الأحجار الخالدة

قد تكون أجمل أمنيات البشر وأكثرها شاعريةً رغم استحالتها هي الخلود، وحين عرفوا أنها لن تتحقق تبدلت الأمنية إلى رغبةٍ في ترك أثرٍ يذكر بهم، ومن هنا خاض الإنسان حروبه وصراعاته بأسماء ٍ كثيرة وأثمانٍ كبيرة، فكتب ورسم وزرع وبنى كي يذكره الناس خوفاً من النسيان، كإعترافٍ ضمني بوفاء الحجر أكثر من أغلب البشر..

ورغم قسوة هذه الحقيقة إلا أنها صائبة، فلن تنساك دارٌ سمعت صرختك، وبابٌ ستر غربتك، وفراشٌ عانق وحدتك، وجدارٌ حمل صورتك، لن تخونك شجرةٌ سقيتها حنانك، أو مقعدٌ أصبح حضنه مكانك، أو نافذةٌ أصبحت رئتك الثالثة، لذلك لن يفهم الكثيرون أن تحمل في دمك رائحة زقاق وفي حنجرتك صوت مدينة، وأن يفتنك بيتٌ قديم أكثر من جسدٍ عارٍ، فتطرب لصدى الخطوات فيه وترقص على صرير أبوابه، باحثاً عن ذاتك بين جنباته، وعن ذكرياتك على عتباته..

لن يفهموا حبك لأرضٍ لم تطأها لكنك تتماهى معها فترتسم على ملامحك، وتتسرب من بين كلماتك وتلازمك كظلٍ حتى في جوف الليل، ولن يعرفوا أن للروح أجنحةً تهجر الأجساد ولا تعرف الحدود، كانت قبل ولادتنا وستبقى بعد رحيلنا، لا عمر لها سوى لحظة صدق هي ما يصنع الحب في زمن الإتجار به، تأتي متى اشتاقت وترحل متى توجعت، ووجعها يولد من رحم شوقها وشوقها مهلكٌ حد الوجع..هي أسيرةٌ للذكرى تكابر رغم الألم، تطوف بساحات فلسطين وبيوتها الحزينة، تضم زيتونها وتشم عطرها وتعرف أنها تضحك لها، ضحكةً تمنت حين رأتها أن لا ترى شيئاً بعدها..

فهذه الحجارة والبيوت والشوارع هي ما يدافع عنا في غيابنا، وهي من يحكي بصمتٍ لغتنا، وهي من يغضب وهي من يبكي وهي من يتبسم عند ذكرنا، هي بصمتنا هي مشيتنا وهي بحة صوتنا، هي حمضنا النووي وسرنا الوجودي هي قطعة من أجسادنا، ولولاها ما احتملنا الحياة ففيها الحياة وخلودنا..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى