د. محمد عبدالله القواسمة - الصراع حول الشكل الشعري

لعل من الأخطاء التي يقع فيها بعض الأدباء والنقاد تحزبهم وتحيزهم إلى جنس أدبي معين أو مدرسة نقدية بعينها، والتقليل من شأن الأجناس والمدارس الأخرى. أوضح ما نرى ذلك في مواقفهم من الأشكال الشعرية المعروفة: الشكل العمودي، والشكل التفعيلي، والشكل المنفلت، أو ما يسمى قصيدة النثر أو الشعر المنثور.

لقد واجهت القصيدة العمودية التي تعد الأساس الذي انبثقت منه الأشكال الشعرية الأخرى في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته حركة انقلابية تزعمها ثلة من الشعراء العرب على رأسهم بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وغيرهم، وجاؤوا بما يعرف بقصيدة التفعيلة، ثم تبعهم من جاؤوا بقصيدة النثر، من أمثال: جبرا إبراهيم جبرا، وتوفيق صايغ، ومحمد الماغوط وغيرهم. وكلا الشكلين انبثقا بتأثيرات من الشعر الغربي، وبما شهدته القصيدة العربية من تحولات في الشكل والمضمون. ومع انبثاقهما بدأ التحيز والتعصب لدى كل فريق من الشعراء، وتوزع النقاد على الفريقين بعضهم يساند قصيدة الخليل بن احمد الفراهيدي وبعضهم قصيدة التفعيلة، وكذلك حدث فيما بعد لقصيدة النثر، ودافع كل فريق عن رأيه، واقترب بعضهم في دفاعه حد الاستهانة بالآخر والسخرية منه.

من المعروف أن مدرسة الديوان التي تكونت من الشعراء: العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري، بخلاف مدرسة الإحياء أو مدرسة المحافظين، التي منها: البارودي وشوقي وحافظ ومطران سمحت للشعراء بعدم التقيد بالقافية دون التفريط بالوزن الخليلي. وظهر من أعضائها المفكر والأديب عباس محمود العقاد الذي انحاز إلى الوزن التقليدي، وهاجم قصيدة التفعيلة هجومًا لاذعًا، وعدها نوعًا من العبث النثري ووقف في طريق كتّابها. وكان عام 1956، مقررًا للجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وعرضت على اللجنة قصائد من الشعر الجديد، شعر التفعيلة لتعيين جائزة لأفضل شعر قيل في العدوان الثلاثي على مصر، فأحالها العقاد إلى لجنة النثر رغم وجود بعض أعضاء اللجنة الذين دافعوا عن هذا النوع من الشعر.

وفي عام 1961 رفض العقاد نفسه أن يشارك الشاعران أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور في مهرجان الشعر العربي في سوريا، واتصل بيوسف السباعي وزير الثقافة في ذلك الوقت، وهدد إذا اشتركا بالاستقالة من اللجنة فكان ما أراده. لكن عبد المعطي حجازي عبر عن رفضه موقف العقاد المتعصب، ونظم قصيدة بعنوان "من أي بحر" على بحر البسيط وجهها إلى العقاد، أظهر فيها حجازي أن الشعراء الجدد اختاروا النظم بطريقة تناسب جيلهم وعصرهم، وأنهم ليسوا بعاجزين عن النظم بطريقة الشعراء المحافظين. وانتشرت القصيدة انتشارًا واسعًا بعد نشرها في جريد الأهرام. تقول القصيدة:

من أي بحر عصي الريح تطلبه إن كنت تبكي عليه نحن نكتبه
يا من يحدث في كل الأمور ولا يكاد يحسن أمرًا أو يقربه
أقول فيك هجائي وهو أوله وأنت آخر مهجو وأنسبه
تعيش في عصرنا ضيفًا وتشتمنا إنّا بإيقاعه نشدو ونطربه
وأننا نمنح الأيام ما طلبت وفيك ضاع من التاريخ مطلبه
وفيك لا أمسنا زاه ولا غدنا وفيك أبهت ما فينا وأكذبه
وتدعي الرأي فيما أنت متهم فيه وتسألنا عما تخربه
وإنه الحمق لا رأي ولا خلق يعطيك رب الورى رأسًا فتركبه

هكذا استنكر عبد المعطي حجازي موقف العقاد من شعر التفعيلة لافتقاده الوزن، وهجاه أقذع الهجاء وإن اعتذر له بعد ذلك. ووجه الغرابة أنه عندما صار حجازي عضوًا في المجلس الأعلى للثقافة بمصر، ورئيسًا للجنة الشعر فإنه وقف موقف العقاد من قصيدة النثر، وصرف شعراءها عن المشاركة في الندوات والمؤتمرات، ورأى في كتابه "قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء". (كتاب دبي الثقافية، 2008) أنها قصيدة ناقصة لأنها تفتقد إلى الوزن الذي هو جوهر البناء الشعري، وبه يُميز بين الشعر والنثر، بخلاف قصيدة التفعيلة فهي قصيدة موزونة.

في النهاية نرى بأن الصراع بين أجيال الشعراء والنقاد حول الأدب ومدارسه صراع طبيعي. فقد شهدت عصور الأدب العربي الصراع بين القديم والجديد. فكل جيل ينتقد الجيل الذي يليه. إنه يرتضي بما هو عليه ويدافع عنه بشراسة. لكننا نعجب من هذه الحدة التي تجلت بين الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي وعباس محمود العقاد. كما نعجب من هذا التمترس من مبدعين وناقدين مهمين خلف رأي بعينه دون مراعاة للواقع وسنن التطور. فلم يكن العقاد محقًا في رفضه الشكل التفعيلي الذي انبثق من قلب الشعر التقليدي وجاء متلائمًا مع العصر وأذواق أهله، وكذلك حجازي ما كان له أن يتعصب لقصيدة التفعيلة، ويرفض قصيدة النثر التي امتدت جذورها في تربة الشعر العربي، وأبهرت المتلقي بإيقاعها، ولغتها المجازية وعمقها الفكري عند كثير من الشعراء. كما يحسن أن نذكر بأن الشعر الجيد لا ينحصر في شكل بعينه؛ فتوجد قصائد جيدة في الشعر العمودي، وكذلك في شعر التفعيلة أو في الشعر النثري. لكن يظل هذا الصراع على الشكل الشعري بين حجازي والعقاد في الذاكرة الأدبية والنقدية العربية ليعطي صورة حية عن تلك السجالات التي كانت تدور في الحياة الأدبية في النصف الثاني من القرن الماضي. ونفتقد أمثالها هذه الأيام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى