موضوعيّة للجودة الفنّيّة وتنزيل الأعمال الأدبيّة في جنسها الأدبيّ مطابقة أو مخالفة وقواعد الأسلوب الرفيع أو الوضيع وسياقها المعرفيّ والتاريخيّ للحكم عليها فإنّ الأساسيّ في القراءة هو التفاعل الذي ينشئه النصّ الأدبيّ بين ذات القارئ (وهو متعدّد ثقافة وخبرة) وذات المؤلّف (الضمنيّ على الأقلّ بعد أن أعلن النقّاد والفلاسفة عن "موت المؤلّف" وهو موت معلن ولكنّه يحتاج إلى تثبّت).
وهذا التفاعل الذوقي العفويّ مهما حاولنا فهمه اجتماعيّا وعرفانيّا يرتبط جماليّا وتجريبيّا بشيء بسيط جدّا يمثّله فعلان في العربيّة هما: نعم للمدح وبئس للذمّ. بعد ذلك تأتي التبريرات العقليّة والإيديولوجيّة والنقديّة المختلفة.
أذكر أنّ كاتبا اسطورة هو مارسيل بروست حين قدّم الجزء الأوّل من روايته المعلم "في البحث عن الزمن المفقود" إلى الناشرين رفضته دور النشر ومن بيها دار غاليمار الشهيرة. طبعا كان الرفض من قرّاء محترفين ومحرّرين أدبيّين يشتغلون مع هذه الدور. ولولا أندري جيد الذي اعجب بالرواية لما نشرت في ما بعد. ومحلّ الشاهد أنّ قلّة تذوّق نصّ مّا قد يكون من قارئ محترف أو من محرّر ادبيّ أو من كاتب من الكتّاب لأسباب ذوقيّة فلم نرفضه من قارئ لا يدّعي في علم الأدب فلسفة؟
***
* الحلقة الخامسة
من تمارين النقد الأكاديميّ
منذ أيّام كتب الصديق الناقد العراقي عبد الله إبراهيم تدوينة بعد أن قرأ بحثا جامعيّا تناول سيرته الذاتيّة "أمواج" معلّقا: "إنها أغرب أطروحة كُتبتْ على الإطلاق؛ كونها الأسوأ في ضعفها، وهزالها، وعدم أخذها بأيّ من أعراف البحث، لما كان صاحب القول مخطئا، وإلى ذلك، فالباحثة، والمشرف، ولجنة المناقشة جعلوا من السيرة الذاتية (أمواج) رواية، بل (رواية تاريخية)، وعلى ذلك مضوا في البحث والمناقشة، شيء عجيب بحقّ وحقيق!!!".
ولاحظت بالمقابل أنّ كثيرا من الكتّاب الأصدقاء في الواقع والفضاء الأزرق وغير الأصدقاء يضعون في تدوينات على صفحاتهم بالفيسبوك أغلفة أعمال جامعيّة خصوصا من مذكّرات الماجستير تناولت أعمالهم.
ومن البيّن أنّهم يعتبرون ذلك ضربا من الاعتراف بأدبهم يجدر التنويه به فيشكرون المشرف على البحث والطالب. فللمؤسّسة الجامعيّة هيبة ترتبط بالرصانة العلميّة والجدّيّة والموضوعيّة وما إلى هذا من صفات ممدوحة. وهي إلى ذلك من المؤسّسات التي تمنح، بصورة من الصور حضورا أو غيابا، بعض الشرعيّة الأدبيّة للأعمال الأدبيّة إذ تعرف الجامعات والمؤسّسات التعليميّة في الأصل بأّنها تصطفي الجيّد وتذيعه بين جمهورها.
وقد مرّ حين من الدهر، والأرجح أنّه حين ممتدّ إلى اليوم، كانت فيه الجامعات تتّهم بالمحافظة والرجعيّة وحتى بلادة الذوق والعجز عن متابعة الجديد والإبداع الحقيقيّ بسبب عنايتها بالأعلام الذين توقّفوا عن الإبداع بسبب الموت. فهي تتعامل مع الموتى لا الأحياء وتعنى بالقديم لا الجديد.
لكن لا احد ممن ينشرون الأغلفة حدّثنا عن نوعيّة هذه المقاربات النقديّة ومناهجها المعتمدة فيها وإشكاليّاتها ونتائجها ومدى كشفها عن فرادة هذا النصّ الإبداعي أو ذاك... إلخ. وها إنّ ما قاله عبد الله إبراهيم يكشف جانبا ربّما ممّا هو مخفيّ.
فما لا يعرفه الكثيرون أنّ مثل هذه الأعمال التي يعلوها الغبار في مخازن الكلّيّات،، وهي بالمئات والآلآف، مجرّد تدريبات جامعيّة يتعلّم من خلالها الطالب في خطواته الأولى في طريق البحث بعض الصرامة المطلوبة في المفاهيم النقديّة والمنهج والتوثيق والتحرير والاستدلال والاستنتاج. إنّها تمارين مدرسيّة لا يطلب منها ما يتوقّعه الأديب الذي يُدرس نصّ من نصوصه فتكون الخيبة على قدر ما في هذه التمارين من حدود توضع لها وعلى قدر مهارات الطالب الباحث ومدى إلمامه بالنظريّات والمناهج وثقافته الأدبيّة بالخصوص. وإذا أضفنا إلى ذلك مشاكل التكوين الجامعي في الآداب ومدى جدّيّة المشرف ومتابعته وحرصه على جودة العمل البحثيّ ثمّ لجنة المناقشة ومدى ابتعادها عن المجاملات والتهوين من قيمة تمرين مذكّرة الماجستير أمكننا أن نتخيّل صدمة الأديب وغير الأديب مثلما وقع لعبد الله إبراهيم.
ولنا عودة إلى النقد الأكاديميّ ومشاكله.
***
* الحلقة السادسة
الأديب والنّقد الأكاديميّ: سوء التفاهم
منذ البدء أقول إجمالا: إنّ بين الأديب الذي يُدرس أدبه في رسالة جامعيّة والباحث المبتدئ أو الراسخة أقدامه في البحث سوء تفاهم جذريّ.
فمن حقّ الأديب أن يبحث عن الاعتراف بمنجزه وهو يعتقد أنّ التمارين الجامعيّة ذات مصداقيّة أكبر من الكتابات الصحفيّة أو الثقافيّة العامّة. لذلك ترى نقاشا متوتّرا احيانا بين المتأدّبين عن حظّ الأدب التونسيّ في المدرسة والجامعة تدريسا وبحثا. فالأدب كما قيل ظاهرة مدرسيّة أساسا (وهذه تحتاج إلى تحاليل تفيض عن هذا المقام).
لكنّ الأديب يرجو من وراء الاعتراف كذلك تقدير عمله حقّ قدره بأدوات يعتقد أنّها علميّة يمتلكها الباحثون فيكشفون عن مواطن الإبداع في نصوصه المدروسة ومميّزاتها وخصوصيّاتها.
لكنّ الوجه الآخر من العملة أنّ البحث الأكاديميّ في الأدب يتّجه بحكم ارتباطه بالنظريّات المختلفة والمناهج المتعدّدة وجهة مغايرة. فرغم كلّ الحديث الشائع عن الأدبيّة والخصائص الفنّيّة والأساليب والشعريّة (الإنشائيّة)... إلخ (وهي مفاهيم في حدّ ذاتها متقلقة لا تصمد كثيرا أمام النقد العلميّ حتى أصبحت عقائد مسلّما بها) يبحث الدارسون في أمور هي من الكلّيّات لا الخصوصيّات وما الأعمال الأدبيّة في نهاية المطاف إلا شواهد ومعطيات اختباريّة يجرّبون فيها وعليها المفاهيم والافتراضات والأفكار المتّصلة بهذا المبحث او ذاك (كالزمان والمكان والشخصيّات والحبكة والراوي والحواريّة... إلخ) أو مسائل من قبيل حضور التاريخ في الرواية أو صورة المرأة أو الشرق والغرب وما إلى هذا حتّى نذكر مواضيع كلاسيكيّة تكشفها عناوين بعض الكتب النقديّة.
من هنا منشأ أساسيّ لسوء التفاهم. فالأديب يبحث عن مميّزات نصّه المفرد الخاصّ بتقنياته وجماليّاته ورؤيته وكيفيّات القول فيه والباحث يسائل قضايا أعمّ من النصوص المفردة وإن اتّخذ هذا النصّ أو ذاك مرقاة إلى ما هو أعمّ.
وهذا أمر لا يخصّ أدباءنا وأعمالهم فحسب بل يتّصل وثيق الصلة بالنقد الأكاديميّ عامّة.
أليس العلم بحثا في الكلّيّات؟ وأليست النصوص التي تطرح أسئلة جديدة وتبتكر قضايا فّيّة وجماليّة تضع النقد ونظريّاته في أزمة نادرة؟
فلا تثريب على الناقد الأكاديميّ ولا عزاء للأديب، بعض العزاء على الأقلّ، إلاّ في أصناف اخرى من النقد غير النقد الأكاديميّ قد أعود إليها في رمضانيّات أخرى.
***
* الحلقة السابعة
عن النقد غير الأكاديميّ
يكاد الدارسون الأكاديميّون يحتلّون جميع فضاءات النقد الأدبيّ. وهذا ممّا يزعج الكثيرين لأسباب مختلفة لا تعنينا كثيرا في هذه التدوينة. بيد أنّ هذه الظاهرة تستدعي بعض التدقيقات. منها اوّلا أنّ صفة الأكاديميّ لا تسوّغ لهذا الناقد أوذاك أن يكون كلامه عن الأدب دقيقا موضوعيّا علميّا ومنها ثانيا أنّ التكوين الأكاديميّ لا يقتصر على الجامعيّين بل يشمل كذلك من مرّوا من مدرّجات الجامعات وحصلوا فيها على زاد يؤهّلهم مبدئيّا لممارسة النقد ومنها ثالثا أنّ جودة النقد أعلق بثقافة الناقد الأدبيّ وليست رهينة الأدوات النقديّة التي يشتغل بها.
أمّا النقد الأكاديميّ في حدّ ذاته، بصرف النظر عن جودته، فلا نراه كذلك إلا بعد تحكيمه علميّا في مناقشات الرسائل والأبحاث (الدكتوار والماجستير) ونشره في المجلأّت المحكّمة أو الأعمال المقدّمة للتاهيل الجامعيّ وبعض ما ينشره من بلغوا رتبا معيّنة في المهنة (المثلة كثيرة ولكني أذكر محمّد القاضي أو محمّد آيت ميهوب من المتّصلين بالحياتين الأكاديميّة والثقافيّة). وهذا يعني أنّ النقد الأكاديميّ يحتاج إلى اعتراف هيئات ولجان تجيزه تمثّل الجماعة العلميّة بقطع النظر عن الأفراد فيها. لكنّ هذا الاعتراف لا يعني أنّ ما يكتب في إطاره ويجاز موجّه إلى الجمهور العادي من الأدباء والمتأدّبين الذين قد يقرؤنه من باب الاطّلاع فلهم أن يعجبوا به أو أن يردّوه فالأمر سيّان.
لكنّ النقد الأدبيّ لا نجده في رحاب الجامعات فحسب ولا يكتبه الأكاديميّون المحترفون المعترف بهم فحسب بل نجد كتابات نقديّة مهمّة وأعلق بالحياة الثقافيّة المتحرّكة وزخمها في الصحف والمجلاّت الثقافيّة رغم ما نشهده من انحسارها المؤسف. ولنا في هذا الباب نقّاد مميّزون في تونس يمثّلون هذا الصنف من النقد غير الأكاديميّ من قبيل ما ينشره ناجي الخنشاوي (في الشعب) أو هيام الفرشيشي (في الشارع المغاربي). وهو نقد يمزج بين ما هو صحفيّ في إيجازه وطريقة عرضه وما هو ثقافيّ بما يثيره من قضايا أدبيّة ونقديّة فيجتهد في تقديم تقييم للعمل والحكم عليه.
والواقع أنّ هذا التقليد الصحفي قديم في تونس نجده مع زين العابدين السنوسي مثلا وكتّاب مجلّته "العالم الأدبيّ" وما نشر في مجلّة "المباحث" من تحاليل ودراسات. وأصبح بعض النقّاد في الصحف معروفين بكتب في النقد حرّكت السواكن مهما يكن موقفنا من مضومنها وتوجّهات اصحابها النقديّة مثل كتب أبوزيّان السعديّ رحمه الله وحسونة المصباحي.
وقد أنشأ هذا النوع من النقد الذي لم ينشأ في الجامعة اعمالا مهمّة جدّا. يكفي أن نذكر منها الكتاب البديع للشابّي حول الخيال الشعريّ عند العرب وقد كتبه ولما يبلغ العشرين من لعمر. فرغم كلّ المآخذ الأكاديميّة الممكنة عليه فإنّه مثّل ثورة فكريّة وأدبيّة كبرى في الأدب التونسي والعربي كذلك.
ما اردنا قوله بإيجاز إنّ المشكل ليس في سيطرة الجامعيّين على النقد فهم ايضا يتدخّلون بصفتهم مثقّفين ويتكيّفون كذلك مع المحامل التي يكتبون فيها كالصحف (وممن استحضرهم الآن شفيع بالزين) والمنابر التي يتكلّمون فيها بل تكمن المشكلة في أنّ غير الجامعيّين من المثقّفين لا يملؤون إلا قليلا هذا الفضاء الشاسع الذي نسمّيه نقد الأدب.
***
* الحلقة الثامنة
هل مات المؤلّف حقّا؟
"ماذا أراد المؤلّف أن يقول؟" كان المعنى المراد والمقصد ونوايا الكاتب دوما، بطرق مختلفة ومهما تعدّدت النظريّات والمقاربات، ممّا يبحث عنه الناقد وينشد المدرّسون والطلبة في تمرين شرح النصّ الوصول إليه.
وسواء عليا أفسّرنا الأثر والنصّ بحياة كاتبه أم عصره ومجتمعه أم عقده النفسيّة التي تتجلّى في كتابته فإنّ المؤلّف حاضر حضورا طاغيا لحظة التأويل باعتباره كائنا فردا أو نتاجا اجتماعيّا وثقافيّا.
لكنّ النقد الجديد (بارط) وبعض الفلاسفة (فوكو) حين حملا إلينا نعي المؤلّف مستبدلين اللغة الأدبيّة غير المتعدّيّة به أو التشكيلات الخطابيّة لم يمنعا فكرة الربط بين مقاصد النصّ ومقاصد صاحبه من التغلغل في الأذهان. فيكاد الناقد والطالب من حيث لا يشعران يسألان السؤال المحرّم كما لو انّه سؤال مشروع ("ماذا يقصد المؤلّف؟") وكثير من النقد للشعر يبحث دون مواربة في أنا الشاعر. وإلى ذلك أفرد الباحثون في السرديّات لونا من القول سموه كتابة الأنا (السيرة الذاتيّة واليوميّات والمذكّرات... إلخ) لاتخاذها حياة المؤلّف موضوعا للكتابة.
طبعا في النقد الأدبيّ أسئلة عديدة معلّقة ولها احتمالات في الإجابة ليست بديهيّة ولا حاسمة: هل يقتصر القصد في النصّ على ما أراد المؤلّف قوله؟ هل الأنا المكتوبة هي أنا المؤلّف المرجعيّ الواقعيّ الذي يقول أنا؟ هل الكتابة انعكاس للمؤلّف شخصا وكائنا ثقافيّا واجتماعيّا وتاريخيّا؟ ما هي صور المؤلّف في نصّه؟ كيف يعبّر عن إيديولوجيّته ومواقفه وكيف يستنبطها القارئ؟
مهما تكن المواقف الصادمة سواء بإرجاع كل شيء إلى هذا الكائن الواعي العاقل المتخيّل المميّز الذي نسمّيه مؤلّفا (فكرة العبقريّة) أو بإعلان نعيه وقبره نهائيّا فإنّ الأدب يظلّ مرتبطا بصورة ما بصاحبه فيراه القارئ من خلال السطور أو يتوهّم صورته المنعكسة في نصّه وإن أشاح الباحث عنه بوجهه باسم الموضوعيّة وتحكّم فكرة موت المؤلّف التي صارت أقرب إلى العقائد الراسخة.
فهل مات المؤلّف حقّا؟ وفيم تكمن حياته اليوم؟
***
* الحلقة التاسعة
لماذا الرواية وليس التاريخ؟ (على سبيل المشاكسة الجادّة)
سألني صديق ممّن يشتغلون بما يسمّى الحضارة في أقسام العربيّة بجامعاتنا التونسيّة ويتحكّك على علم التاريخ كما لو أنّه "العلم الوحيد الذي نعرفه ونعترف به" على حدّ تعبير ماركس في القرن التاسع عشر:
"لماذا تكتب في رمضانيّاتك عن الرواية والنقد والتخييل رغم أنّ ما كتبته من رمضانيّات سابقة عن تاريخ الثقافة التونسيّة مفيد أكثر؟" واضاف مازحا ولا شكّ: "يزّينا من الخيال والتخييل والمخيال والحكاية والرواية هات الصحيح اللي ينفع".
لن أسرد ما اجبته به ولكنّني احببت اليوم أن أشير إلى مسألة حول التاريخ والرواية صارت معروفة في كتابات المؤرّخين المحترفين الذين سعوا إلى دراسة ابستمولوجيّة التاريخ نفسه وأنطولوجيّته (ماذا للمؤرّخ أن يعرف؟ وكيف يكتبه وهو يمارس علم التاريخ؟). غير أنّ زملاءنا (لنقل بعضهم أو اغلبهم سيّان) ممّن تربّوا في أقسام العربيّة ودرسوا فيها موادّ تسمّى الحضارة ثم اتّجهوا إلى البحث فيها وصاروا مختصّين بالمعنى الأكاديميّ سرعان ما تنكّروا لتكوينهم الأدبيّ وصارت الرواية عندهم محض خيال لا يفيد وهي قد تكون موضوع بحث للتمثّلات الثقافيّة في أحسن الحالات (يستحضر هنا بعض ما كتبه ادوارد سعيد مثلا). أمّا العلم والمعرفة فنجدهما في مقاربات المؤرّخين وعلماء الاجتماع والأنتروبولوجيّين مثلا ومناهجهم في البحث.
ليس جديدا أن تعدّ النظرة الوضعيّة الضيّقة الأدب والشعر لغوا (نقصد اللغة اداةُ والهذر مضمونا معا) وخيالا يمتدّ من أجمل الشعر اكذبه إلى الرواية التي تكتب للمتعة الجماليّة التي لا هدف من ورائها (بما في ذلك لغتها اللازمة غير المتعدّيّة ووهم الواقعيّة وأثر الواقع كما في النقد الجديد).
تكمن مشكلة صديقي في التقابل الحاد الذي يقيمه بين الأدب والتاريخ دون أن يرقى إليه ولو بصيص (لا أدري كيف خرجت كلمة بصيص) من الريبة والشك. أفليس التاريخ نفسه أدبا؟ فما يروى على انّه وقائع تاريخيّة إنّما هو كتابة وسرد ورواية فالثقة في المرويّات التاريخيّة على انّها تقدّم الواقع المنقضي على نحو مطابقيّ، ولو على سبيل التقريب، مجرّد سذاجة واوهام لم يعد أيّ مؤرّخ محترف يصدّقهما لأنّه يعلم علم اليقين أنّه يصنع خطابا ننعته بأنّه تاريخيّ ويسر مرويّات وحكايات وروايات. وتقوم صناعة الخطاب المتماسك المقنع وسرده بالضرورة على البحث عن حبكة (بالمعنى الأصيل للكلمة عند ارسطو) ويستخدمان الطرائق نفسها في التخييل والبناء.
لا أتذكر من اعتبر أنّ التاريخ رواية قد تحقّقت وأنّ الرواية تاريخ كان من الممكن أن يتحقّق. وبقطع النظر عن الوقوع من عدمه فإنّه يكفي اشتراك الرواية والتاريخ في الحبكة وفي التعامل مع الزمن (كما حلّله ببراعة بول ريكور) حتى ندرك أنّ التخييل بمعنى (Fiction) أمر أبعد شأوا من الفهم الذي يسند إليه دلالة الزيف والوهم والكذب وتحريف الواقع.
***
* الحلقة العاشرة
القارئ حين يجنقل في ملعب المطالعة...
استوقفني أمس إعلان لعصابة عشّاق الكتب بسوسة بقيادة القارئ المحترف حلمي الشيخاوي عن تنظيم الموعد الشهري (اليوم الفاتح من افريل) للحديث في الكتب التي قرأتها المجموعة في شهر فيفري المنقضي. ليس في الأمر ما يدعو إلى التوقّف فهذه العصابة المميّزة ناشطة جدّا وجدّيّة في تعاملها مع الكتّاب ومناقشة اعمالهم (حتّى أنّ بعض الكتّاب ومجموعات القاءة الأخرى صارا يطلبان عقد لقاءات مع هذه المجموعة).
ما استوقفني حقّا هو عنوان هذه اللقاءات "القارئ هو النصّ" وفقرة مهمّة تربط هذا العنوان بأطروحة موريس بلانشو في كتابه "الفضاء الأدبيّ" بالخصوص. وعموم ما يستنتج من الكلام بعد عزله عن استدلال بلانشو هو جمل صادمة م قبيل "ليس القارئ متلقّيا ولا الكاتب مرسلا بالضرورة" و"للقراءة دور تأسيسيّ في خلق الأثر" و"الكتاب غير المقروء شيء لم يكتب بعد" و"القراءة كتابة للكتاب دون وساطة الكاتب" و"تحرير الكتاب من الكاتب" و"الكتاب يكون كتابا عندما لا يحيل على شخص كتبه" و"القارئ ينخرط في تجربة محو الكاتب"... إلخ.
طبعا لا تنفصل مثل هذه التقريرات الجازمة عن فكرة موت المؤلّف ولا عن التصوّر الرومنسي للمطلق الأدبيّ والردّ على التصوّرات الوضعيّة والتاريخانيّة في فهم الأدب والأثر والروائع والتاريخ الأدبيّ. وهي تقريرات كما هو بيّن مغرية للقرّاء إذ تمنحهم سلطة أساسها التخلّص من القيود والتعامل بحرّيّة مع المكتوب بما يتجاوز على نحو راديكاليّ ملء الفراغ والبياض في التأويل الأدبيّ وجعل القارئ الضمنيّ مكوّنا داخل النصّ على ما نجده في بعض نظريّة التقبّل التي تميّز بين الجانب الفّيّ المضمّن في النّصّ والجانب الجمالي الموكول أمره إلى القارئ وتجربة القراءة.
المشكل أنّ الثلاثي الثابت في التخاطب الأدبيّ هو الكاتب والنّصّ والقارئ ويعسر أن نلغي أيّ مكوّن منها بإعلان موته أو محوه (الكاتب) أو اعتباره ثانويّا بسبب لاحقيّته (القارئ) أو إفراغ النّصّ من دلالته الإيديولوجيّة والنفسيّة ونسبه المعلن بموجب حقوق التاليف على الأقلّ (الكتاب).
ثمّة شيء مشترك بين المكوّنات الثلاثة أراه مناسبا جدّا لتحقيق معادلة غير مختلّة:
يكتب الكاتب نصّه وفق خطاطات مسبقة ينوّع عليها بالضرورة مطابقة لها أو مخالفة (الجنس الأدبيّ والأسلوب والمنطق السرديّ والتراث السابق...إلخ)
وينتج النصّ دلالته ومضمونه ويبى قوامه الفنّي ومقترحاته الجماليّة وفق خطاطات ايضا وسيناريوهات سابقة (لذلك نجد فكرة التاثيرات والسرقات والمحاكاة قديما والتناص والحواريّة حديثا)
يعسر أن يعيش القارئ تجربته الجماليّة خارج هذه الخطاطات ايضا بما أنّه مشدود إلى تكوينه الأدبيّ المؤسّسي (المدرسة والجامعة والمكتبة والنقد والإعلام... إلخ ) وغير المؤسّسي (الخبرة القرائيّة والنصوص التي اطلع عليها والذوق نفسه).
وتفسير ذلك أنّه لا يمكنا أن نلعب شطرنج القراءة كما نشاء. فالقراءة المتحرّرة مطلقا عسيرة المنال لأنّها ذاتيّة جدّا لا تلقى بالا إلى اّنا حين نقرأ نكون كمن يرقص على حبل رهيف وإن كان بوسعنا أن "نجنقل" في ملعب المطالعة كلاعب ماهر في ملعب كرة قدم لكنّا لا نستطيع فعلا ذلك خارج المستطيل الأخضر فلا احد في المدارج أو وراء خط التماس سيأخذ مراوغاتنا ولمساتنا السحريّة ماخذ الجد والجدّ هنا لعبة القراءة نفسها.
@ (هذه التدوينة تحيّة إلى عصابة عشاق الكتب وزعيمها حلمي الشيخاوي)
***
الحلقة الحادية عشرة
أحكام النقد المتعالم
تصلني في "تنبيهات غوغل" أخبار وتعاليق ومقالات كلّما ذكر اسمي فيها. واليوم فتحت الرسائل التي وصلتني فوجدت فيها مقالا بجريدة عُمانيّة شهيرة يحمل عنوانا مريبا "خبز على طاولة ميلاد أم جائزة على طاولة النعّاس؟". فمن الواضح أنّ المقال يريد أن يبيّن أنّ هذه الرواية لا تستحقّ جائزة البوكر في الدورة التي أشرفت فيها على لجنة تحكيمها لذلك ذكر اسمي ونبّهني الشيخ غوغل مشكورا. طبعا ليس هذا المقال الأوّل في الموضوع ولن يكون الأخير علاوة على القيل والقال والنميمة التي تشكّك في كلّ جائزة.
وفي المقال المذكور اعتراضات باللفظ أو بالإشارة على جدارة رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" للروائي الليبي محمّد النعّاس. ولست في مقام الردّ أو الحجج أو حتّى مناقشة صاحب المقال في رأيها. فهو حرّ في ما يقول وفي ما يقيّم ولا أملك لا بحكم موقعي الجامعي ولا موقعي في لجنة التحكيم حقّ الردّ عليه.
لكن لفتت انتباهي حجّة واحدة أوردها هنا بنصّها. يقول صاحب المقال: "على الرغم من أن الرواية منولوجية (أحادية الصوت) من ناحية السرد، إلا أنها خرجت عن النوع، في كونها ليست منولوجية الأيديولوجية (...) إنّ الأحادية السردية أفقدتها إمكانية تحولها لعمل كوني عميق كحال الرواية البوليفونية (المتعددة الأصوات)".
أمّا الفكرة فبيّنة: رواية النعّاس تقوم على اعترافات الراوي وتداعي ذكرياته بعد قتل زوجته برقة فظيعة وأناقة مريعة تكشف عنها الصفحات الأخيرة في الرواية. ومادام الشكل الذي صيغت فيه الرواية هو الاعترافات أو ما شابهها فإنّ السارد هو المعترِف نفسه أي شخصيّة الخال ميلاد فيكون بذلك الصوت الوحيد المهيمن في الرواية هو صوت الراوي - الشخصيّة.
أما الحكم فواضح: لا يمكن أن تكون رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" رواية "كونيّة" (كذا!) لأنّها ليست بوليفونيّة متعدّدة الأصوات.
لنترك جانبا المقصود بـ"الرواية الكونيّة" ولننتبه إلى كيفيّة استعمال مفهوم البوليفويّة. فما إن تلقّف النقد العربيّ هذا المفهوم عن طريق الترجمات الفرنسيّة والأنكليزيّة (ومنهما إلى العربيّة) لعمل باختين عن أدب دوستويفسكي وبدأ ينتشر في بعض الدراسات حتّى أصبح هذا المفهوم الوصفيّ حكم قيمة في الكثير ممّا يحبّر عن الرواية. وهو مفهوم في مظانّه يشير إلى خصائص التعدّد والاختلافات المتفاعلة في الاستعمالات اللغويّة ومستويات اللغة والآراء والمواقف التي تسند إلى الآخرين والإيديولوجيّات المصطخبة في النصّ الواحد وعلاقة الخطاب الذاتيّ بالخطابات الاجتماعيّة الأخرى والخطاب المنقول وغير هذا من الظواهر التي تدكّ مفهوم المنشئ الواحد للخطاب الروائيّ وإطلاقيّة اللغة الموحّدة الصافية.
ولكن كلّ هذه الطاقة الوصفيّة التي يتضمّنها مفهوم تعدّد الأصوات (ورديفه الحواريّة) بمعناه الباختينيّ الأصيل صار في بعض النقد عندنا حكما بجودة الرواية إذا توفّر (أو بالأحرى إذا ذهب في وهم القارئ - الناقد أنّه قائم في النصّ) وإذا لم يكن له الوضوح النظري والمعرفة المناسبة كي يراه يصبح النصّ أحاديّ الصوت ومن ثمّة يحكم عليه سلبا.
ليست هذه أوّل مرّة ألاحظ فيها هذا الوهم لدى النقّاد وأشباه النقّاد فقد عانت منه رواية "الطلياني" أيضا وغير الطلياني.
المشكلة الوحيدة التي ينبغي على أمثال صاحب المقال أن يبيّنها لنا حتّى نصدّقه في حكمه النقديّ هي: "هل توجد رواية واحدة ينطبق عليها مفهوم الرواية في أدنى تعريفاته غير حواريّة (غير متعدّدة الأصوات)؟"
فمثلما يحقّ للقارئ أن يعبّر عن رأيه في الرواية بنِعْمَ مادحا وبِئْسَ ذامّا فعليه، إذا عنّ له أن يتعالم، أن يكون دقيقا في استعمال المفاهيم والمصطلحات متمتّعا بالحدّ الأدنى من الوضوح النظريّ. عدا هذا يصبح النقد تحكّما مضحكا ولغوا لا طائل من ورائه.
***
الحلقة الثانية عشرة
إن هو إلاّ خيال...
بعض الكلمات حق يراد به باطل. وهذا التعبير القديم صالح في عبارات كثيرة نذكر مها اليوم عبارة تسمع دوما كلّما تعلّق الأمر بنقد واقعيّة بعض الأعمال الأدبيّة أو الفنيّة مهما كانت قيمتها. وليس هذا هو المهمّ بل المهمّ استعمالها لتأكيد فصل الأدب والفنّ عن مرجعه الواقعي وتبرير حقّ الفّنان في أن يقول كلّ ما يريد قوله دون محاسبة ولا حتّى نقد إذا حمله فنّه إلى ما في التخييل من مبالغة وتضخيم وإسراف أو من تجاوز للحدود التي يرسمها الحسّ الاجتماعي المشترك. فالحجّة قائمة دوما لإنقاذ المبدع من ورطته مع الرأي العام أو المتديّنين أو السياسيّين أو غيرهم: "إن هو إلاّ محض خيال وأدب...".
وهي حجة نقرأها اليوم في الفيسبوك عن عمل دراميّ يتناول المدرسة التونسيّة وما يدور فيها باعتبارها مجتمعا مصغرا لا يمكنه إلا أن يتأثّر بما في المجتمع الكبير من مخازي ومفاسد (لا تسألوني عن موقفي منه لأنّي لم أشاهد العمل). ولما وصل أمر التشكّيات من العمل إلى الوزارة والنقابات وأبناء القطاع وحتى إلى الحكومة والرئاسة في ما يبدو علاوة على الأولياء والعائلات حتّى أخرج البعض من علبة أدوات التبرير والدفاع القديمة عبارة: "ما هو إلا خيال...".
حقّا هو خيال لأنّ العمل الفّينّيّ لا يمكنه إلاّ أن يكون خيالا ولا يعكس الواقع على نحو ما تعكسه المرآة أو الكاميرا (وهي نفسها لا تعكس كل شيء فعين المصوّر وذهنه هو الذي يوجّه الصورة ويبنيها وليس الآلة المحايدة - الكاميرا بحدودها التقنيّة). فإذا كان مجرّد خيال فلماذا استطاع هذا العمل أن يثير في الناس النقاش والسؤال سواء بالإدانة بعد الشعور بالإهانة أو الدفاع عن المدرسة التونسيّة بما أنّه لا يصوّر الواقع القائم بل يبالغ فيه؟
وهذه الحجّة استعملت حين هاجم الأزهر رواية "اولاد حارتنا" لجيب محفوظ: "إن هي إلا عمل فنّيّ..." لا يمسّ الرواية الدينيّة في شيء رغم كلّ القرائن التي تفيد من داخل النصّ نفسه أن محفوظ لم يكن ساذجا بل كان يحاور، وإن أنكر هو نفسه في لحظة خوف من تبعات تكفيره ولا شكّ، الرواية الدينيّة لتاريخ البشريّة.
وأخرجت هذه الحجّة كذلك للدفاع عن سلمان رشدي بعد تكفير الخميني له وهدر دمه بسبب روايته "الآيات الشيطانيّة".
وفي الحالتي الأخيرتين أرى استعمال هذه الحجة: "إن هو إلا خيال..."، رغم النوايا الطيّبة في مواجهة دكتاتوريّة التكفير الديني، من باب تحقير الأعمال التي اختار أصحابها أن يحاوروا أعظم النصوص التي تؤثّر في عقليّات البشر ويناقشوا الروايات الكبرى التي يعتقد فيها الناس ويقدّسونها. ففي الكتب السماويّة باعتبارها سرديّات عن الإنسان، منشأ وصيرورة ومنتهى، قصص وحكايات مثرية للخيال ومؤثّرة في النفوس جديرة حقّا بأن تحاور. وما الكتب التي دوّنت تفاعلات القصّاص الدينيّين إلاّ شاهد على هذا الخيال الخصيب.
من حقّ الرواية باعتبارها فنّا علمانيّا أن تجلب إلى مجالها الرواية المقدّسة بتأويلاتها البشريّة لتتفاعل معها ضروبا من التفاعل بحسب العصور والإيديولوجيّات ولكن وفق مقتضيات الفنّ.
فبعيدا عن بعض النقد الحديث الذي أراد فصل الأدب عن الواقع بمفاهيم من قبيل "الوهم المرجعيّ" و"أثر الواقع" و"الإيهام بالواقع" و"مشاكلة الواقع" فإنّ الكتابة على اعتبار مفهوم المحاكاة الأرسطيّة تظلّ فعل تحويل يعمل على تمثيل الواقع من خلال تمثيل الفعل الإنساني وترتيب ما يتولّد عنه من أحداث يلحق بعضها السابق فيكون التعرّف والتطهير.
نعم إن هو إلاّ تخييل وخيال ولكنّه بسبب ذلك تحديدا هو تمثيل للواقع وتأويل للروايات السابقة الدينيّ منها والدنيويّ. ومن حقّ المبدع على ذلك أن يستفزّ بفنّه النفوس المطمئنّة ويحاور المعاني الكبرى مهما كانت.
أليست الحرّيّة مبتدأ الإبداع وخيره؟
****
الحقة الثالثة عشرة
الشعر والخبر
تبدو المقابلة الشائعة بين النثر والشعر في العربيّة وغيرها كما لو أنّها وجدت لتمييز الشعر دون غيره من اجناس الكلام.
فالنَّثْرُ في دلالته المعجميّة، في لساننا العربي كما في غيره من الأسنة التي نعرفها، هو "الكلامُ الذي يرْسَل بلا وزنٍ ولا قافية". لذلك نجد تحت النثر أجناسا واصنافا من الأقاويل مختلفة.
ليس غرضنا مناقشة هذه المسألة بل التنبيه إلى وهم كبير في الثقافة العربيّة جعل الشعر ديوانا للعرب وعنوانَ تفوّقهم الأدبيّ. ولئن كنّا لا نناقش هذه الفكرة بتوسّع فإنّنا نحتاج إلى تنسيبها من جهة الأشكال الأدبيّة الكبرى. فاختباريّا يبدو جنس الخبر، بنيةً ووظائف، أقوى تعبيرا عن نسق الثقافة العربيّة ونسقها الفرعيّ الفّنيّ الأدبيّ حتّى أنّنا نجده في كل متون هذه الثقافة من الأمثال وايام العرب والتاريخ والحديث النبويّ والسيرة النبويّة والتراجم وكذلك الأدب بالمعنى الجماليّ الحصري من بخلاء الجاحظ إلى المقامات واخبار العشّاق مع فروق مهمّة وتلوينات تبرز مرونة هذا الجنس الأدبيّ والشكل الخطابيّ.
إنّ هذه المنزلة التي يحتلّها الخبر (وهو يكون "نثرا" ولكنّه يستوعب الشعر كذلك) في الثقافة العربيّة القديمة وفي علوم مختلفة فيها واجناس خطابيّة متوّعة منها لتجعله في الحقيقة الديوان الوافي للعرب يجمع ذاكرتهم الثقافيّة (الأمثال وأيام العرب مثلا) بقدر ما يدوّن احوالهم في أيامهم المختلفة (البخلاء والمغنّين والعشّاق مثلا) ويبرز خصائص ثقافتهم ومميّزاتها ويتضمّن ممكننات سرديّة لا متناهية للإبداع الأدبي وتوليد أشكال جديدة (المقامة مثلا).
لعلّنا حتاج إلى بعض الجرأة لنقول إنّ الشعر عند العرب على أهمّيّته في الفنّ القوليّ ومكانته في النفوس لا يمكن له، بحكم لغته المصنوعة على مقتضى تقاليد عريقة وأسلوبه في التفاعل مع أنماط التصورات الذهنيّة والمعطيات التاريخيّة والتحوّلات الاجتماعيّة والإيديولوجيّة، أن يكون ديوانا للعرب.
والأرجح أنّه علينا أن نولي الخبر، ببنيته السرديّة المرنة وتحوّلاته من التوثيقيّ إلى الجمالي الفّنّيّ وباتساع الحقول التي اندرج فيها، مكانته التي هو جدير بها لا في المضمامين التي يعبّر عنها فحسب بل في ابتداع أشكال من السرد مهمّة لا تخلو من جماليّات خاصّة معبّرة عن صميم الثقافة العربيّة.
***
الحلقة الرابعة عشرة
عن تونسيّة الرواية التونسيّة...
اضطلعت الرواية في بلدان العالم العربي بدور إيديولوجي خطير تجتمع فيه رواية القصص الوطنيّة وكتابة الذاكرات المحليّة ودراسة المجتمعات في خصائصها ومميّزاتها وكشف واقعها المخفيّ واختلاف شواغل البشر الذين يعيشون في رقع جغرافيّة متقاربة لكنّها مختلفة.
ولكن في رصيدنا الروائيّ المتراكم ما هي الرواية التي تعبّر عن الخصوصيّة التونسيّة ولنقل الروح التونسيّة؟ (أقصد لا يخطئ من يقرأها في وصفها بالتوkسيّة على الأقلّ)
كانت الإجابة في الوسط الأدبيّ بتونس واضحة: إنّها "الدقلة في عراجينها" للبشير خريّف وبعض أعماله الأخرى. وهي إجابة تبدو لأوّل وهلة مقنعة إلى حدّ ما. لكنّ المشكلة أنّ الزمان الذي اكتنف أحداث هذه الرواية هو ثلاثينات القرن الماضي والحال أنّ تونس تغيّرت كثيرا. وعلاوة على ذلك لم تخلق هذه الرواية شخصيّة تبقى في الذاكرة مثل شخصيّة زكريا المرسنلي في "الياطر" او مصطفى سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال" أو عمر الحمزاوي في "الشحّاذ". فالرواية أيضا، ولنقل الروايات "الناجحة" منها، تنحت شخصيّات نموذجيّة فاتنة تعبّر عن أبعاد إنسانيّة حتى إن كانت محلّيّة وربّما بسبب محلّيتها.
كنت أجد في كتابات عليّ الدوعاجي القصصيّة، روحا تعبّر عن مدينة تونس أكثر ممّا وجدته في كتابات خريّف ربّما بحكم انتمائي اجتماعيّا إلى حيّ من مدينة تونس القديمة عاش فيه الدوعاجي نفسه. بيد أنّ الدوعاجي، شأنه شأن خريّف، لم يصنع شخصيّات قويّة تتجاوز محليّتها وتفتن القارئ.
وقد جعلتني هذه المقارنة بين رائدين كبيرين من روّاد السرد في تونس، الدوعاجي وخريّف، أتبيّن، روائيّا وفنّيّا، أنّ تونس نفسها اسم يخفي تنوّع التصوّرات الاجتماعيّة وتعدّد الأعراق التي سكنتها والطبقات التاريخيّة والثقافيّة التي تعتمل في عمقها مع اختلافات أنتروبولوجيّة بين جنوبها وشمالها ومدنها وأريافها .
وبناء على هذا الموقف الواعي، بقطع النظر عن حظه من الصواب والخطأ، أرى أنّ على كلّ روائيّ تونسيّ أن يتساءل عن موقعه من المشهد الروائي التونسيّ والعربيّ. وهو تساؤل قد لا يكون مهمّا من الناحية الفنّيّة ولكنّه مهمّ جدّا من الناحية الإيديولوجيّة.
***
الحلقة الخامسة عشرة
شيء عن الرواية والسيرة الذاتية
تبدو العلاقة بين الرواية والسيرة الذاتيّة قائمة على ما نسمّيه مفارقة القارئ. فهو يبحث عن التاريخي الواقعيّ في الرواية وينشدّ إلى التخييليّ الفنّي في السيرة الذاتيّة.
وتجد هذه المفارقة حلّها في شيء ممّا قاله طه حسين نفسه عن "الأيّام": "الأدب كلّه سيرة ذاتيّة حتّى حين يؤرّخ الأدب لأحداث مضت" وأضاف: "من ذا الذي قال إنّ الرواية أعلى مرتبة من السيرة الشخصيّة في موازين الأدب؟".
لسنا نريد العودة إلى مسألة مدروسة معروفة كان قد ذكرها الدارسون بل أحببنا أن نذكّر بانشداد السيرة الذاتيّة، رغم كلّ المميّزات التي أجهد النقاد أنفسهم في تبيانها، إلى الرواية. ولكن يبدو لنا الفرق متّصلا بما ذكره مبدع كبير هو فرغاس يوسا في رسائله إلى كاتب شاب. فقد استخدم تمثيلا وهو يتحدّث عن الرواية رشحناه نحن بما نراه في السيرة الذاتيّة. فالرواية، وهنا موطن استعارته، هي عمليّة معاكسة للتعرّي (ستريب تيز) تقتضي من صاحبها أن يجهد نفسه لإخفاء الجانب الشخصيّ. وإذا سلمنا بهذا التمثيل تكون السيرة الذاتيّة نوعا من التعرّي يعرضه المؤلّف على قارئه لأمر ما.
غير أنّنا حين نظر في ما كتب من سير ذاتيّة في العربيّة (وإذا استثنينا إلى حدّ ما "الخبز الحافي" لمحمّد شكري وإلى حدّ أبعد سيرة عبد القادر الجنابي "تربية عبد القادر الجنابي") فإنّ جانب البوح والتعرّي في هذه السير محدود جدّا حتى لا نتحدّث عن غيابه.
ورغم مشكلة التجنيس في سيرة محمّد شكري التي وصفها بـ"سيرة ذاتيّة روائيّة"، وهي غير السيرة الذاتيّة بحصر المعنى ، فإنّ ردّ فعل الرقابة العربيّة على هذا النصّ ونشره في البداية بغير العربيّة مترجما ينمّ عن جزء أصليّ من المشكلة. فليست مؤسّسة الرقابة باعتبارها جزءا من الجهاز الأدبيّ في معناه الاجتماعيّ الذي حدّدته النظريّة الاجتماعيّة للأدب إلاّ تعبيرا مكثّفا عن منظومة القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة السائدة وسياسة الجسد وتمثّلاتها لاستخدامه وحدوده وضوابطه.
من هنا كانت الرواية التي يفترض أنّها تغطّي ولا تعرّي بحسب استعارة يوسا أكثر جرأة في التعامل مع الجسد والمخازي والعيوب وأقوى في مواجهة منظومة التصوّرات المحافظة. بيد أّنّ الجرأة والمواجهة هنا محدودتان لأسباب كثيرة تحتاج إلى نظر لا تعود بالضرورة إلى الرقابة.
***