خالد جهاد - الإختيار

اعتاد الكثيرون على أن تكون قراراتهم وآراؤهم مبنية على العواطف والإنفعالات وحتى المكايدات، فيدعم البعض فريقاً ما نكايةً في الفريق الآخر دون تقييم فعلي للأفكار التي يقدمها أيٌ منهما وعلى اعتبار أن العالم يمكن أن يختصر في وجهتي نظر أو بضعة أفكار، فيختار من مواقفهما ما يحلو له ويتناسى أو يبرر ما يخدش تلك الصورة التي يعتقدها عنهما وعن غيرهما أو يحول المسألة الأساسية إلى حالة من المقارنة المستمرة، معتقداً على الدوام بأن عليه المشاركة أو المفاضلة بين أطراف لا تتفق أو تختلف (غالباً) إلاّ لمصلحة لا علاقة للمشاعر الإنسانية بها من قريب أو بعيد ويحكم قراراتها وصراعاتها تقسيم الأدوار والمنافع، وهو ما ينسحب على الخيارات التي تنتهجها شعوبنا في الحياة والدين والسياسة..

وهو ما يحدث لدى الكثيرين أيضاً عند إعجابهم بفكر أو موقف شخصيةٍ ما، حيث قد يرونها من جانبٍ معين لا يعكس بالضرورة حقيقتها، أو قد يخلط بين آراء ونظريات كاتب معين وبين تصريحات أدلى بها في قضايا مفصلية أو مواقف فعلية شارك بها على أرض الواقع، فإذا نظرنا إلى اسم أيقوني بارز مثل الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر) الذي كان معشوقاً للكثيرين في بلادنا سنجد أن موقفه من الكيان الصهيوني يتلخص بمقولته الشهيرة حينما قام بزيارة (تل أبيب) حيث قال : "إن إسرائيل لها الحق فى الوجود ويجب أن تبقى"، كما أنه ورغم رفضه طيلة حياته لأي جائزة أو تكريم إلاّ أنه وافق بشكل استثنائي على الدكتوراة الفخرية من الجامعة العبرية وقد تلقاها من سفارة الكيان الصهيوني بباريس بواسطة الفيلسوف (إيمانويل ليفيناس) معللاً ذلك برغبته في (خلق رابط بين الشعب الفلسطيني الذي (يتبناه) وإسرائيل صديقته)، ولم يفلح حديثه عن معاناة الفلسطينيين في تبييض موقفه برغم رفضه للسياسة الإستعمارية لبلاده في بلدٍ كالجزائر ودعم النضال في كثير من دول العالم وبرغم أنه صاحب مقولة (لا يوجد استعمار جيد واستعمار سيء..فالإستعمار هو الإستعمار وفقط)..

وهو ما ينسحب أيضاً على الأديب الفرنسي ألبير كامو الذي ولد لأسرة من (المستوطنين الفرنسيين على أرض الجزائر) والذي قال (لسنا ننشد عالماً لا يقتل فيه أحد، بل عالماً لا يمكن فيه تبرير القتل) لكنه قال أيضاً بأنه (إذا ما خيرت بين الحرية وأمي سأختار أمي)، وفي كل الأحوال سيلحظ القارىء وجود من يدافع عن الإسمين المذكورين (بالطبع على سبيل المثال لا التعيين) إلى جانب الكثير من الآراء المتنوعة من المثقفين وعامة الشعب التي بررت تلك التصريحات المتناقضة والمزدوجة في مسألةٍ جوهرية وحساسة كالحديث عن الحرية وتجريم الإستعمار وتبعاته حباً في الأعمال التي قدموها، والتي تشفع لهم (من وجهة نظرهم) عند الإدلاء بهذا النوع من التصريحات أو الإقدام على هذه الإختيارات، مع أن خطأ المثقف ينبغي أن تكون عاقبته مضاعفة لعدة أضعاف كونه حاملاً لمسؤولية الكلمة ومايترتب عليها من تبعات أخلاقيات خاصةً عندما ينظر إليه كقدوة ويتحول أو تتحول أعماله إلى أيقونات، فتأثير الفنان والمثقف أقوى من غيره على الناس وهو ما يساهم في تشتيت العقول وتدمير وعي الأجيال واختلال بوصلتهم الإنسانية والأخلاقية عندما يعي أن المبررات ستكون حاضرة دوماً لبعض الفئات تحت شعارات من قبيل (يحق للمبدع ما لا يحق لغيره) وهو مالا يمكن تطبيقه على المسائل المصيرية..

لذا فإن الأفضل للجميع في أي مرحلة عمرية كانت ألا يربط نفسه بأشخاص بعينهم أو بالخيارات التي تطفو على السطح ويتداولها الأغلبية لأنها لا تقدم الحقائق كاملة وتنضوي على الكثير من التناقض سواءاً كانت عبر شخصيات أو تيارات سياسية أو فكرية أو دينية، فجزء من أهمية وجودنا على قيد الحياة هو البحث عن الحقيقة والفكرة الأقرب إلى الصواب والتي يطمأن القلب والعقل والضمير لمضمونها..

فمن الغريب أن يبحث أحدنا لفترة طويلة عن بضعة ثياب يرتديها ليبدو في أبهى حلة ويتناسى أهمية القناعات التي سيعيش معها إلى نهاية حياته وستكون مرجعيته عند كل منعطف هام، أو يقبل بما يراه من حوله على اعتبار أن رأيه لا تأثير له.. لأن المعرفة التي تقود صاحبها إلى الطمأنينة هي بحد ذاتها كنز لا يقدر بثمن وهي واجب علينا دون أن ترتبط بيمين أو يسار أو شرق أو غرب أو هذا القطب أو ذاك، ولا يجب علينا أن نختار ما لا يناسبنا لنبدو أكثر اطلاعاً أو ثقافة أو لنكون (في قلب الحدث) أو نتحول لمجرد صدى لأصوات ٍ لا تشبهنا فالحياة أوسع من ذلك بكثير..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى