محمد جليد - وقت مستقطع من الحرب (18): هل للحرب حقيقة في الأدب؟.. إعداد: سعيد منتسب

هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..



الحرب هي الخطيئة الأصل والجريمة الأولى على الأرض. وظلت كذلك منذ قتل قابيل أخاه هابيل. منذ فجر التاريخ ذاك، سارت البشرية على خطاه، تزهق الأرواح دونما ارتباك أو تردد. تجتهد في تطوير الأسلحة وابتكار طرق التنكيل والإفناء. لو تأملتَ التاريخ، لألفيته سيرورة كر وفر وقعقعة سيوف ولعلعة رصاص وهدير مدافع وشظايا وانفجارات وقتلى وجرحى، سيرورة لا تهدأ إلا ليرمم المنهزمون ثاراتهم وصفوفهم ويُعِدّوا العدة والعتاد ويَعِدوا أنفسهم بنصر قريب. لا ينفتح قوس السلم إلا ليغلق مجددا، كأن الحرب قدر أبدي وأفق زمني لا تتحقق كينونة البشر إلا بوجوده.
ما كان للحرب أن تستمر هذه الآلاف من السنوات، وربما الملايين، وأن تصير مكونا أصيلا في الوجود الإنساني، لولا التباسها المراوغ ومخاتلتها المخادعة. ألم يلتبس الأمر على قابيل بعد أن ارتكب جنايته؟ لو فهم الإنسان حقيقة هذا الالتباس وأدرك أسبابها، لوضعت الحرب أوزارها منذ عصور طويلة، وربما منذ أوحى الغراب لقابيل بدفن أخيه. تضاهي الحرب في مخاتلتها ومراوغتها- وهما إشكالها العويص- التباس السياسة وغموضها، إذ هما صنوان يرتديان الأقنعة ذاتها ويسعيان إلى الأهداف نفسها، وإن بوسائل مختلفة.
وعندما تشرع الحرب في التسلل إلى صفحات الكتب، تفعل ذلك بصورة محتشمة للغاية، إذ تدفن قبل ذلك الكثير من حقائقها في المقابر الجماعية وتحت الأنقاض الرهيبة والجثث المتعفنة والدماء المتجمدة… ماذا يبقى للأديب بعد أن يرحل الجنود؟ ماذا سيكتب عن مرارة الحرب، حتى لو كان جنديا مثل ‹إرنست همنغواي› أو ‹جورج أورويل›؟ ماذا سيبدع بعد أن يخترع القاتل صورة لقتيله، كما يقول الشاعر العراقي فاروق يوسف؟ لا يبقى له سوى كلمات وصورا تقتطع الواقع على المقاس أحيانا، وحكايات غارقة في النسيان وشذرات ذاكرة محا الخوف والرعب مساحات كبيرة منها.
تصيب الحرب الأدب بحيرة كبيرة- بسبب التباسها ومفارقاتها أساسا. يندهش الأديب من الحماسة والصخب البالغين للجنود الذاهبين إلى الحرب، لكن تصدمه نظراتهم الفارغة وصمتهم الرهيب حينما يعودون من ساحات الوغى. لماذا يكون النفير فعلا بطوليا مجيدا في البداية، ثم تتحول العودة- وحتى وإن كانت مظفرة- إلى مأتم عام؟ هل يستطيع الأديب أن يصف ما يعتمل في نفس جندي تساقطت أشلاء رفاقه على جبينه واندلقت دماؤهم على جسده؟ أظن أنه لن يتملك إلا صورة جزئية في هذه الحالة، لأن الواقع يبقى دائما أقوى من الخيال، ولأن هول الحرب أعظم من أي وصف.
ليس أمام الأديب، بعد أن تنتهي الحرب، إلا أن ينقل الجثث إلى بلدتها الأصل ويدفنها دفنا يليق بها، حتى وإن تعفنت، أو أن يخيطها ليصنع منها كائنا فرانكنشتاينيا. حتى وإن عاش يومياتها وأذهلته أهوالها، مثلما فعل ‹همنغواي› و›أورويل›، لن يكون بوسعه سوى وصف شظايا القذائف والغبار المتطاير وأنين الجرحى وآهات المستغيثين… ستتبدى له فجائع الأمهات الثكالى ونظرات الآباء التائهة ووجل الأطفال وصرخاتهم ووجوه اللاجئين الشاحبة… لكن هل يستطيع فعلا أن يعرض الحرب، بأجوائها وجبهاتها المشتعلة وأوضاع جنودها المتردية ومعنوياتهم المزرية؟ هل يستطيع أن يعرف ثمنها الباهظ بدقة؟
كل ما يستطيع الأدب أن يفعله، ما دام صيد حقيقة الحرب يعاند صوره واستعاراته، هو أن يعيد بناء وتركيب أحداثها لتقديم صورة عنها. بمقدور الأدب أن يتخيل ذلك الهندي الأحمر الأول الذي خر صريعا برصاصة ‹كريستوف كولومبوس›، أو تلك الجموع من الأفارقة المكبلين بالسلاسل والمحشورين في بطون سفن متعفنة اتجهت بهم نحو عبودية مقيتة وسط ضيعات رعاة البقر، أو تلك المرأة التي انسحقت تحت سلاسل دبابة في الحرب العالمية الأولى، أو ذلك المقاوم الأعزل في جبال الأطلس الذي أشهر صدره عاريا أمام رشاشات جيش عرمرم بعد أن نفدت رصاصاته، أو ذلك الطفل المرح على شاطئ غزة الذي مزقه جيش الاحتلال بصاروخ…
كما يستطيع أن يروي قصص حب جميلة، جرت بعض فصولها وسط الخرائب أو في مستودعات الأسلحة أو داخل المستشفيات… ذاك ما فعله ‹همنغواي› في رائعته ‹وداعا للسلاح، و›جنكيز إيتماتوف› في روايته القصيرة ‹جميلة›. في الرواية الأولى، يغرم الملازم الأمريكي ‹فريدريك هنري› بالشابة الجميلة ‹كاثرين باركلي› التي تعمل ممرضة في مستشفى ميداني إيطالي. وفي الثانية، تعيش جميلة قصة حب جارف مع ‹دانيار›، الجندي العائد إلى القرية بعد أن أصيب في المعركة. فتهرب معه قبل عودة زوجها من جبهة القتال.
لا يملك الأدب إلا الخيال. أما الحقيقة، فتغيب تفاصيلها بين جثث الضحايا، كما تقول ‹سفيتلانا أليكسييفيتش›. تلك تستعصي حتى على قضاة التحقيق الذين ‹يتقصون› كل شيء.

الكاتب : إعداد: سعيد منتسب


بتاريخ : 22/04/2022



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى