د. أحمد الحطاب - الإيثار قيمةٌ إنسانية سامية

الإيثار altruisme هو أن يُفضِّلَ شخصٌ ما الغيرَ على تفسه وبدون مقابل. ولا داعيَ للقول أن الإيثارَ واحدة من القيم التي دعا الإسلامُ إلى تبنِّيها والعمل بها. بل إن الإيثارَ، كقيمة إنسانية وأخلاقية، كان معمولاً به عند عرب الجاهلية، أي قبل مجيء الإسلام. والإيثارُ هو أن يتخلى الشخصُ عن ما هو في حاجة إليه ليَسُدَّ به حاجةَ غيره. وقد يبلغ الإيثارُ دروتَه عندما يحدث في ظروف صعبة، أي حينما يكون الشخصُ الذي آثر الغيرَ على نفسِه في أمسِّ الحاجة إلى ما سيقدِّمه من عطاءٍ لهذا الغير مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "...وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الحشر، 9).

والإيثارُ هو ذلك الفعل أو العمل الذي نعبِّر عنه في حياتنا اليومية بعبارة "لوجه الله"، أي أن الشخصَ الذي يفضِّل الغيرَ على نفسه لا ينتظر من هذا الغير أن يمدحَه أو أن يُثنِيَ عليه. فالعملُ الذي يقوم به هو فقط خطوةٌ للتَّقرُّب من الله مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (الإنسان، 9).

الهدف من هذه المقالة، هو أن أتوقفَ بعض الشيء عند مفهوم الإيثار من منظور سياسي. وبعبارة أخرى، أريد أن أرى هل لهذا المفهوم وجود أو تطبيق في مشهدنا السياسي؟ وبعبارة أوضح، هل أحزابُنا السياسية والسياسيون، بصفة عامة، يستحضرون الإيثارَ لما يكونون منهمكين في تدبير شأنَينا العام والمحلي؟ وباختصار، هل يعطون الأولوية لخدمة مصالح البلاد والعباد أم ينسون الإيثارَ ويتفرَّغون لخدمة مصالحهم الشخصية؟

وبما أن الإسلامَ يوصي بتبنِّي الإيثارَ والعمل به في حياتنا اليومية، فمن المفترض أن الأحزابَ السياسةَ والسياسيين، كمسلمين، أُوكِلَ لهم تدبيرُ شأننا العام والمحلي، هم أول مَن يطبِّق هذا المفهوم على أرض الواقع. وتطبيقا لمفهوم الإيثار، فمن المفترض كذلك، أن يفضِّلوا مَن انتخبوهم على أنفسِهم. وإذا أردنا أن نعبِّرَ عن هذا التفضيل بكيفية أوضح، سنقول : من المفترض أن يفضِّلَ السياسيون، كمسلمين، خدمةَ مصالح البلاد والعباد على مصالحهم الشخصية. هذا هو المفترض من منظور ديني، إنساني وأخلاقي.

السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو : "هل فعلاً، السياسيون، كمسلمين، الذين انتخبناهم لتدبير شأننا العام والشأنين الجهوي والمحلي مُشبَّعون بالقيمة الإنسانية المتمثِّلة في الإيثار ويطبِّقون هذا الإيثارَ على أرض الواقع؟ أو، بصيغةٍ أخرى : "هل فعلا، السياسيون، كمسلمين ممثلين للشعب الذي اختارهم لينوبوا عنه في تدبير الشأن العام وتدبير الشأنين الجهوي والمحلِّي، عندما يمارسون السياسةَ، يكون الوازِعُ الديني والإنساني والأخلاقي، بما فيه الإيثار، حاضرا في ممارساتِهم؟

إذا أردنا أن نكونَ صُرحاء وبعيدين كل البُعد عن لغة الخشب ومتوافقين مع واقع مشهدِنا السياسي، الجواب عن هذا السؤال هو : لا، ثم لا، ولا شيءَ غير لا! لماذا؟ لأن الأحزابَ السياسيةَ والسياسةَ تمَّ إفراغهما من معنَيهما النبيل المتمثِّل في ممارسة السلطة من أجل تدبير شؤون بلاد ما بكيفية يُراعى فيها الصالحُ العامُّ لهذه البلاد ومصالح مواطنيها. وعندما أُفرِغت الأحزابُ السياسيةُ والسياسة من معنيهما النبيل، أصبحتا عبارة عن فضاءً غير محروس يلِجه مَن هبَّ ودبَّ علما أن السياسةَ علمٌ قائم الذات له حُرمتُه وله قواعدُه. السياسةُ أصبحت مطِيةً يركبها الانتهازيون ليعِثَوا في المشهد السياسي فسادا. السياسةُ، عوض أن تقترنَ بالاستقامة والنزاهة والإنصاف والعدل والحصافة وبُعد النظر…، أصبحت مقترِنةً بالفساد، بالريع، بالمحسوبية، بالزبونية، بعدم المحاسبة، بهدر المال العام…

فأين نحن من الإيثارِ كقيمةٍ إنسانيةٍ ساميةٍ؟ السياسيون، إلا مَن رحم ربي، عندما يمارسون السياسة في تدبير الشأن العام والشأنين الجهوي والمحلي، ينسون أو يتعمَّدون نسيانَ تدَيُّنَهم وينسون الأخلاقَ والإنسانية وكل الصفات الحميدة من استقامة ونزاهة واعتدال ورشاد وإخلاص وصدق وعدل و وفاء… ويتقمَّصون صفةَ "اللاإنسان" الذي لا يتمالك سيلَ لُعابُه أمام ما وراءه جشعٌ وريعٌ واغتناءٌ سريعٌ وربحٌ غير مشروع واسنلاءٌ على حقوقِ الغير… وكأن السياسيين، كمسلمين، إلا مَن رحم ربي، غير معنيين بما يفرصُه عليهم الواجبُ الديني، الأخلاقي والإنساني.

نعم، إنهم غير معنيين بالإيثار ولا بغيره من الصفات الحميدة التي على كل سياسي أن يكونَ مُشبَّعا بها. غير معنيين بالإيثار ولا بغيره من الصفات الحميدة لأنهم، قبل ولوجِهم عالمَ السياسة، كانت لهم أهدافٌ دنيئة عزموا على تحقيقها من خلال انتمائهم للأحزاب السياسية. وبما أن هذه الأخيرة، إلا مَن رحم ربي، صورةٌ طبقَ الأصل للسياسيين اللاإنسانيين، فمن السهل أن تتحقَّقَ هده الأهداف الدنيئة.

الإيثارُ، كقيمةٍ إنسانيةٍ ودينية، مرغوبٌ فيه في مشهدنا السياسي ومشهدنا السياسي في حاجة ماسةٍ إليه ليقومَ السياسيون بواجبهم نحو مَن اختاروهم لينوبوا عنهم في تدبير الشأنين العام والمحلي. و واجبُ السياسيين هو أن يُفضِّلوا، في تدبير هذين الشأنين، مَن انتخبوهم على أنفسِهم. غير أن هذا التَّفضيلَ، إلا مَن رحمَ ربي، غير موجود في الواقع علما أنه موجودٌ، أسود على أبيض، على الورق، أي في الدستور والقوانمين المُنظِّمة للأحزاب السياسية.

وما ينصُّ عليه الدستور والقوانين المنظِّمة للأحزاب السياسية متناقضٌ مع ما يجري في المشهد السياسي. بل إنه مجرد كلام يتحوَّل إلى إنشاءٍ وبلاغة يستعملان في الحملات الانتخابية وفي نقاشات البرلمان وفي التَّقارير الحكومية وفي وسائل الإعلام.

ولو أن الدستورَ والقوانين المنظِّمة للأحزاب السياسية لم تُشِر إلى الإيثار حرفيا، لكنهما أشارا إليه، يوضوح وبكيفية غير مباشرة، عندما تمَّ تحديدُ مهام السياسة والأحزاب السياسية. وكيفما كان الحالُ، وبما أن الدستورَ ينصُّ على أن دينَ الدولة هو الإسلام، وبما أن الإيثارَ قيمةٌ من القيم النبيلة التي يحُثُّ على تبنِّيها هذا الإسلامُ، فشيءٌ غريبٌ أن لا يكونَ لها وجودٌ لا في المشهد السياسي ولا في تصرُّفات السياسيين وحتى أولئك الذين يدَّعون ان مرجعيتَهم إسلامية. بل إن العديدَ من القيم الدينية والإنسانية لا وجودَ لها في مشهدنا السياسي الذي هو مؤثَّثٌ بإنسانٍ عاقلٍ، لكن لاإنساني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى