خالد جهاد - الروح والجسد

ينتاب الكثير منا مشاعر لا يملك لها تفسيراً، فيعتقد أنها شيءٌ عابر وجزءٌ من الأشياء التي لا سبب لها أو ليست بتلك الأهمية التي تدفعنا إلى البحث عن سببٍ لها، ولكنها قد تكون ما يضعنا على أعتاب تغيير حياتنا بأكملها لينقلها من حالٍ إلى حال لأنها لا تشبه ما نغرق فيه عادةً معتقدين أن الكون يتمحور حوله..

فقد اعتدنا من حيث لا ندري على تقييم الأمور بشكلٍ مادي حيث لا نصدق إلا ما نلمسه ونراه، وهذا شيء ٌ صحيح بكل أسف ساهم فيه الإنسان بنفسه فوصلنا إلى هذه الحالة كنتيجة ٍ لسلوكٍ عام بدأ بشكل ٍ محدود ثم أخذ بالتعاظم ككرة الثلج التي بات من الصعب إيقافها، وترافقت مع تغير أولويات البشر ونظرتهم وتعريفهم للأخلاق أو العاطفة أو الوطنية أو غيرها من المفاهيم الوجدانية ذات القيمة المعنوية والتي نشأنا عليها بإعتبارها ثابتةً لا تتغير، واليوم مع كل مظاهر الصخب والتطور والحياة العصرية و(الذكاء الإصطناعي) الذي غير ملامح الإنسان من الداخل وتركه في حيرةٍ من أمره، وجد أنه لا زال باحثاً عن الكثير مما ينقصه ولم يملأ فراغه كل ذلك (الإبهار) المتلاحق الذي لا ينقطع..

والملفت في عالمنا المعاصر هو الإختفاء أو التلاشي التدريجي لكل ما هو طبيعي أو فطري مع تزايد بيعه (منتجاتها) رغم أننا كان يمكننا الذهاب في بعض الأحيان إلى منبعها مباشرةً، فبرغم جلسات الإسترخاء و(اليوغا) التي تجد رواجاً لدى (بعض الطبقات) لأسبابٍ مختلفة ومحاولات (التماهي مع الطبيعة) والمصطلحات المكررة كجزءٍ من الترويج لهذه الأنشطة إلا أن لا أحد يفكر إلا فيما ندر بالتعامل مع الطبيعة مباشرةً دون وسيط وبشكلٍ مجاني لأن الطبيعة عندما تصبح (معلبة أو مصنعة) أو من خلال (مندوبين) فإن ذلك يعني انتفاء قيمتها وصفتها ومعناها..

وقد رأينا حالة الإضطراب التي سادت العالم مع بدء اعلان حظر التجول في أغلب الدول في بداية تفشي جائحة الكورونا، وبدا تأثر مختلف الكائنات واضحاً فأصيب الكثير منها بالصدمة لا سيما الطيور والقطط التي لم تستوعب تواجدها وحدها فكان ظهور أي إنسانٍ أمامها بشكل عابر كفيلاً بأن يدفعها لملاحقته فهي عاجزةٌ عن تفسير ما يحدث، وامتد هذا الإضطراب ليشمل التقلبات المناخية والظواهر الطبيعية وسلوك الكثير من الحشرات والزواحف ولذلك فإن ضرورة فروعٍ هامة كعلم نفس الحيوان تظهر في مثل هذه الظروف لتكون بمثابة مؤشر على المنحى الذي تتجه إليه حياتنا ككل، وبرغم ذلك فإن الكثير من الدراسات والحقائق العلمية تخضع للتذبذب والتغيير بشكلٍ مستمر يزيد من حيرة الإنسان ويعمقها..

لذا قد تكون بداية التغيير مقترنةً بسؤال أو بمجموعة ٍمن الأسئلة التي تصغي إلى صوتٍ خافت وصادق يكمن في أعماقنا، يخجل من البوح ولا يعرف كيف يبدأ رحلته وهو محاطٌ بالأفكار والنظريات والتيارات التي لكلٍ منها مآربها ولم تقدم حلاً حقيقياً يستطيع أن يجعل من الحياة مكاناً أفضل، هذا الصوت هو ماقد يأخذ بيده عندما يبدأ بالتحرر من سطوة البشر والمال والدخول إلى عوالم حرة أكثر نقاءاً وروحانيةً وبعيدةً كل البعد عن من يتاجرون بها، عوالم تؤمن بالتعلم في أي سن ومن كل ما حولها، ترى في الحيوان صديقاً مخلصاً وفي الطبيعة معلماً، وفي شعاع الشمس أملاً وفي حضن الليل دفئاً، تتلذذ بالصمت وتستمع إلى أصواتٍ أعظم بكثير من تلك التي اعتدنا سماعها فلوثت قلوبنا وأرواحنا مثل حفيف الشجر وهدير الموج وجريان الأنهار وسقوط الأمطار، كما أن هنالك الكثير مما يمكننا تأمله وحفظه وتعلمه دون كلمات ودون تنظير، كمشاهد غروب الشمس أو شروقها إلى جانب مشاهد حياة الحيوان في حالاته المختلفة بين لهوٍ وتراحم وتنافسٍ ومحبة أو طريقة تناوله للطعام أو إحساسه بنا كبشر، بين اللحظات التي يلد فيها ويمارس أمومته وعاطفته وبين لحظات رحيله لأنه تلقائي، فطري وطبيعي يعيش حقيقته ويعطي من ذاته دون مصلحة في عالم ٍ أقرب للروح من متاهات الجسد، أسمى من دركات المال والغريزة وأبعد من أحقاد البشر وتحاسدهم وتصنيفاتهم الخاوية، نحن روحٌ تبحث عن روح والأرواح لا تسكن القاع، لذا ستظل في غربتها حتى ترتقي بنفسها وتختار مكانها الذي ينبغي أن تبحث عنه لتكون فيه دون أن يقيدها وجود جسدها في مكان ٍ ما، ذلك المكان الذي يشبه الوجه الحقيقي للحياة ولا يزينه سوى صدقه..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى