د. حسن جلاب - إبراهيم الأمغاري: طير الجبل.

إبراهيم بن حمد بن عبد الله بن حسين الأمغاري ، كنيتـه أبو سالم.ينتهي نسبـه إلى جـده: أبي عبد الله محمد بن أبي جعفر إسحاق أمغار، الصنهاجي الذي كـأن برباط تيط انفطر(عين الفطر) قرب أزمور، وقد اختلف المؤرخـون في نسب بني أمغار: يعتبرهم البعض علويين حسنيين أو حسينيي، ومحمد بن علي الدكالي... في حين لا يقـر آخرون بشرفهم، ويكتفون بالإشـارة إلى صلاحهم وتقواهم، كابن الزيات، وصاحب مفاخـر البربر، وابن مرزوق وابن قنفد...
لقبه: «طيـر الجبل» لم يرد في الصفوة( 1) ولا في باقي المصادر التي اعتمدت عليه، ووردت مقالته بالنص( 2)، وورد عنـد ابن المؤقت في « السعـادة الأبديـــــة»( 3)، فقـد قال بعد ذكر اسمه ونسبه المعروف عند العامـة بطير الجبل» (ويطلق هذا اللقب كذلك على ابن مشيش دفين جبل العلم)، ويرمز لخلوته الاختياريـة بجبل كيك، والتي ما زالت من أهـم المزارات إلى الآن(4 ).
لم تذكـر المصادر تاريخ ولادته، في حين قال الأفراني بأن وفاته كانت اثنتين وسبعين وألف عن سن عالية، (يقال أنه أنـاف على المائة) ( 5)، ويؤكـد ذلك وجود جـده عبد الله بن حسين المتوفى سنة 976هـ/1568م، وأحمد ابن موسى السملالي المتوفى سنة 971هـ/1563م من بين شيوخه، فإذا أخذنـا بعين الاعتبار سنة عنـد أخذه عن الشيخ الأخير، قدرنـا تاريخ ميلاده بعيد منتصف القـرن العاشر للهجرة/ منتصف القرن 16م.
نشأ في بيئة صوفية بزاوية تامصلوحت التي أسسها جـده عبد الله بن حسين، بتوجيه مـن شيخه عبد الله الغزواني، وقـد حدثنـا «ابن عسكر» عمـا كانت عليه الزاوية من ازدحـام الزوار، وما كان يقدم لهم من طعام( 6) عندمـا ولي أمرهـا أحمد بن عبد الله والد المترجم له، وقال عنه: (ناهيك به فضلا وكرمـا وسخاوة نفس ونزاهـة فعل وعلو هـمته... صحبته مـدة مديدة، وحمدت صحبته وشكرت أفعاله الجميلة)(7 ).
في سير الأولياء حلقات متشابهة ترويهـا كتب المناقب والطبقات، يتم فيهـا تسليط الأضواء على الولي منـذ طفولته أو صباه، تعظيمـا لمكانته وتلميحـا لمقامه، فقد أنتبه الجزولـي إلى الصبي عبد العزيز التبـاع ورافقه خـلال زيارته القصيرة لمراكش إلى بيت بحي القصـور، وأوصـاه به خير( 8) وأثـار انتباهه الصبي عبد الكريـم الفلاح، فجـز خصلات من شعر رأسه( 9)، على عـادة الجزوليين مع النسائيين، وللتباع نفسه موقف مشابه مع أبي عمرو المراكشي عندمـا حمله إليه والده، وهـو صغير السن، فعمـره وثمره» كما قال( 10)... أمـا إبراهيم الأمغاري فقد باركـه ابن موسى عند زيارته لعبد الله بن حسين بالزاوية في بعض قدماته على السلطان الغالب بالله، و تنبأ له بمقـام عال في التصوف، وكـأن أكثر وضوحـا من سابقيه بتحديد المكان الذي سيشتهـر فيه أمره (كيك) (11 ).
وعلى كل حال فقـد أتيحت الفرصة للشيخ أحمد بن موسى لمحادثة المترجم له، وتقينـه، إذ أنه إلى جانب عبد تالله ببن حسين من شيوخـه في التصوف.
في حين أخـذ باقي العلوم على عـدد من الشيوخ ذكرت المصادر ثلاثة منهم:
* أحمد المنجور المتوفى سنة 995/1587م.
* عبد الله بن طاهر الحسني المتوفى سنة 1045هـ/1635م.
* وأبا مهدي عيسى بن عبد الرحمن السجستاني المتوفى سنة 1062/1651 ـ 1652( 12).
في حين لم تذكـر له رحلة علمية، ويبدو أنه درس طويلا بمراكش، فشيخـاه الأخيران من ابرز علماء المدينة في عصرهما( 13).
وعرفت المدينة في هذه الفترة اضطرابات وعـدم استقرار، بسبب المواجهات بيمن ابناء المنصور حول الحكم: زيدان، وأبي فارس، والشيخ المأمـون، فلا يكـاد يستقر بها أحدهم حتى يسقطـه الىخـر، وزاد الموقف احتدامـا دخول ابن أبي محلي المدينة وطرد زيدان منها، واستعانـة هـذا الأخير بأبي زكريـاء الحاجي الذي استردهـا وسلمها له بعد معركـة فاصلة بجبل جليز على أبواب مراكش، لذلك كـأن زيدان يخاف على نفسه من التفاف النـاس حول شيوخ التصوف، وخاصـة وأن التجارب قد اثبت خطـورة ذلك(نموذج: الدلائييـن بالأطلس المستوط، السملاليين بإيليـغ...) فكان شديد المراقبـة لزوايا المدينة التي تقلص نشاطها، وأشهرهـا: الغزوانية، والفلاحيـة، والقسطلية... وهكـذا فعند ما اشتهر أمر إبراهيم الأمغاري ، وتوسم النـاس فيه الخير، فاجتمعوا عليه وتلمـذوا له، أمر زيدان بالقبض عليه ، فخرج من المدينة إلى «كيك» من بـلاد سجستانة( 14).
ولم ترد في المصادر تفاصيل عن هذا الخروج، ومن الوثائق التي تشير إليه رسالة قاضي تارودانت أبي زيد التامانارتي لمحمد بن أبي بكر يخاطبه فيها بمثل ما خاطب به هو بودميعة السملالي، وينهاه عن منازعة أهل تافيلالت، وما يهمنا منها أنه يخاف عليه أن يكون كالذين استزلهم الشيطان قبلكم أبي العباس الساوري وكشيخنا أبي زكريا الحاحي والمصلوحي وأبي كانون، حال ذلك بينهم وبين ما هم من الهداية والإرشاد والتعليم والمواساة والأخذ بأيدي الضعفة وألقاهم في مهواة الهوان ...( 15).
فنعته بالضلال، وجعله في مستوى ثائرين على الوضع هما أبو محلي وأبو زكريا الحاحي، فلا يبعد أن يكون نشاطه اخطر مما ورد في المصادر.
لذلك اختار لزاويته منطقة جبيلة محصنة «كيك» تاركا زاوية تامصلوحت في السهل حيث اسرته وعصبيته ومريدوا والده وجده، فأضيفت إلى الزوايا الأمغارية بتيط، وأبذزو، وتمصلوحت، وكان ذلك قبل سنة 1037 هـ/1627 م تاريخ وفاة زيدان وقد شاع ذكره وانتصر أمره فقصده المريدون من مختلف الجهات وخاصة قبيلة سجتانة. وحسب الإفراني فإنه (اجتمع لديه في يوم، ثلاثون ألف رجل وتسعة آلاف امرأة ( 16).
وقد جرى على عادة جده ووالده في الإطعام والعطاء الوفير، ساعده على ذلك غنى المنطقة بمراعيها ومزارعها وغللها ومواشيها وما كانت تحمله إليه قبائلها من هدايا وأعشار، وكان يفصل بينهم أفرادا وقبائل، فيما يطرأ من منازعات شخصية وجماعية حول المياه والمراعي... وينهض كذلك بدور المرشد والمربي والمدرس، فعظمت مكانته ولم تكد تمر أربع سنوات على وفاة زيدان، حتى سعى السعديون إلى مصالحته فأقره الوليد في ذي القعدة من سنة 1041 هـ/1631 م هو وحفدة عبد الله بن حسين على عوائده المعروفة، وأبقى لهم التصرف في أجنتهم ودعا إلى احترامهم وتوقيرهم( 17).
وستستمر هذه العناية والاحترام بظهائر التوقير والإنعام على الأمازيغيين عموما، بما في ذلك إبراهيم بن أحمد وزاوية «كيك» ( 18).
طريقتــه الصوفيــة:
للأمغاريين مكانة بارزة في التصوف المغربي: فسند أبي عبد الله (الكبير) محمد بن أبي جعفر الصنهاجي هو امتداد لسند أبي شعيب أيوب بن سعيد الصنهاجي، يرتفع إلى الجنيد ويمتد إلى الشاذلي بواسطة أبي يعزى فأبي مدين فعبد الرحمن المدني الزيات وابن مشيش (19 ).
فهم يربطون بين الجنيد والشاذلي، في حين أن أبا عبد الله محمد أمغار الصغير هو شيخ الجزولي مجدد الطريقة الشاذلية، ومؤسس الطريقة الجزولية، ويتصل إبراهيم بن أحمد الأمغاري بالجزولي بسندين:
1- إبراهيم بن أحمد الأمغاري.
ـ عن جده عبد الله بن حسين.
ـ عن عبد الله الغزواني.
ـ عن عبد العزيز التباع.
ـ عن الجزولي.
2 – إبراهيم بن أحمد الأمغاري.
ـ عن أحمد بن موسى السملالي.
ـ عن عبد العزيز التباع.
ـ عن الجزولي ( 20).
ولم تذكر له المصارد أورادا يداوم على قراءتها أو يأمر مريديه بترديدها، ولعل ما يربطه بالطريقة الجزولية هو قراءة مريديه لدلائل الخيرات، ليلة الجمعة، واجتماعهم للسماع بين الفينة والأخرى ويضيف الإفراني قائلا (وربما تواجدوا ودخل معهم) (21 ).
أحوالـــه:
ومن غريب ما يساق في ترجمته ما يروي من تركة خلق الشعر والزينة إذا دخـل شهر محرم، فإذا ليم على ذلك قال: (ممـا فعلنا هذا إلا امتعاضا لقتل الحسين)(22)، فهل كانت لديـه ميول شيعية حقيقية، أم أنها وسيلة للفت الانتباه إلى أصوله العلوية الحسينية؟
كما تنسب إليه كرامات في حياته، (23 ) واعتبره ابن المؤقت المراكشي من المتصرفين في قبوره كحالهم في حياتهم (24 )، وذلك شأن الأولياء ـ حسب كتاب التراجم ـ وقد قال الإفراني عن أحواله (كان آيات من آيات الله في الواردات الإلهية والأحوال الصادقة، مع حسن سمت ومتابعة للسنة في أقواله وأفعاله( 25).
وقال الحظيكي: (وكان له قدم صدق ومقام مقام كريم اتباع السنة وإحيائها، وإخماد البدعة وإمحائها(26 ).
من أقوالــه المأثــورة:
(لا يأتينا إلا من آمنه الله، لأن مقامنا هذا مقام إبراهيم الخليل، ومن دخله كان آمنا).
(دارنا دار سر لا دار علم).
ينطبق هذا على زاوية «كيك بصدق» فقد كانت مقصد كل خائف وحائر يجد فيها الإنصاف والطعام والتربية الروحية، ولم تشتهر مدرسة للعلم بقدر ما اشتهرت محلا لقضاء الحاجات( 27).
واستمرت في النهوض بهذا الدور حتى بعد وفاة إبراهيم الأمغاري على يد ابنه: محمد الوافي وحفدته من بعده تدعمهم ظهائر التوقيع والاحترام والإنعام التي كان يتلقونها من سلاطين الدولة العلوية ( 28)، إلا أنها قـد تخلـت في العقود الأخيرة عن هذه الأدوار التربوية الروحية لتصبح مجرد مركز اصطياف جبلي ليـس إلا .

المصـــادر والمراجـــع:

ـ محمد بن محمد السوسي المراكشي الإفراني: تـ 1140/27 ـ 1728 م.
صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر، المطبعة الحجرية بفاس دون تاريخ ص 149/151.
ـ محمد بن أحمد السوسي الحضيكي: تـ 1189/1775 م.
طبقات الحضيكي. المطبعة العربية بالدار البيضاء 1357/1938، ج1/127.
ـ محمد بن محمد بن المؤقت المراكشي: 1369/1949.
السعادة الأبدية في التعريف بمشاهير الحضرة المراكشية.المطبعة الحجرية بفاس 1335، ج2/109 ـ 112.
ـ عباس بن إبراهيم المراكشي التعارجي: 1379/1959 م.
الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، المطبعة الملكية الرباط 1974، 1 ص 181 – 182.
ـ محمد المختار السوسي:383 هـ/1963 م.
إيليغ قديما وحديثا. المطبعة الملكية ـ الرباط 1966 ص 147.
ـ عبد الوهاب بمنصور:
أعلام المغرب العربي. المطبعة الملكية، الرباط 1979. 1/149 – 150.
P. Pascon
- Le Haouz de Marrakech
2T.CNRSS Paris, INAV Rabat 1977.

-------------------------
1) الصفوة 149 ـ 151.
2) سنذكرها في الأخير.
3) 2/109.
4) في الآداب الشعبية ما يفيـد تعود العامة على اختيار ألقاب لصلحائهم تتصل ببعض صفاتهم أو أحوالهم أو مذاهبهم فأبو العباس السبتي مثلا: هو (مول البلاد)، والجـولي هو (صاحب الدليل)، والغـواني (مول القصور)...
5) ا لصفوة 151، كانت وفاته قبل منتصف جمادي الأولى من 1072 وهو التاريخ الذي تسلم فيه ابنه محمـد الوافي ظهير تقديمـه على الزاوية وتمتيعه بما كان يتمتع به والده.
6) قدر عـدد الحضارين في موسم الزاوية باثني عشر ألفا ونيف وخمسمائة ذبح لهم بين يوم وليلة 700 من الغنم و 200 من البقر و20 من الإبل.
7) الدوحة، 107.
8) ممتع الأسمـاع 34 ـ35.
9) إظهار الكمال 272 والإعلام 8/176 ـ 177.
10 ) شمس المعرفة52، مخ خاصة والإعـلام للتعارجي 1/331.
11) تقوزل الرواية أن الصبي كان يدرج بين يدي جـده، فطلب الجد من الشيخ أن يدعو له، فقال: إن الدجاجـة (كانت بالقرب منهم) تقـول في قرقرتهـا كيك ـ صوتهاـ فهل عندكم موضع بهذا الإسم.
قال الجد: نعم، فقال الشيخ: إن هـذا الصبي سيظهر أمره ويعلم سره بذلك الموضع، (الصفوة 150، الممناقب 127 ، الإعلام للتعارجي 1/181).
12 ) الصفوة 151.
13 ) أنظر في ترجمتها الصفوة: عبد الله بن طاهر ص 3ـ 4، والسجستاني 111/112.
14) الصفوة 150.
15) إيليغ قديما وحديثا ص 147.
16) الصفوة 150.
17 ) مراسلات مخزنية (مجموعة تمصلوحت) عند باسكون P.Pascon
Sle Haouz de Marrakech T II
18) هناك في المراسلات المذكورة أعلاه ظهائر توقير وإنعام على حفدة عبد الله بن حسين الأمغاري، منها تبرع السلطان لإبراهيم بن أحمد (المترجم له) بنوبته من ساقية الباشا، والإذن في بيعها أو هبتها أو التصرف فيها ....
19) أنظر ما كتبه عن الأمازيغيين د. محمد مفتاح في أطروحته: التيار والمجتمع في المغرب والأندلس خلال القرن 8 هـ مرقونة بخزانة كلية الآداب بالرباط. 1981 ص168 172.
20) أنظر في أخذ أحمد بن موسى عن التباع: مناقب الحضيكي 1/10. وفي أخذ إبراهيم عن الصفوة 151.
21 ) الصفوة 151.
22 ) الصفوة 150/ مناقب 127.
23) قال الإفراني (كانت تعتريه أحوال يغيب فيها عن حسه ويتكلم بالغيبيات).
24 ) تحدث عن بعض ما شاهده من كراماته بنفسه، السعادة الأبدية ص 2/109 ـ 112.
25) الصفوة 149.
26) مناقب الحضيكي 127.
27) شاع عند العامة أن زيارة زاوية كيك تساعد المرأة العاقر على الإنجاب وهو الدور الذي كان معروفا لعبد الله بن حسين بتمصلوحت.
28 ) مكاتبات سلطانية عند باسكون، أنظر الهامش 17.



حسن جلاب

العدد 266 محرم 1408/ غشت 1987

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى