د. أحمد الحطاب - الفرق بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة ليس حتماً هو ما تعوَّدنا على سماعه وقرائته

ما يجب توضيحُه هو أن المقصودَ ب"بلدٍ غني" هو أن هذا البلدَ له القدرة على إنتاج الثروة. وهذا يعني أن اقتصادَه قوي بإمكانه إنتاج القيمات المضافة التي تساهم في الرفع من حجم هذه الثروة. أما المقصود ب"بلدٍ فقيرٍ" فهو أن هذا البلدَ لا يُنتج الثروةَ أو يكاد، وبالتالي، فاقتصادُه ضعيف ولا يساهم في نمو هذه الثروة.

بعد هذا التَّوضيح، هناك توضيحٌ آخر لا بد من الوقوف عليه. يتمثَّل هذا التَّوضيح في كون الفوارق بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، غالبا ما تكون مبنيةً على أحكام مُسبقة ومُنمَّطة، إن لم نقل على القيل والقال وما يُتداول من تمثُّلات شعبية. والأمثلة في هذا الصدد كثيرة، أذكر من بينها :

قد يعتقد البعضُ أن الفرقَ بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة هو عمرُ هذه البلدان. لكن هذا غير صحيح لأن، مثلا، الهندُ ومصر تضرب جدورَهما في أعماق التاريخ وعُمرهما يُقدَّر بأكثر من ألفَي سنة لكنهما بلدان فقيران.

كندا، أستراليا ونيوزيلاندا كانت، قبل 150 سنة، بلدانا مغمورة لا يعرفها أحد ولا صِيتَ لها بين بلدان العالم، هي اليوم بلدانٌ غنية ومتقدِّمة ومصنَّعة.

وقد يعتقد كذلك البعضُ أن الفرقَ بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة هو وفرةُ الموارد الطبيعية. لكن الواقعَ يدحض هذه الفكرة لسبب بسيط : اليابان، مساحتُه محدودة ومتكوِّنة من العديد من الجُزُر. وما يُناهز 80% من هذه المساحة عبارة عن جِبال يصعُب استغلالُها للفلاحة ولرعي الماشية التي يتزايد عددُها باستمرار. لكن اليابان اليوم، من أقوى الاقتصادات في العالم. لا يتوفَّر على موارد طبيعية وهو عبارة عن مصنعٍ عائمٍ يستورد الموارد الأولية من جميع أنحاء العالم ويُصدِّر المنتجات المُصنَّعة إلى جميع أنحاء هذا العالم.

مثل آخر. سويسرا Suisse لا تزرع الكاكاو cacao لكنها تُنتِج أحسن وأرقى شوكولاتة في العالم. على ترابها المحدود والصغير، تُمارس تربية الأبقار وتُمارس الفلاحة على امتداد، فقط، أربعة شهور في السنة. هذا، بالطبع، شيءٌ غير كافي، لكنها تُنتِج حليبا ومشتقَّاتِه ذات جودة عالية. إنه بلدٌ تُروَّج عنه صورةُ أمن وأمان يحلو فيه العيشُ والعملُ، ميزاتٌ جعلت منه الصندوق المُحصَّن لإيداع أموال العالم.

مثل آخر. كوريا الجنوبية، بغض النظر عن ما عانته من احتلالها من طرف اليابان، لم يكن لها وجودٌ يُذكَر إلى حدود الستينيات. بل كانت بلدا فقيرا لا يتوفَّر على موارد طبيعية تُذكَر، مثلها مثل اليابان. لكنها اليوم من أقوى الاقتصادات العشرين في العالم.

ومن جهة أخرى، عندما يتواصل أطُرُ البلدان الغنية مع نُظرائهم في البلدان الفقيرة، في إطار التَّبأدلات العلمية والتقنية، فالواقع يُبيِّن بوضوح أنه لا يوجد فرقٌ بين هؤلاء الأطراف ونُظرائهم على المستوى الفكري وإنتاج المعارف. وهذا يعني أن الفرقَ بينهم لا علاقةَ له لا بالعِرق ولا بلون البشرة. والدليل على ذلك، أن المهاجرين المنحدرين من بلدان فقيرة يُصَفون ككسلاء في بلدانهم، بينما في البلدان الغنية يُعدُّون قوة إنتاجية خارقة.

فما هو، إذن، الفرق الحقيقي والملموس بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة؟

الفرق يكمن في نوعية العقليات mentalités. وهذه العقليات لا تُمطرها السماء. إنها تُبنى بناءً منذ نعومة الأظافر. وبعبارة أخرى، الفرق يكمن في بناء الإنسان، لكن الإنسان الواعي، المثقف، المسئول والقادر على إنتاج القيمات المضافة التي تساهم في آغناء ثروة البلد. إنسانٌ يتم بناءه على امتداد سنوات من خلال التربية والتعليم والثقافة.

وما يُثير الانتباهَ، هو أن البلدانَ الغنية تتوفَّر على منظومات تعليمية وتربوية عالية الجودة. هذه المنظومات هي التي تساهم في بناء الإنسان الصالح لنفسه ولبلده. ولهذا، فعندما نقوم بتحليلٍ لسلوكات الإنسان المرغوب فيه في البلدان الغنية والمتقدمة، فالملاحظُ هو أن هذه السلوكات اليومية مبنيةٌ على عدة مبادئ، أذكر من بينها، على الخصوص :

الأخلاقيات éthique كأساس لكل تصرُّفاتهم، النزاهة، المسئولية، احترام القوانين والمساطر، احترام حقوق الغير، حب العمل، عزيمةٌ قويةٌ للقيام بأعمالٍ مفيدةٍ، الصدق، الدقة، احترام الوقت… والائحة طويلة.

في البلدان الفقيرة، هذه السلوكات المبنية على المبادئ المشار إليها أعلاه، نادرا ما يتحلي بها الناس. وإذا وُجِدت، فإنها لا تهم إلا شريحةً محدودة من الناس. إنها تكاد تكون مفقودة عند مَن يسيِّرون شؤونَ البلدان الفقيرة. لماذا؟ لأن المنظومات التعليمية والتَّربوية في البلدان الفقيرة جودتُها ضعيفةٌ جدا. ويتمثَّل هذا الضعفُ في كونها لا تهتم ببناء الإنسان كعنصر يساهم في إنتاج الثروة. بل إن هذه المنظومات التَّعلمية والتَّربوية لا ترى في مَن يتردَّد عليها إلا وعاءً تشحنه بمعارض جافة لا تصلح إلا لاجتياز الامتحانات. أما بناء الإنسان الذي، من المفروض، أن يكونَ أولويةَ الأولويات، فهو متروكٌ للصدفة.

والدليل على ذلك، هو أن المنظومات التربوية والتعليمية تُصنَّف دائما في المراتب المتأخِّرة في التَّصنيفات العالمية. منظومات منعزلة عن المجتمع الذي تنشط فيه. وبحُكم هذا الانعزال، فإنها تُنتِج إنسانا غريبا عن مجتمعه وغير قادر على أنتاج القيمات المضافة التي هي أساسُ إنتاج الثروة.

لهذا، ففقرُ البلدان ليس مرتبطا لا بعُمر البلد ولا بمساحته لا بوفرة موارده الطبيعية. فقر البلدان آتٍ من فشلها وإهمالِها لبناء الإنسان المشبَّع بعقليات أساسُها التَّفتُّح والتحرُّر الفكريان والاجتماعيان ومشبَّعٌ كذلك بالمبادئ المشار إليها أعلاه. لهذا، قلتُ في بداية هذه المقالة، أن العقليات لا تُمطرها السماء. إنها تُبنى منذ نعومة الأظافر. ولهذا، فالبلدان الفقيرة مطالبةٌ أكثر من أي وقتٍ مضى أن تُغيدَ النظرَ في منظوماتها التَّعلمية والتَّربوية لتكون واحدا من العوامل المنتِجة للثروة.

قد يقول قائلٌ إن البلدان الفقيرة عانت من ويلات الاستعمار وآثاره. وآثارُ هذه المعاناة هي التي حالت دون تقدم وغنى هذه البلدان. نعم وبكل تأكيد، آثار هذه المعاناة ليست بالهيِّنة. هذا سببٌ غير كافي وغير مُقنع لأن كوريا الجنوبية كانت مستعمرةً من طرف اليبان، لكنها اليوم تُعدُّ من الاقتصادات القوية. كما أن أمريكا الشمالية كانت مستعمرةً بريطانية وكندا والولايات المتحدة تُعدُّ من البلدان الغنية.

وقد يقول قائل آخر إن البلدان الفقيرة عانت من أنظمة حُكم استبدادية مباشرة بعد نهاية الاستعمار. نعم وبكل تأكيد. لكن وحسب رأيي الشخصي، إرادة الشعوب لا تُقهَر، طال الزمان أو قَصُرَ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى