خالد جهاد - قفطان

يتناقل الناس حول العالم العديد من الحكايات والأقوال المأثورة، لكنهم نادراً ما يتوقفون عندها ليسألوا عن جذورها ومنبعها، وعن الثقافة التي تنتمي إليها..

ودائماً يضرب المثل بحكايات ألف ليلة وليلة والتي تستخدم بشكل خاص في التراث العربي والعالمي للحديث عن سحر الشرق وقصصه الخلابة وأساطيره المثيرة المشوقة والمخيفة أحياناً، إضافة ً إلى وجود الخيال والإبهار والأجواء الملكية والحديث عن الجانب الرومانسي وربما الحسي عند الحديث عن شهريار وحكاياته مع النساء ومع شهرزاد بشكلٍ خاص، والتي تمر بالعديد من البلدان مثل العراق ومصر والهند وإيران ولكنها بدأت فعلياً من الجزائر حسب العديد من الآراء، والأزياء هي جزءٌ مهم من خيال أي حكاية خاصةً إن كانت تعتمد على الخيال والإبهار البصري واكتمال لقاء النص بالصورة، ومن أبرز وأجمل الأزياء التراثية التي تكتسب شهرة كبيرة عالمياً وتتمتع بالكثير من الخصائص التي تجعلها مميزةً وقابلةً للتطوير والتجدد والتواجد على نطاقٍ واسع هي القفطان، والذي يندرج تحته مجموعةٌ واسعة من التصنيفات في بلدانٍ وثقافاتٍ من كثيرة، لكن القفطان في البلاد المغاربية له طابعٌ فريدٌ جداً من حيث التفاصيل الجمالية ودقة التصاميم التي اكتسبها لأنه يجمع تفاصيل أعراق ومناطق وثقافاتٍ متنوعة..

ونبدأ بالقفطان الليبي الذي ارتبط بالنساء اليهوديات في طرابلس قديماً، ويُلبس تحته (قمجة) ومعناها القميص، ويكون قصيراً بحيث يصل إلى الركبتين، أما أكمامه تصل إلى تحت المرفق لتظهر أكمام القميص بشكلٍ جميل، ويوجد معها حزام وحلي تقليدية، ويكون مزركشاً بالألوان، مزيناً ببعض الإكسسوارات المستمدة من الثقافات العربية كـ"الخمسة" وهي إشارة الكف التقليدية، وتمزج فيها ألوانٌ افريقية مستعملةً أثوابًا خاصة، وإكسسواراتٍ وطرقًا لوثاق غطاء الرأس على النمط الأفريقي في منطقة جنوب الصحراء، ومزجت بين القفطان وفستان الزفاف العصري..

أما القفطان التونسي والذي يميز تونس كواحدةٍ من البلدان الجميلة التي تزخر بتراثٍ عريق ومتنوع، وتولي اهتماماً خاصاً به إلى جانب مواكبتها للحداثة في مختلف الجوانب نظراً لإنفتاحها الحقيقي على الثقافات العربية والأوروبية، وللقفطان فيها أشكالٌ متعددة للرجال والنساء، وبه تفاصيلٌ دقيقة للغاية تشترك فيها وفي تنوعها مع الجزائر والمغرب، وقد يصل سعره إلى مبالغ باهظة نظراً إلى الحرفية المطلوبة في تصميمه وتنفيذه، ولكنه ليس الزي التراثي الوحيد في تونس، لكنه مميز لدرجة قدرته على مواكبة مختلف المناسبات، كما أن مصممي الأزياء التونسيين كان لهم دورٌ كبير في نشره على نطاقٍ عالمي، وأقدم قفطان تونسي موجود في المتحف الوطني التونسي عمره أكثر من ٣٠٠ سنة، ويحقق انتشاراً مستمراً على عدة مستوياتٍ ثقافية، ويمتاز بنوعية القماش والتصميم والاكسسوارات المصاحبة له من زينة الرأس والحلي والأحزمة،والتي لها معانٍ مميزة في الثقافة التونسية المحلية بحسب المنطقة والعمر والحالة الإجتماعية، وتضفي طابعاً من الرصانة والعراقة والرقي على إطلالة المرأة التونسية، لكن الجميل هو تنوع الأزياء التراثية للرجال أيضاً والتي تعطي انطباعاً بالوقار والهيبة والرجولة، بدءاً من الشاشية وهي أشبه بطربوش أو طاقية حمراء توضع على رأس الرجل، وتليها الكسوة التي ترتدى تحت جبة وتحتوي على العديد من القطع مثل الصدرية والبرنس، وهذه الأزياء حافلة بالتفاصيل المبهرة للعين والمبهجة للقلب، وترتدى في المناسبات الدينية والوطنية والأعياد، ويخصص السادس عشر من مارس/آذار في كل عام كيومٍ مخصص للاحتفال بالأزياء الوطنية التونسية بكافة أنواعها وأشكالها من مختلف أنحاء تونس، وبالطبع هناك الكثير من التفاصيل المتنوعة التي تحتاج إلى شرحٍ مطول..

وللقفطان الجزائري مكان ٌ مميز كما للجزائر طابع خاص جداً من حيث اللهجات والعادات والتقاليد، عدا عن تنوعه اللغوي والعرقي والقبائلي طبعاً مثل باقي الدول المغاربية، لكن الطابع الخاص للجزائر يجعل لها حضوراً لافتاً وخاصاً مابين ثقافة وطنية وصورة عالمية تعكس الوجه الحضاري لهذا البلد الجميل، والقفطان الجزائري عبارة عن عباءة أو سترة طویلة تصل إلى الركبتین وأكمام واسعة طویلة تصل إلى الكوع تلبس فوق ملابس أخرى وتختلف التفاصيل من منطقةٍ لأخرى وقد مر بمراحل مختلفة، فقد كان في البداية حكراً على الرجال والأمراء والسلاطين، وبدء يصبح متداولاً بين عامة الشعب في عهد العثمانيين، وأصبح متوفراً للرجال والنساء على حدٍ سواء، ويوجد منه عدة أنواع مثل : "قفطان القرنفلة" و"قفطان الباي" و"قفطان القاضي" و"المنصورية" و"قفطان الشدة التلمسانية" أيضاً، والذي يتميز عن البقية بتفصيله وتطريزه بخيوط الذهب، ولأنه يجمع بين عدة حضارات، فالبلوزة أصلها من الحضارة العربية، والفوطة من الحضارة الأمازيغية، والقفطان من الحضارة العثمانية بينما الشاشية مستمدة من الحضارة الأندلسية والذي جاء مع الأندلسيين، وتم تسجيله في منظمة اليونسكو عام ٢٠١٢ كتراثٍ ثقافي غير مادي، وانبثق كزي له حضور قوي من القفطان، ويزن أكثر من ١٥ كيلوغراماً، ويتألف هذا اللباس من ١٢ قطعة متناسقة، ومرصعٌ بأكثر من ٥٠ صنفا من المجوهرات التقليدية المحلية المصنوعة بتلمسان، ويصل سعره إلى أكثر من ثلاثة آلاف يورو، وتستغرق مدة خياطته أكثر من أربعة أشهر..

وتتركز حرفة تصميم القفاطين في مدنٍ رئيسية مثل الجزائر العاصمة، وهران، تلمسان، البليدة، قسنطينة، القليعة، ويجدر الذكر أن التنوع الهائل في الأزياء التراثية الجزائرية يستحق أن يوضع ضمن موسوعة متخصصة نظراً لغزارة المعلومات وكثرة التفاصيل وتنوع الجذور التاريخية لكل زي مما يجعل كل ما كتب عنه مجرد محاولات بسيطة لم تستطع مواكبة هذا التراث الفريد..

كما حقق المغرب شهرة عالمية كأحد أهم البلاد التي تتوفر فيها جميع المقومات السياحية، وحقق تراثه تواجداً مهماً في المحافل الدولية، فجاء القفطان المغربي ليعبر الحدود ويتم طلبه بشكلٍ كبير ومتزايد، لأناقته وبساطته ورقيه وسحره الذي لا يقاوم، والذي يتمتع بمرونةٍ كبيرة جعلته قادراً على الاستمرارية بل وإضافةً إلى المشهد الجمالي وسط حالةٍ من الركود والتكرار في عالم الأزياء، فقام بتغيير المعادلة وأصبح محل اقبالٍ كبير من الأجيال الشابة وقادراً على مواكبة التطور، كما أن تصميمه يتطلب معرفةً عميقة بتاريخه، وخلال تسعينات القرن الماضي عرف القفطان المغربي نهضةً عالمية حيث تم تطويره من طرف مصمممين ومصممات مغاربة، كما نظمت مهرجانات عالمية بالمغرب مثل مهرجان "Caftan du Maroc" أو (قفطان المغرب) بمراكش الذي يعد أكبر محفل وطني ودولي للقفطان والذي يحضره سنوياً مصممون عالميون من جميع بقاع العالم، وقامت كبرى شركات الأزياء العالمية بإدراج نسخٍ مطورة منه في كاتالوجات أعمالهم، كما يساهم القفطان المغربي ب ١٦ في المائة من صادرات المغرب من الصناعة التقليدية، لكنه بدايته كانت أيضاً مثل الجزائر كزي مخصص للرجال وللأغنياء، وبدء تصنيعه في القرن الثاني عشر في مدينة فاس المغربية العريقة، وهو عبارة عن ثوب طويل بأكمام طويلة يعتمد في صنعه على أقمشة فاخرة كثوب البروكار، الموبرا أو المخمل، الحرير، جوهرة والثليجة المغربية ويتم تزيينها بالتطريز اليدوي المغربي والذي يختلف من مدينة لأخرى داخل المغرب، وتأتي أهم جزئية في التصميم وهي ما يسمى في المغرب "خدمة المعلم" نسبة إلى حرفيين يغزلون من خيوط من الحرير أو الفضة أو الذهب العقاد والسفيفة التي تتوسط القفطان المغربي وتميزه، و يحزم بالمضمة التي تعطيه شكله الأنيق والمضمة هي الحزام الذي يُلبس حول الخصر ويبرز شكل اللباس ويزيد من جماليته، وغالباً تكون مصنوعة من الحرير أو من أحد المعادن الثمينة كالذهب والفضة والنحاس.. ويوجد أكثر من ١٣ نوعاً رئيسياً للقفطان المغربي عدا عن الأزياء التراثية الأخرى التي انبثقت من القفطان..

وهنا لا أتحدث عن القفطان كمجرد زي شعبي وتراثي،بل أتحدث عنه كحالة تعكس التنوع الثقافي والفني والإجتماعي الذي نحتاجه بشدة في هذه المرحلة من التاريخ لنعلم أن التنوع قوة وليس نقطة ضعف..



خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى