د. علي زين العابدين الحسيني - ربيع الرملاوي شيخ علماء سمنود لقد ذكرتكَ!

إلى أستاذي الأديب والعلامة اللغوي ربيع بن أحمد الرملاوي في عالمه الرحيب:

أتذكر تلك الساعة المباركة التي كنت أصادفه فيها في إحدى طرقات مدينة "سمنود" العامرة، يسير مهرولًا وسط الزحام، ضائعاً بين الباعة وزائري هذه المدينة لغرض التسوق، محنى الهامة، لا يلتفت كثيراً، منشغلًا بالذكر وقراءة الأوراد، لا يستلفت نظر العابر منه شيء لشدة تواضعه وانشغاله بأمر نفسه؛ رغم أنه "المأذون الشرعي" لتلك المدينة، أو في بعض الأحايين أعثر عليه رابضاً في بيته العتيق الذي يشبه بيوت العُمَد مع شيخه الإمام المحقق إبراهيم بن شحاثة السمنودي في جلسته الأسبوعية يوم الأربعاء قبل المقرأة القرآنية بمسجد "سيدي عبد الله" بسمنود؛ يتطارحان النكت العلمية والفوائد اللغوية، فألقاه في صورة قوية يلقي على مسامعنا في تلك الجلسات بصوته الرصين القصيدة تلو القصيدة، وشيخنا السمنودي في أنس وسعادة، وكأنّ المرض لم ينزل به يوماً.
تدور علينا أثناء تلك الجلسة "فناجين القهوة" التي أدمنتها منذ هذا الوقت، كان الجميع يستمع إلى أحاديثه المختلفة بإصغاء تام خصوصاً وهو يشرح لنا بعض الشواهد النحوية بأسلوبه الشائق الجميل الذي نمّاه عمله في الوعظ والإرشاد، كنت في أثناء حديثه الممتع أطيل النظر إلى كتبه الموجودة في تلك الغرفة.
عجبت لحال الرجل كيف يتأتى لهذا الشخص الوديع الذي لا تلمحه في الشارع إلا مستكيناً أن يبلغ منزلة رفيعة عند إمام الوقت وحجة الزمان إبراهيم السمنودي، وأن يلقي على مسامعنا تلك الفرائد العلمية في شتى الفنون، ويرسل الطرائف العجيبة في ساعات الملل!
العارف بالله سيدي ربيع بن أحمد الرملاوي الأزهري الشافعي: تلك الشخصية الصوفية النقية التي عرفناها واتصلنا بها، واستفدنا منها في مجلسها الأسبوعيّ، هي من أحب الشخصيات إلى قلب شيخنا الإمام السمنودي، فلا يرد له طلب عنده، كان -رحمه الله عز وجل- على جانب كبير من التقوى، كثير الاستغفار عقب كلّ صلاة، واسع العلم، شغوفاً بالفوائد والنوادر، لا تخلو مجالسه من العلماء والطلبة، حريصاً على المطالعة، جهوريّ الصوت، فصيح العبارة، طليق اللسان، خبيراً بشؤون الناس وعاداتهم، كريم السجايا، لين العريكة، حلو الحديث، يمتاز بملاحظاته الدقيقة، ويعبر عما في قرارة نفسه بصدق، ويتدفق حيوية وحياة، ويتسم بالإنسانية والبساطة، فيدخل بواسطتهما السعادة في قلوب جالسيه، ولأجل ذلك حظي بمكانة عظيمة عند الإمام السمنودي، فكان رأيه محل تقدير وعناية عنده، وقد لمع نجمه أيضاً في ميادين الحياة الاجتماعية بمدينة "سمنود".
يرى أستاذنا المرحوم الرملاويّ أن أسعد أوقاته تلك الساعة التي يقضيها مع شيخنا السمنودي في تحقيق مسألة أو قراءة كتاب أو استماع إلى صوت أئمة القرّاء الكبار؛ كمحمد رفعت، ومصطفى إسماعيل، والمنشاوي، والحصري، لقد أمضيتُ معهما كثيراً من الجلسات التي كانت تدور في أثنائها أحاديث كثيرة حول مشاهير القرّاء، وما يتردد عنهم من قصص وحكايات، وأما إذا تحدث عن شيخه السمنودي وجهوده في خدمة علم التجويد والقراءات فهو أبرع ما يكون وأحلى.
لعلّ صورة هذا الرجل الأديب الفقيه تدور في ذهني من حين لحين، مصحوبة بكثير من الندم وأوجه التقصير، فقد فاتني منذ عرفته أن أكتب له ترجمة واسعة تليق بمقامه الشريف، أبرز من خلالها ذلك الوجدان الرباني المستور بين جنبيه.
في أول لقاء به أثرت شخصيته فيّ كثيراً، وجدته يبتسم في وجهي دون أن يعرفني، وبعد أن قدم لي التحيات التقليدية المصحوبة بكل حب واحترام وتقدير أضاف بمهابة: "لقد فزتَ بمعرفة إمامنا السمنودي".
يحكي لي أنّه التحق بمعهد "سمنود" الأزهري منذ صغره، وأنّ والده كان خير معين له في طلب العلوم، فأورثه منذ صغره حب العلماء وزيارة الأولياء والتقرب من الصالحين، وحبَّبه في المطالعة ومذاكرة دروسه وحفظ المتون المتداولة في التدريس، ثم هذّب أساتذته في المعهد الديني ذلك الحب فيه وزادوه همة وعلواً، ووجد من مساندة مشايخه ما دفعه إلى أن يصل، وقد كان المعهد السمنوديّ إذ ذاك يزخر بأكابر العلماء في شتى الفنون، وهو ما حكاه لي غير واحد من المتخرجين منه، والحق يقال: إنّه جيل جاد منصرف إلى التحصيل والمعالي.
أهله علمه ومؤهله الدراسي وإخلاصه وفصاحة لسانه وقوة حجته لأن يرتقي في المناصب بالأزهر الشريف إلى أن وصل إلى درجة "مدير وعظ" به، وقد رأيته ذات يوم يعظ الناس بإحدى مساجد المدينة فإذا به يخاطب وجدانهم، ويتعمق ذواتهم، ويتحسس مواطن البر في قلوبهم، ويركز في خطابه على مكامن الخير في نفس المخطئ وطبعه، فكانت كلماته النيرة تكشف عما يتمتع به من قدرة فائقة على الإبانة، وحضور البديهة، وسرعة الخاطر، واستظهار كثير من الأدلة والأبيات الشعرية، وتبعث على الإعجاب بشخصيته، زيادة على الهدوء والاتزان في عباراته، وشدّ الانتباه بنضارة وجهه وصفاء قلبه.
قلتُ عنه: إنّه الأديب الفقيه والعلامة اللغوي ولا غرو في ذلك، فقد درس العلوم الشرعية واللغوية بالأزهر الشريف دراسة الفاحص الخبير والمتخصص المشارك في غالب الفنون، وكانت أحاديثه مع شيخنا السمنودي في شتى التخصصات تشهد بشيء من ذلك، إلى جانب براعته في التحدث والارتجال والإنشاء براعة لم يدانه فيها أحد من أقرانه، وكانت نفسه -كما عرفته- تتوق دائماً إلى مطالعة الكتب اللغوية والأدبية وفي مقدمتها المعاجم اللغوية والدواوين الشعرية والمتون والشروح والحواشي الأزهرية القديمة، وقد قرأ منذ صغره الكثير من دواوين الشعراء المتقدمين؛ كالمتنبي والمعري وأبي نواس، وحفظ الكثير من قصائدها، فكان الاستشهاد الشعري حاضراً معه في كلّ المناسبات، فارتقى طبعه ولسانه، وبدت حياته متأثرة باللسان العربي وطبائع العرب ومروءتهم.
ومما يدعو إلى الإعجاب جهوده المتواصلة المكللة بالنجاح في سبيل إتاحة الفرصة لصغار الطلبة للقراءة على شيخه إبراهيم بن شحاثة السمنودي، وهذه القراءة تتنوع بين قراءة منظومات الشيخ المتعددة وقراءة بعض سور القرآن؛ بغية طلب الإجازة لمن يستحقها، في وقت كان يتفاخر الجميع برؤية السمنودي، فكان منتهى أمل كلّ زائر أن يصل إلى بيت شيخنا الإمام السمنودي؛ ليقبل يديه ويعرفه باسمه وبلده، فضلًا عن أن يكون قد أتاح له الزمن فرصة القراءة عليه، وقد عاصرتُ بنفسي بعض الطلبة الذين كانوا يأتون من أماكن بعيدة من مصر وخارجها، فلا يجدون لهم شفيعاً إلا تلميذه الرملاوي، وهو بدوره يحاول ألّا يجعل بين السمنودي وبين طلابه حجاباً.
وإنّي أستطيع أن أقول في ثقة: إنّ هذا الرجل من أحب طلاب شيخنا السمنودي وأقربهم إليه، ومجلسه من أحب المجالس إليه، وقد كتبت من قبل في كتابي "حديث الأموات" ص17 عن هذا المجلس النوراني فقلت: "كان لشيخنا مـجلسٌ أسبوعيٌّ خاصٌّ يجمعه مع تلميذه وصديقه مولانا ربيــع الرمــلاوي، يكون يــوم الأربعاء قــبل الـذهـاب إلى درس "الـمقــرأة "فكنت أحضر هذا المجلس مع شيخنا، وأكون ثالثهم وأتشرَّف بخدمتهم.
عادة ما يكون الحديث في المجلس في مواضيع شتى، أغلبها ذكرياته عن العلماء والمشايخ القُرَّاء بالقاهرة، فكتبتُ عنهما في هذا المجلس الكثير من المعلومات النادرة، ولم أكن أُضيِّع فرصة الاستمتاع بهذه الأبوَّة المبذولة طوعًا من جانب العالمين الجليلين السمنُّودي والرملاويّ، حتى بعد وفاة شيخنا السمنُّودي كان بيت أستاذنا الرملاوي مفتوحًا وقلبه يتسع للجميع. إنّ السمنُّوديّ والرملاويّ عالمان جليلان خليقٌ بي أن أتحدث بأفضالهما عليَّ، مهما ترادفت السُّنون، وتراخت أيام العمر". اهــــ
وهكذا كان الرملاوي في بيته مع السمنودي وبعض طلابه نشيطاً في أداء واجب الضيافة، فريداً في إخراج تلك الكنوز المدفونة من السمنودي مع تقدم سنه، رائداً في عمق الحديث عن القراء الكبار وسرد قصصهم، وكانت هذه الصفات عناصر رئيسة في حرص السمنودي على حضور مجلسه، وبقاء اسم "الرملاوي" متردداً على الألسن كأكبر أصدقاء وطلاب شيخنا، حتى إذا غاب عن الأنظار شيخنا السمنودي وأرادوه في أمر ما فسرعان ما تتوجه الأنفس إلى بيت الرملاوي، فليس في "سمنود" شخص يحرص السمنودي على مجالسته والقرب منه كالرملاوي.
وإذا أضفنا إلى هذا كلّه أنّ مفتاح نجاح العلاقة بيني وبين الشيخ السمنودي هو ما أخبرني به تلميذُه الكبير النجيب الأديب واللغوي مولانا ربيع الرملاوي من أنَّ الشيخ كان يـُلقي كثيرًا من الأبيات الشعرية الارتجالية في مناسبات عديدة، فإن استطعتُ أن أجمعها من أفواه عارفيها، وأعيدها على سمع الإمام السمنُّودي فسيفرح كثيرًا لأدركنا حينئذٍ أنّه جدير مني بأن أذكر صنيعه بالعرفان الجميل، وأن أذكر أنه كان آخر البقية الباقية من علماء هذا البلد، وقد أخذت بوصيته فصرت أجمع هذه الأبيات من طلاّبه؛ إلى أن تجمَّع منها شيء عزيز، وقرأتها على شيخنا؛ فكان سعيدًا غاية السعادة، وكدت أطير فرحاً بذلك.
انقطعتُ عن أستاذنا المرحوم الرملاوي فترة طويلة، ثم تأتي لي فرصة اللقاء به في بيته بعد سنوات، أخذ يرحب بي كعادته، وأجلسني على مقعد إلى جواره وسط بيته، وأخذت بعد عبارات التحية وإظهار بعض فضائله أتحدث معه عن ذكرياته مع العلماء والشيخ السمنودي على وجه الخصوص، ثم استأذنت في الانصراف سريعاً، لأني شعرت بالحسرة تسيطر عليّ، خرجت من عنده تتنازعني أحاسيس شتى، فقد تألمت أن أراه على هذه الصورة، في مرضه وضعفه وتغير أحواله، ولأني صحبته لسنوات في كامل صحته ونشاطه فقد كدت ألا أعرفه، كان صوته يرتعش عندما يتكلم، يحاول أن يتذكر بعض المواقف بصعوبة، ويعتذر كثيراً عن عدم قدرته على توديعنا عند الباب بسبب ظروفه الصحية.
أجل، لم ينس في تلك اللحظات السريعة شيخه وصديقه السمنودي، فقال لي بصوت خاشع حين ذكرته بإمامنا السمنوديّ: "إنّه الأستاذ والصديق الذي فقدتُ مجالسه العامرة بالقرآن والعلم والذكر، والذي لن أعوضه أبد الدهر".
حببت إليه في أواخر حياته العزلة والبعد عن الناس، أحسست بعد موت صديقه وشيخه السمنوديّ أنه لم يعد يبهره بهرج المجالس ولا حضور المناسبات العامة، لم أستطع أن أزوره كثيراً، لا رغبة مني في عدم الزيارة، فإنّ بي لزيارة الصالحين لهوى مُلحاً، فهم سب من أسباب تحصيل السكينة والراحة، وإنما لأني كرهت أن أراه على هذه الحال المبتعدة عن النشاط المجتمعي، وكانت ذاكرته الحية التي عرفتها في تعب شديد وإرهاق كثير، على أني كنت في أيام كثيرة أمرّ على بيته فأنظر إلى تلك الدار التي حوتنا، وتلك المجالس التي زادتنا بهجة وسروراً، ولا أجد إلا الأسى الذي لا يستطيع لسانٌ أن يعبر عنه، فكل كلمات الحزن تفقد معناها في هذا الوقت.
انتقل المرحوم الشيخ ربيع أحمد الرملاوي إلى جوار ربه في شهر صفر عام 1437 بعد جهد جاهد في الوعظ والإرشاد والتعليم والإفادة، وقد تردد منعاه في مدينته والقرى المجاورة، وحزن الناس على فقده، وطويت صفحة من صفحات النبوغ العلمي في مدينة "سمنود"، وهكذا يكون فقد العلماء المجتهدين.
لن يمنعني ما كتبته أن أعلن عدم ارتياحي لما سطرته؛ لأن شخصيته في حاجة ماسة إلى ترجمة شاملة يتوقف فيها عند جميع مراحل حياته، ولعل ما ذكرناه من مواقف وانطباعات شخصية عن المرحوم تكون محفزة لغيري على دراسة أعمق من ذلك، وأرى كذلك أنّ من الواجب عليّ الاعتراف بالتقصير في حق المرحوم الجليل؛ لأني لم أقيد ترجمته منذ عرفته؛ معتمداً على ذاكرتي، وإذ بها وقت الحاجة خؤون، وحسبي أنّي حاولت.
سلامٌ سيدي على روحكَ الطاهرة!


د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب ازهري


مجلة النيل والفرات، العدد: ٤٠

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى