رايفين فرجاني - مقالة قصيرة عن المعرفة

أو هي نكتة قصيرة عن المعرفة,حين أنفق أب مصري بسيط من الريف (أو من الحضر,المهم أنه رجل بسيط) ما أفنى فيه عمره لتحصيل القدر الكافي من المال كي يسافر ولده إلى الخارج. وعاد الولد بعض غياب طويل حاملا معه شهادة الدكتوراه Doctorat التي وعد أباه بالحصول عليها.

وبعد الاحتفال بعودة الفتى وأثناء تجهيز الطعام وقد حلف الأب على ابنه أنه سيتناول فرخة / دجاجة كاملة لوحده. وأصلا لم يكن يملكون غيرها. ثم انفرد الأب بالابن قليلا يسأله

-دلوقت لو عييت أنا أنت الحكيم تكشف عليا وتداويني

تأمل الفتى كلام أبيه لوهلة,ثم أدرك ما يقصده قبل أن يجيب

-لا يا والدي .. ديه مش دكتوراه في الطب

قاطعه الوالد

-وماله يابني,الصيدلة مش وحشة,تكتب لي على علاج

-لا يا والدي .. ديه مش دكتوراه في الصيدلة

هنا أصاب الوالد بعض الخيبة,لثانية أرجع رأسه للوراء شاعرا بأن في المسألة خطأ ما,ولكن التفت مبتسما كأنه يتذكر شيء

-وماله,بيطري بردوا مش وحشه,أهو كده البقرة لو تعبت مانسبهاش لغاية لما تموت .. مش هنعمل زي ما العبيط عوّاد أهمل في بهيمته لغاية لما راحت منه,أنا قلت له ..

هنا قاطعه ولده

-لا يا والدي .. ديه مش دكتوراه بيطرية

وهنا انفجر فيه والده غاضبا متسائلا وهو غارق في حيرته

-أمال إيه .. فيه غير دول؟

-ديه دكتوراه في الفلسفة

-وتبقى إيه ديه الفلقسة

-الفلسفة .. ديه يا والدي,هديك مثال,مش أمي بتعمل لنا فرخة دلوقت

-آه

-أنا بقى بدكتوراه الفلسفة شغلتي أقنعك إنها فرختين مش فرخة واحدة

-بس كده

-بس كده,وممكن حاجات تانية

-يعني هما دلوقت بقوا اتنين؟

-آه,هنفترض إنهما اتنين

-لا مش هنفرض .. هما فعلا اتنين,سيبني أنا وأمك بقى ناكل الفرخة ديه,وكل انتا الفرخة التانية!.

ولكن ما تطرحه النكتة جاد ومعضل بحق,إنه جدل لازال قائم حول ماهية المعرفة.

المعرفة هي شعور يحدث في الوعي محدثا صلة بين الذات والعالم الخارجي.

هي شعور لأن أي شيء نحس به بمعنى من المعاني نفكر فيه,لا يخرج عن كونه إحساسا أو تفكيرا. هذا ما يسمى بالوجدان. فهو شعور لا منطقي ولا مفكر فيه. إنه شعور بشيء ما. في حد ذاته,يعد هذا الشعور نوع من التفكير. وقد برهن ديكارت على وجود الفكر ووجود الذات عبر الكوجيطو الديكارتي؛من خلال أناه هو

-أنا أفكر .. إذن أنا موجود

وأنا حين أفكر بدجاجة أو دجاجتين,معناه أنني لدي شعور بوجود هذه الدجاجة خارج ذاتي أنا. إن ذاتي مستقرة في ذاتي,بشكل اعتباري منطلق من (وجود التفكير) بشكل يشبه أولية المعرفة (لنقل منذ الطفولة أو الولادة ولا نقول منذ خُلقت) بأننا نعرف لأننا نعرف. هذا الاعتبار (أو العرفان بافتراض وجود قوة علوية محركة) يفرض على الذات إدراكها بذاتها على أنها شيء,وأن ما عداها شيء آخر. ولهذا فإن وجود أي شيء آخر داخل هذا الوعي أو الإدراك (الإدراك هو المسار إلى الوعي) يفترض صلة (معرفية) مع شيء من الخارج (خارج ذاتي). وهذه هي طبيعة المعرفة.

ولكن متى بالضبط تحدث هذه الصلة؟

هذا بالضبط هو محور الخلاف بين القائلين بأولية المعرفة أو المعرفة القبلية,أي بين القائلين بأن الإنسان لديه استعداد معرفي قبلي للتعلم مفارق لعملية التعلم نفسه ومسبب لحدوثها,وبين القائلين بالمعرفة البعدية,أي أن التعلم لا يمكن حدوثه إلا من خلال مؤثر خارجي,لا يسبب المعرفة فحسب,بل وأنه هو العامل الرئيس في مقدرتنا على استقبالها,وهذا يتعارض تماما مع نظرية الامتداد التي تفترض أن الفكر قادر على استيعاب ما يقع خارجه. للأسف هذا يعد محل جدل,لأنها مسألة لا يمكن استنباط حل لها منطقيا أو رياضيا. كما أن القيود الأخلاقية على التجارب (الأطفال والمجانين نموذجا) تمنعنا عن أي محاولة حقيقية لرصد حدوث المعرفة في الوعي البشري. ولكن يظل لدينا نذر يسير من الحلول لأن المعرف حدث معايش غير مفارق لنا,وأي جلسة تأملية مع الذات من الممكن أن تخرج لنا بحلول تنبثق عن عقول عبقرية.

كما أن هذه المعضلة تحديدا لا تقف حاجزا أمام الاستفادة من المعرفة,وتوسيعها,من منطلق أننا نعرف طبيعتها أو جزء من طبيعتها. فالمعرفة هي كما عرفناها من قبل وشرحنا سبب اختيارنا لهذا التعريف. كوننا غير قادرين على معرفة متى تحدث المعرفة,لا يعني أنها لا تحدث. بل هي تحدث,وباستمرار,فالعقل يستوعب عدد هائل من المعطيات يوميا,وهو لا يتوقف عن معالجتها في كل لحظة,لإنتاج مزيد من المعرفة (مثل معرفة كيف نطهي الدجاجة أو كيف نأكلها). أو مثل قدرتنا على الجمع والطرح والعد,هذه الدجاجة,أو دجاجتين. هذه القدرة على الحساب والاستيعاب ينتج عنها حقيقة أن (1+1=2). إن صلتنا بالأشياء الخارجية (وهذا يسمى الإدراك أو الامتداد) لا ينفك عن التطور من أجل تصميم نظام رياضي رصين يحاكي العالم الحقيقي في وعينا,بما لا يترك مجالا للخلط بين الشيء في ذاته,والشيء في وعينا (متصلا بذاتنا). فإن دجاجة مع دجاجة أخرى تساوي دجاتين,مثلما أن برتقالة زائد برتقالة تساوي برتقالتين. بغض النظر عن وجودها خارج الوعي أو داخله!.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى