خالد جهاد - نبش الذاكرة الأردنية

لا يستطيع أن يفهم طبيعة العلاقة بين بلدين كالأردن وفلسطين سوى شخص قريب من بيئة هذين البلدين أو أبنائهما أو شخص عاش على أرضهما، وهما بعيداً عن كل الكلمات والعبارات العاطفية شعبٌ واحد في بلدين يتكاملان مع محيطهما في لبنان وسوريا والعراق بشكلٍ خاص وبقية الدول العربية بشكلٍ عام، لذا عند الحديث عن أحدهما يتبادر الآخر إلى الأذهان وكأنهما توأم ملتصق أو أشبه برئتين لكيانٍ واحد، حيث لعبت الكثير من العوامل دوراً مهماً في جعل الأردن همزة وصل في محيطه وملتقىً للأشقاء الذين زينوه بوجودهم وأصبحوا جزءًا منه ومن تاريخه وثقافته وحاضره وجماله ليس فقط في السنوات الأخيرة بل منذ زمنٍ بعيد، ولذلك كانت للتجربة الأردنية نكهة خاصة ومميزة عربياً، حيث كانت مقراً لتصوير وإعداد الكثير من الأعمال الفنية المشتركة كما ذكرت في مقالاتٍ سابقة..

واليوم عندما نطالع الإعلام الأردني بدءاً من التليفزيون الرسمي الذي كان له بصمةٌ متفردة، مروراً بالقنوات الخاصة تحديداً نشعر بالأسى على ما آل إليه حال هذه المنارة التي باتت مثل منزلٍ مهجور، وأصبحنا نرى محتوىً يغلب الخواء على معظمه إلى جانب كم هائل من الإعلانات، وهذا أحد أسباب الإنتكاسة على مختلف الأصعدة في كل بلاد العالم وهو تحول الإعلام من منبر لنشر الثقافة والذوق والوعي والفكر إلى مجرد مساحة محجوزة للإعلانات والتسويق يتحكم فيها المعلن بصفته ممولاً في المضمون الذي تغلب عليه التفاهة والسطحية، ويتم استبدال قامات ووجوه إعلامية مخضرمة وشابة ليحل محلها وجوه أفرزها الإنحدار القادم من مواقع التواصل الإجتماعي من الذين يحققون بما يقدمونه من رداءة مئات الملايين من المشاهدات والمتابعين، ويتم استضافتهم بإستمرار وتكتب لهم مقدمات لم تكتب لأهم وأعظم الأيقونات في تاريخنا طمعاً في استقطاب (شريحة واسعة من الجماهير)، وهو ما يحدث بالتزامن مع التغييب والتهميش المتعمد لكل الأسماء التي قدمت عطاءاً كبيراً للأردن وهي بحق من ساهم في صناعة الفن الأردني والفلسطيني وأوصلها للعالم العربي عبر مكتبة ضخمة تضم أرشيفاً متنوعاً نتسائل اليوم عن وجوده، كما نتسائل عن سبب عدم إذاعته وتخصيص قناة واحدة على الأقل لعرض محتواه الثري، فعلى سبيل المثال نعرف أن الفنانة اللبنانية الكبيرة سميرة توفيق المعروفة بسمراء البادية والتي تحتل مكانة مرموقة في الوجدان الشعبي الأردني قامت بتسجيل عدد هائل من الأغنيات التراثية بصوتها في الإذاعة الأردنية وقامت وحدها بتسجيل تراث مناطق كاملة في الأردن فأين هذه التسجيلات وغيرها اليوم؟ وأين الأعمال التي قدمها الجيل المؤسس للإذاعة والتلفزيون الأردني منذ منتصف القرن الماضي؟ ولماذا لا يعاد عرض البرامج التلفزيونية التي حققت للكوادر الأردنية شهرة واسعة في العالم العربي وجعلت مؤسسات كاملة خارج الأردن تقوم على أكتافهم ؟ لماذا لا يتم توثيق تجربة الدبلجة الأردنية الفريدة والإحتفاء بها ؟ لماذا لا يتعلم من يطلون اليوم عبر الشاشة من تاريخ من سبقوهم طريقة التعامل مع الكاميرا والجمهور وأصول إعداد وتقديم برامجهم؟ ولماذا لا يتم الإنتباه للإلقاء ومخارج الحروف وطريقة إخراج البرامج وتغطية المناسبات والتحضير لها ؟ ولماذا لا نستضيف عبر الشاشات كل الوجوه الفنية والثقافية والأدبية والفكرية الأردنية ونقوم بتكريمهم؟

هل يصح أن نستضيف أشخاص لا نعرف حقاً ماذا يفعلون ونتجاهل من قدموا تاريخاً عظيماً يجب أن يتم حفظه وأرشفته ورعايته في الوقت الذي يمكننا الإستفادة منهم ومن تجربتهم وهم بيننا، فمكانة الإذاعة والتلفزيون الأردني وجميع من أطلوا من خلاله لا تقتصر على حدود الأردن بل شملت فلسطين حيث احتضنت وحمت الكثير من الأرشيف الفلسطيني من الضياع والإندثار والسرقة من قبل الإحتلال الصهيوني، كما كانت بمثابة جسر بين الدول العربية في كثير من الأوقات الصعبة التي عاشها العالم العربي..

الأردن بلد يمتلك الكثير من المقومات التي تميزه والكثير من المساحات التي لم تستهلك والطاقات التي لم توظف بشكل صحيح وآن أوان النهوض من هذه الكبوة التي طالت لنعوض الكثير مما فاتنا، ولنصحح مسار العديد من الفعاليات الثقافية التي كان يمكن أن تخرج بشكلٍ رائع دون تكلفة إضافية عبر تنظيم أفضل واختيار الكوادر المناسبة والإستعانة بخبرة الأسماء المخضرمة صاحبة التجربة الطويلة في هذا المضمار، وهو ما سينعكس إيجاباً على صورة الفنون والثقافة في الأردن ويمكن أن يجعله في مكانٍ شديد التميز لإمتلاكه ما لا يشبه أحداً ويفوق كل التوقعات، وهنا لا بد من العودة إلى الإقتداء بجماليات واحترافية الماضي إذا أردنا أن نمضي قدماً نحو الأمام، خاصةً وأن هذا البلد يحمل تنوعاً يفوق ما يعرفه الناس عنه بكثير واستطاع أن يصنع هويةً تستوعب في أحضانها الإرث الفلسطيني وتتكامل معه ومع العديد من الثقافات التي شكلت لوحةً فسيفسائية ذات مكانة مرموقة بين الأمم..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى