د. سليم جوهر - تجربة الصوم عودة بالحياة الدينية الى حدود الكينونة الانسانية.

ذكر الصيام في القران "يا ايها الذي آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".
وفي الحديث لكل شيء زكاة وزكاة الابدان الصيام.
والحديث القدسي 'كل عمل ابن آدم له غير الصيام هو لي وانا أجزي به". وقال امير امؤمنين (ع)، "صوم النفس عن لذات الدنيا انفع الصوم". وقال ايضاً، 'صوم القلب خير من صوم اللسان وصوم اللسان خير من صوم البطن".
لقد تجلت التقوى الدينية في شكلها الحديث، مع الايديولوجيات الدينية في الدعوة الى الاصلاح، عبر خطاب (عاطفي) في تدينه، و(عقلي) في مدعاه، الذي من اهم سماته الصحوة الدينية، في وعي الخطيئة المتمثلة بابتعاد الدين عن قيادة الحياة ونقدها لانسحاب الدين الى الاخلاقية الوجدانية وتركيزه على الكمال الفردي بديلا لتكاتف الجماعة الذي نادت به الايديولوجيات الدينية.
فتم التركيز من قبل هذه الايديولوجيات على ان الهوية العامة للمجتمع هي التي تعطي قيمة للحياة الفردية. فنادت بكمال الجماعة التي هي المصدر الوحيد للانجاز بديلا للكمال الفردي.
فكانت النتيجة كوارث عانت منها المجتمعات الاسلامية نتجية سيطرة التيار الايديولوجي على الحياة الدينية في الحقبة الحديثة لحد ظهور داعش، الشكل الاكثر دموية للايديولوجيا الدينية.
فاذا كان منبع الصيام الهي المصدر والتشريع، فهو انساني باعتباره محل التشريع والتكليف. وهذا التلاقي هو مدخل لفلسفة الجسد و الاخلاق معا، من خلال العودة بالذات الى حدود وجودها الحقيقي (الكينونة الانسانية) حيث يتطلب تركيز مفهوم التدين الفردي اشتغالا على الذات الفردية بكونها الشكل الاكثر جمالا ومنبع الاخلاق ، والمصدر الاغنى الذي يعطي للحياة معنى فيتوضح بشكل جلي الفرق بين هشاشة الروابط الانسانية في مقابل القدرة على العطاء غير المحدود والتطلع للمستقبل ليجعل من الوجود الانساني مسيرة طويلة في ملء الوجود بالمعنى والابتهاج برؤية هذا الذي يعلوا فوق كل شيء.
بينما تقوم العبادات على الفعل (القيام بعمل ما) يقوم الصوم على عدم الفعل (الامتناع عن فعل الاكل والشرب والجنس).
فما الذي يهدف له فعل التخلي، انه (التعبد) العمل الذي ينجزه الله للعبد(قبول الاعمال والثواب)، كما قال تعالى جل وعلا (الصيام لي وانا أجزي به) فالاساس فيه تعالي الفعل، وليس منجزية فعل الفاعل انها (كينونة العابد). لذا يتحول الواجب في الصوم (كعبادة) من المؤمن الى اعضاءه، فيمتنع الفم عن الاكل والشرب واللسان عن القول السيء ويلهج بذكره تعالى (رمضان ربيع القران)، ويغض البصر (يمتنع عن) النظر الحرام، وتمتنع الاذن عن سماع ما لا يحل لها، واليد والرجل والقلب (الجوارح والجوانح) تمتنع عن فعل ما لا يحل لها. فالتعبد يتضمن وهب النفس عبر المحبة، وان الحب يدعم الذات عبر تهميشها. وجزاء الصوم بوصفه مكافأة لهذا التخلي الإرادي عن (المتعة) بكونها جزء اساسي من جوهر الانسان مما يتطلب تكليف المؤمن الجوع والعطش والحرمان من الجنس، لتدعيم الذات الهشة، حيث يتم التركيز فيه على ذات العابد لنيل رضا المعبود بينما في سائر العبادات يتم التركيز فيه على أداء الواجبات لنيل رضى المعبود.
الصوم عبادة تقع بين الفعل والغاية، وبين الحس والغيب، بين الجسد والروح، بين الحرمان والامتلاك، بين الشبع والجوع، بين الرغبة والامتناع، بين المعنى واللامعنى بين المتناهي واللامتناهي.
يمكن اعتبار الصوم تدعيم للذات عبر حرمانها من بعض ملذاتها (التخلي الإرادي)، اذا علمنا ان تحقيق الذات وحرمانها شيئن متنافرين.
فهذا التخلي الارادي عن شيء هو من اجل امتلاكه بشكل اعمق لانه يتضمن فكرة الانتقال او العبور الى الحالة الانسانية الكاملة، انه طقس عبور هذا التشتت بواسطة تكريس هذا التخلي الارادي. يكرس هذا التخلي قيمة المتعة ويضعها في مركز حياة المؤمن، فيدرك هشاشته من جهة ولانها تلج المطلق فتنمح المؤمن بصيرة لادراك قدسية الحياة وقوة وطاقة من اعماقه الظمأنة باستمرا للتخلي عن (حياة زائلة) من اجل الارتواء الدائم (حياة ابدية).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى