عبدالجليل الحافظ - بعث

وقف أمام ذلك الجدار العتيق يتأمل رسمه البديع واللوحة المرسومة بيد فنان بديع الصنعة، ذلك الفيل المرسوم بعناية وتفاصيل دقيقة وهو يرفع إحدى قدميه الأماميتين لتهوي على رأس رجل مكتف الأيدي مربوط الأرجل، وحشد من الناس حوله يشهدون الواقعة، وفي ظلال الرسومات هناك فتاة تتأمل المشهد بعين حزينة وكأن المحكوم عليه بالإعدام قريب لها، تتوالي الصور على ذلك الجدار لتكتمل القصة فما تلك اللوحة سوى النهاية لحبيبين التقيا يومًا على شاطئ نهر المدينة، تبادلا النظرات ومعها أودع كل شخص فيهما قلبه بين ضلوع الآخر أمانة غير مستردة، كان لقاؤهما دائمًا في هذه الحديقة الغناء على جانب النهر، شهد على عشقهما الأشجار والطيور التي كانت تنسج الألحان حينما يقدمان في حفلة استقبال للمحبة التي تنير الدروب... لكن ليست الأيام إلا حبائل تحيك مع الزمان ألاعيب الدنيا، فلم يكن حبهما في محل رضا آبائهما معًا، فالنظام الذي يعيشان فيه يحرم اقترابًا مثل اقترابهما بل أدنى من ذلك الاقتراب، حتى كانت تلك النتيجة الفجائعية.
وعلى جدارٍ آخر شاهد لوحة فارس محارب يخوض غمار الحرب لوحده وقد توالت مشاهد مقتل رفاقه على أيد فرسان الجيش الآخر، حتى بقي وحده لكنه لم يأبه لنداءات أعدائه بالاستسلام لينجو من الهلاك فقد عزّ عليه كبرياؤه أن يستسلم بعد أن قتل كل الرفاق فيوصم على مدى التاريخ بأنه الجبان الذي خان رفاقه وسلمهم للموت في حين آثر النجاة والحياة، حتى كان مشهد نحره على يد أعدائه...
وفي الجدار الثالث كانت هناك لوحة في غابة غناء يسيل في وسطها نهر من فضة يحف النهر أشجار عليها من الطيور الملونة من كل فصيلة ونوع، لكن الغريب في هذه الصورة أن لا أحد مع تلك الفتاة الجميلة التي بدت يدها وكأنها تمتد إلى الخارج لتدعوه إلى الدخول إلى اللوحة ليكمل مشهد الجمال فيها.
لبى النداء فدخل الجدار وارتسم ميتًا أمام حبيبته تحيط بهما الحيوانات حزينة بعد أن انغرس سهم جندي كان يلاحق الحبيبة خفية...