بحلول الثالثة أو الرابعة فجرا، تتوقف عقارب الساعات لأربعين دقيقة وربما لساعة كاملة، إلى أن تبدأ الميكروفونات في زعيقها المعهود بأذان الفجر والدعاء، وأحيانا بصلاة الفجر كاملة، حسب اجتهاد إمام المسجد، وتتداخل أصوات الخبط والرزع لأبواب المقاهي والمطاعم التي يتسابق أصحابها في رص الكراسي ورش المياه أمامها، وتفوح روائح الكيروسين والغاز. يعلو تدريجيا نباح الكلاب، وتبدأ القطط بالتثاؤب في كسل وكأنها كانت منذ قليل ترقد على ريش نعام تحت عربات الكارو أو بداخلها أو في حنايا وثنايا الجدران الملاصقة لهذا المطعم أو ذاك المقهى.
القاهرة مدينة لا تنام حسب السياح المحللين والأجانب. أهلها فقط هم الذين لا يعرفون أنهم لا ينامون. فقط تلك الساعة أو الأربعين دقيقة هي فترة امتداد الأحلام أو الكوابيس، حيث يخيم الهدوء تماما على تلك المدينة التي تبدو في هذه اللحظات القليلة أنظف وأهدأ وأجمل مدينة في العالم. قد يتردد صوت أحد السكارى في بارات وسط البلد أو الزمالك أو المعادي أو المهندسين أو مصر الجديدة، وقد ينبح كلب. ولكن ذلك لا يعكر صفو الصمت ولا صوته الرائق المنساب مثل مياه النيل في هذه اللحظات.
هذه الصورة الخادعة قد تمر على الغرباء، ولكن أهل القاهرة أدرى بشعابها: يعرفون جيدا مداخلها ومخارجها، ويلتقطون من أول نظرة نوع الكيف الذي تناوله هذا المواطن أو ذاك. أصوات السكارى القليلين لا تفسد الهدوء والصمت، وإنما تستدعي بعض الدهشة أو الابتسام أو السخرية. وأحيانا تستدعي بعض اللعنات من مواطنين يتسابقون بنشاط وحيوية إلى المساجد لصلاة الفجر. السكارى قليلون للغاية في هذه المدينة التي تضم العديد من البارات متعددة المستويات والأشكال والأحجام. البارات أيضا قليلة مقارنة بعدد سكانها الضخم، لأن الكيف الرئيسي للمصريين عموما، ولسكان القاهرة على وجه الخصوص، هو المخدرات، وعلى رأسها الحشيش والبانجو. هناك أنواع أخرى من المخدرات، ولكنها تعتمد على القوة الشرائية للمواطنين وعلى انتماءاتهم الاجتماعية وثقافتهم وفئاتهم العمرية.
الحشاشون لا يصنعون أي نوع من أنواع الضجيج، ولا يعكرون صفو الصمت. بل يتماهون تماما مع الهدوء والسكينة ويذوبون في هذا الصمت بمقدار ما دخنوه طوال الليل وحسب جودة الصنف. لا مانع لديهم إطلاقا من المشاركة في فعاليات الصباح الباكر، ومن ضمنها صلاة الفجر، أو التوجه إلى حلقات الذكر إن كانت بالصدفة في مولد السيدة زينب أو السيدة نفيسة أو سيدنا الحسين. القاهري الأريب يستطيع أن يفرِّق جيدا بين هدوء الحشاشين وهم يقفون على عربات الفول والبليلة والكسكسي أو الجالسين على المقاهي وبين العمال والموظفين حول نفس عربات الفول والكسكسي والبليلة وهم في طريقهم إلى أعمالهم.
ساعة أو أربعين دقيقة تقطع خط الحياة العشوائي في تلك المدينة بأحيائها الشعبية والفخمة والعشوائية. لا مجال هنا للحديث عن أحلام وكوابيس أهل المدينة، لأن ذلك يتعلَّق بأمور كثيرة، منها فترة النوم، ودرجة الهدوء، والمنطقة السكنية، ونوع العمل والوظيفة، والوضع الاجتماعي، وعدد الأطفال في الأسرة، وعلاقة الزوجين ببعضهما البعض، ونوعية السكن. هناك من يحلم بدون نوم، وهناك من يفضل مشاهدة الكوابيس الموجودة في الواقع أمامه مباشرة بدلا من أن يغلق عينيه للوقوع في كوابيس غير متوقعة.
حركتها بطيئة للغاية. تبدو كسلا في بعض الأحيان، وتبدو تعبا وإرهاقا في أحيان أخرى. لا أحد يعرف إلى الآن، هل السبب يكمن في أنها هي نفسها أصبحت عجوزا شائخة، أم أنها متعبة ومنهكة؟ أم أن حركة سكانها هي السبب في كل هذا، حيث يتعجلون عندما لا يوجد أي داع لذلك، ويتباطأون عندما تكون هناك ضرورة للإسراع. كل الناس تقريبا متعبون ومنهكون، يعوقون بعضهم البعض، في حركة السير على الأقدام أو بالمواصلات العامة والخاصة، وبداخلها أيضا. يتكلمون كثيرا بدون أي داع. قد يستغرق أحدهم نصف ساعة من الكلام والرغي قبل أن ينقل إليك ما يقصده. وكثيرا ما ينقل إليك عكس ما كان يريد.
مشاهد المراحيض العامة أو مراحيض المراكز التجارية والمحلات الكبرى، تكشف عن تلك العجلة الغريبة، عندما يركض المواطن وقد بدأ في فك أزرار بنطاله قبل دخول الحمام بعدة أمتار، وبعد قليل تجده يركض خارجا وهو يزرر بنطاله، وكأن العالم لن يستطيع الانتطار لعدة ثوان يزرر فيها المواطن بنطاله في داخل المراحيض. على الجانب الآخر، تجد حركة النساء بطيئة، حسب العمر، والوزن، وطرازات الملابس. النساء فوق الخامسة والثلاثين أو الأربعين تجدهن يتحركن في بطء وكأنهن يحملن أمراض العالم فوق أكتافهن، أما الفتيات والصبايا فهن يتحركن وفقا للمشهد العام. فهذه تتلكأ عابرة الشارع الملئ بالسيارات العشوائية المجنونة التي يقودها إما مجانين أو مساطيل أو من نوعية مواطني المراحيض العامة، تتلكأ بطريقة مثيرة، وكأنها تطالب سكان المجرة من التأكد بأن أمورها جيدة وعلى ما يرام وأن كل شئ لديها في مكانه. وتلك الأخرى التي تنظر مباشرة في عيون سائقي السيارات ورموشها تتساقط كخيوط العسل. وثالثة تنظر في تعال إلى الفراغ وهي تعبر الطريق، واللعنات المختلطة بالسباب والكلمات الحلوة تنطلق ليس فقط من أفواه سائقي الميكروباصات، بل ومن الواقفين في كسل على جانبي الطريق أيضا.
القاهرة مدينة لا تنام حسب السياح المحللين والأجانب. أهلها فقط هم الذين لا يعرفون أنهم لا ينامون. فقط تلك الساعة أو الأربعين دقيقة هي فترة امتداد الأحلام أو الكوابيس، حيث يخيم الهدوء تماما على تلك المدينة التي تبدو في هذه اللحظات القليلة أنظف وأهدأ وأجمل مدينة في العالم. قد يتردد صوت أحد السكارى في بارات وسط البلد أو الزمالك أو المعادي أو المهندسين أو مصر الجديدة، وقد ينبح كلب. ولكن ذلك لا يعكر صفو الصمت ولا صوته الرائق المنساب مثل مياه النيل في هذه اللحظات.
هذه الصورة الخادعة قد تمر على الغرباء، ولكن أهل القاهرة أدرى بشعابها: يعرفون جيدا مداخلها ومخارجها، ويلتقطون من أول نظرة نوع الكيف الذي تناوله هذا المواطن أو ذاك. أصوات السكارى القليلين لا تفسد الهدوء والصمت، وإنما تستدعي بعض الدهشة أو الابتسام أو السخرية. وأحيانا تستدعي بعض اللعنات من مواطنين يتسابقون بنشاط وحيوية إلى المساجد لصلاة الفجر. السكارى قليلون للغاية في هذه المدينة التي تضم العديد من البارات متعددة المستويات والأشكال والأحجام. البارات أيضا قليلة مقارنة بعدد سكانها الضخم، لأن الكيف الرئيسي للمصريين عموما، ولسكان القاهرة على وجه الخصوص، هو المخدرات، وعلى رأسها الحشيش والبانجو. هناك أنواع أخرى من المخدرات، ولكنها تعتمد على القوة الشرائية للمواطنين وعلى انتماءاتهم الاجتماعية وثقافتهم وفئاتهم العمرية.
الحشاشون لا يصنعون أي نوع من أنواع الضجيج، ولا يعكرون صفو الصمت. بل يتماهون تماما مع الهدوء والسكينة ويذوبون في هذا الصمت بمقدار ما دخنوه طوال الليل وحسب جودة الصنف. لا مانع لديهم إطلاقا من المشاركة في فعاليات الصباح الباكر، ومن ضمنها صلاة الفجر، أو التوجه إلى حلقات الذكر إن كانت بالصدفة في مولد السيدة زينب أو السيدة نفيسة أو سيدنا الحسين. القاهري الأريب يستطيع أن يفرِّق جيدا بين هدوء الحشاشين وهم يقفون على عربات الفول والبليلة والكسكسي أو الجالسين على المقاهي وبين العمال والموظفين حول نفس عربات الفول والكسكسي والبليلة وهم في طريقهم إلى أعمالهم.
ساعة أو أربعين دقيقة تقطع خط الحياة العشوائي في تلك المدينة بأحيائها الشعبية والفخمة والعشوائية. لا مجال هنا للحديث عن أحلام وكوابيس أهل المدينة، لأن ذلك يتعلَّق بأمور كثيرة، منها فترة النوم، ودرجة الهدوء، والمنطقة السكنية، ونوع العمل والوظيفة، والوضع الاجتماعي، وعدد الأطفال في الأسرة، وعلاقة الزوجين ببعضهما البعض، ونوعية السكن. هناك من يحلم بدون نوم، وهناك من يفضل مشاهدة الكوابيس الموجودة في الواقع أمامه مباشرة بدلا من أن يغلق عينيه للوقوع في كوابيس غير متوقعة.
حركتها بطيئة للغاية. تبدو كسلا في بعض الأحيان، وتبدو تعبا وإرهاقا في أحيان أخرى. لا أحد يعرف إلى الآن، هل السبب يكمن في أنها هي نفسها أصبحت عجوزا شائخة، أم أنها متعبة ومنهكة؟ أم أن حركة سكانها هي السبب في كل هذا، حيث يتعجلون عندما لا يوجد أي داع لذلك، ويتباطأون عندما تكون هناك ضرورة للإسراع. كل الناس تقريبا متعبون ومنهكون، يعوقون بعضهم البعض، في حركة السير على الأقدام أو بالمواصلات العامة والخاصة، وبداخلها أيضا. يتكلمون كثيرا بدون أي داع. قد يستغرق أحدهم نصف ساعة من الكلام والرغي قبل أن ينقل إليك ما يقصده. وكثيرا ما ينقل إليك عكس ما كان يريد.
مشاهد المراحيض العامة أو مراحيض المراكز التجارية والمحلات الكبرى، تكشف عن تلك العجلة الغريبة، عندما يركض المواطن وقد بدأ في فك أزرار بنطاله قبل دخول الحمام بعدة أمتار، وبعد قليل تجده يركض خارجا وهو يزرر بنطاله، وكأن العالم لن يستطيع الانتطار لعدة ثوان يزرر فيها المواطن بنطاله في داخل المراحيض. على الجانب الآخر، تجد حركة النساء بطيئة، حسب العمر، والوزن، وطرازات الملابس. النساء فوق الخامسة والثلاثين أو الأربعين تجدهن يتحركن في بطء وكأنهن يحملن أمراض العالم فوق أكتافهن، أما الفتيات والصبايا فهن يتحركن وفقا للمشهد العام. فهذه تتلكأ عابرة الشارع الملئ بالسيارات العشوائية المجنونة التي يقودها إما مجانين أو مساطيل أو من نوعية مواطني المراحيض العامة، تتلكأ بطريقة مثيرة، وكأنها تطالب سكان المجرة من التأكد بأن أمورها جيدة وعلى ما يرام وأن كل شئ لديها في مكانه. وتلك الأخرى التي تنظر مباشرة في عيون سائقي السيارات ورموشها تتساقط كخيوط العسل. وثالثة تنظر في تعال إلى الفراغ وهي تعبر الطريق، واللعنات المختلطة بالسباب والكلمات الحلوة تنطلق ليس فقط من أفواه سائقي الميكروباصات، بل ومن الواقفين في كسل على جانبي الطريق أيضا.