آية الأتاسي - كرم الصحراء

الكرم ملح المغاربة، ويسري مع الدم في عروقهم. ونادراً ما يموت المغاربة من الجوع، وإن ماتوا كثيراً من القهر، فبيوت الأغنياء والفقراء على حد سواء، تفتح مطابخها أيام الجمع ويوزع الكسكس على المارة والمحتاجين وعابري الطريق. الكسكس ليس طبقاً مغربياً عادياً بل هو بركة ولمّة، وحكاية بلد وسيرته.
الصحراء المغربية ألهمت مخيلة هوليوود، التي بنت استوديوهات سينمائية هناك. وقد كنا محظوظين باكتشاف الصحراء مع أحد أبنائها المخلصين، للأسف غاب الاسم عن ذاكرتي بعد مرور زمن مديد على رحلتنا إلى مدينة الداخلة في وادي الذهب الصحراوي، لكن التقاطيع السمراء الحادة لمرشدنا السياحي مازالت مرسومة في رأسي.
أتذكر الآن كيف تغيرت أساريره عندما عرف أننا سوريين، وقال بفرح طفولي: “نهدر بالعربية إذن”. ثم ركب سيارة الدفع الرباعي كفارس يمتطي حصانه، وحين غرزت عجلات السيارة في رمال الصحراء، طلب منا النزول، ولم يقبل عرض المساعدة الدي قدمناه له، فالفارس الذي لا يستطيع ترويض فرسه بمفرده، فارس أعرج.
سكون الصحراء كان ساحراً ولا يعكره صوت المحرك، ولا صدى في الخلاء للموسيقى الشعبية المنبعثة من المذياع.
يقال إن السراب هو كذب الصحراء على عابريها، لكنها لم تكن سراباً تلك الواحة التي توقفنا فيها للراحة، ولم يكن النبع الصغير فيها للسباحة، وليست الأسماك الصغيرة فيه للصيد، بل هي التي تصطاد الجلد التالف وتنقي الأقدام المنهكة.
هي إذن وصفة جمال سحرية أخرى للصحراء، تضاف إلى حجر الإثمد الذي يطحن كي يعلّم العيون الكحل والغزل.
“الوحدة في الصحراء ليست عبئاً، فهي تعلمنا اشتياق الغريب ومقاسمته الرغيف كي تخف وحشة العزلة”، قال مرشدنا (أو هكذا هيئ لي) وأنا أراه يُخرِج من صندوق السيارة اللحم المحفوظ بعناية في براد صغير. ثم أشعل النار وبدأ الشوي، هذه الوليمة للضيوف، اللحم لهم والعظم لنا، أضاف مبتسماً.
أشحْنا بوجوهنا نحن الضيوف خجلاً من تذمرنا حين انتظرنا طويلاً أمام الجزار، ولم نفهم أن الصحراوي لا يشتري كتف الضأن إلا كي يكرم الضيف ويُجله.
تنتهي الوليمة الصحراوية عادة بالشاي الصحراوي وطقوسه العريقة، ليست السكبة الأولى بل الثالثة وربما الرابعة التي يختمر فيها المذاق والمزاج معاً. رشفت الشاي الساخن بعينين مغمضتين، والصحراء أمامي واسعة كالحرية، وكأنني في فيلم هوليوودي وأنا بطلته الوحيدة.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى