مصطفى نصر - علاقتي بالقصة القصيرة

كتبتُ منذ أكثر من ربع قرن مقالة عن القصة القصيرة، قلت فيها ما معناه: إن القصة القصيرة فن جميل وصعب، لذا لم يخلد إلا القليل جدا من الأسماء.
المشكلة – في ذلك الوقت الذي كتبت فيه المقالة – إن كل من هب ودب كان يكتب القصة القصيرة. فقد كان الشعر هو فن الكتابة الأول قبل ثورة يوليو 52، فتجد طه حسين الذي لم يكن شاعرا يكتب الشعر، وتجد المسئولين في وظائف الدولة العليا يكتبون الشعر. حدث هذا للقصة القصيرة بعد ذلك، الكل يكتبها، شعراء وزجالون ورجال دولة، ويرسلون ما يكتبون إلى الصحف والمجلات، فتنشرها لهم لمكانتهم الإجتماعية لا أكثر.
كتبت هذه المقالة وقرأتها أمام أستاذي حسني نصار في بيته وكان معي الصديق محمود قاسم. وفوجئت بمحمود بعد وقت قصير جدا، يكتب مقالة يقول فيها:
- إن القصة القصيرة ماتت في العالم كله.
وعندما لمته لهذا القول الغريب والمدهش، قال: مقالتك هي السبب.
قلت له:
- لم أقل في مقالتي إنها ماتت، لكنني أعيب على من يكتبها وهو غير مؤهل لها.
00
القصة القصيرة فن قادر على كشف المدعين. فمن الممكن أن يتواري مدعي خلف الرواية ذات الصفحات الكثيرة جدا، لكنه إذا كتب قصة قصيرة فسيظهر عجزه وفشله. فمن السهل قراءتها في جلسة واحدة. أعرف رجلا في الإسكندرية ليست له صلة بفن الكتابة، لكنه يكتب روايات، نشرت له هيئة حكومية واحدة منها، - ولا أدري كيف وافقوا على نشرها - وأخرى نشرها على حسابه الخاص، والباقي يحاول نشره. لا تستطيع أن تكمل قراءة سطور قليلة من صفحات كتابه، وإذا حدثته عن هذا، يُرجع السبب إليك، فأنت غير قادر على فهمه. ويقول لك في ثقة:
- الرواية صعبة عليك.
لكنه عندما كتب قصة قصيرة وقرأها في ندوة بالنادي النوبي بالإسكندرية سخر منه رواد الندوة، فقد كانت مسخاً لا معني له.
إنني أحب القصة القصيرة كثيراً لكنني أحب الرواية أكثر، وقد بدأت بكتابة الرواية، وكنت أفضل قراءة الرواية أكثر، وأعتقد أن معظم القراء يفعلون هذا، فقد سألت بائع كتب عن النوع الذي يباع أكثر، فقال لي: الرواية.
ولو تتبعنا سلسلة كبيرة مثل " روايات الهلال" نجدها من النادر جدا، عندما تنشر مجموعات قصصية، وتفعل هذا مع كتاب كبار مثل توفيق الحكيم، أما عن دور النشر الخاصة فهم لا يقبلون على طبع المجموعات القصصية، إلا إذا كانت على حساب المؤلف.
00
قصصي القصيرة التي كتبتها في بداية حياتي لا تصلح للنشر، فهي عبارة عن روايات ملخصة. وهذا راجع لقراءاتي في هذا الوقت، فقد بدأت القراءة وأنا صغير جداً، كنتُ أذهب في إجازة سنة أولى إعدادي إلى بائع كتب في شارع إيزيس القريب من بيتي، واشتري منه كتابا كل يوم، وأعيده إليه في اليوم الثاني، قرأت في ذلك الوقت روايات : ماجدولين وفي سبيل التاج لمصطفى لطفي المنفلوطي وحاولت تقليدهما وكتابة رواية على غرارهما، ثم رواية واسلاماه ويوميات نائب في الأرياف وكتب طه حسين وحاولت تقليد كتابته في روايته الحب الضائع عندما كانت بطلة الرواية توجه حديثها إلى الورق الذي كتبت عليه. فكتبت قصة بعنوان " القديسة " عن فتاة تحكي للورق لأنها لا تستطيع أن تحكي لأحد ما حدث، أمها الأرملة ترفض عمدة بلدة مجاورة لكي تربي أبنائها، فذاع صيتها في البلدة، واعتبروها بطلة، وهي في الحقيقة كانت تنتظر عشيقاً في المساء، أرسلتها لمجلة القصة، فرد علي المرحوم ثروت أباظة قائلا:
- أسلوبك يتسم بالشفافية والرهافة، لكن موضوع القصة مبتذل، أرجو أن تستخدم أسلوبك الجيد في أعمال يتوافر لها المضمون....
وأعطاني بائع الكتب كتابا نقديا بعنوان مانخوليا ( محاورات ونظرات في الفن ) لعبد الرحمن الخميسي فلم أستوعب ما فيه، وأعدته إلي البائع مصراً على أخذ كتابا آخر دون أن أدفع الفرق لأنني لم أتمكن من قراءته . وظللت لسنوات طويلة معتمدا على الذاكرة ومعتقدا أنه مجموعة قصصية .
بدأت النشر بروايتي " الصعود فوق جدار أملس " عام 1977، ولم أكن قد نشرت قصة قصيرة واحدة في مجلة أو جريدة قاهرية. وأذكر نشر أول قصة قصيرة لي، وكانت في مجلة " الكلمة " التي تصدرها مديرية الثقافة بالإسكندرية والتي كان يرأس تحريرها الدكتور أحمد أبوزيد . وكانت بعنوان " الأيام " . وهي تحكي عن بائع تين شوكي، يقف بعربته بجوار سينما الجمهورية، ومتزوج من امرأة بلهاء، تتناول الطعام معه بجوار العربة، يتذكر الرجل عندما كان مسيطراً على الشباب في المنطقة، كانوا يأتمرون بأمره، يسرقون ، ويبيعون الحلويات في ترام 8 التي كانت تمر بشارع راغب باشا، لكنه وهو يقفز من ترام إلى آخر وقع وسط الترامين وقُطعت ساقه، وفقد سلطانه، ورضا بأن يتزوج هذه المرأة البلهاء، وأن يبيع التين الشوكي بجوار السينما، وشاب من صبيانه أصبح الفتوة الآن، يضع برواز التاج والهلب بجوار السينما، وقد تشاجر هذا الفتوة مع مخبر من مخبرين قسم شرطة كرموز، فخرجت رصاصة من مسدس المخبر، استقرت في قلب بائع التين الشوكي، ليدفنوه بجوار ساقه السابق دفنها في عمود السواري.
أذكر عندما علمت بنشر القصة في المجلة، من فرحتي ألححت على مديرة الثقافة لكي تعطيني نسخة، وهي ترفض حتى قالت:
- لو فضلت للصبح مش حاديلك نسخة دلوقتي.
00
صدرت أول مجموعة لي عام 1986 بعنوان الاختيار عن هيئة الكتاب، جمعت وقتها كل قصصي القصيرة ودفعت بها إلى الطبع، بعد أن صدرت لي مجموعة من الروايات، بعضها حقق بعض النجاح مثل الصعود فوق جدار أملس والجهيني وجبل ناعسة. لم أكن مرتاحا للطريقة التي جمعت بها القصص، فالمجموعة القصصية في رأيي لابد لها من التكامل، فهي تمثل اتجاها محددا، وهي في مضمونها أقرب إلى الرواية.
قرأتُ كل ما كتبه محمد حافظ رجب من قصص، وهي أعمال قليلة لا تزيد عن ثلاثة كتب، وتذكرتُ ما قاله له " الدكتور علي نور" في أول لقاء أدبي لي في الإسكندرية:0 أفضل ما كتب محمد حافظ رجب هي قصصه التي تدور في حي غربال الشعبي، وأنا أعشق الأحياء الشعبية، كما أنني تربيت في حي غربال وكتبتُ عنه كثيرا، وكنا نسمي المنطقة التي كان يسكنها محمد حافظ رجب " غربال الشرقي " .
وكتب سعيد بكر قصصه القصيرة التي مزج فيها الحلم بالواقع، كان بارعا في كتابة القصة القصيرة، تأثر في أول حياته بكتابات محمود عوض عبد العال ومحمد الصاوي، واستطاع أن يضيف لطريقتهما أشياء جديدة من عنده، تخصه، لكنه لم يكمل مشواره هذا، وغيّر طريقته؛ وللحق فإن عبد الله هاشم – أكثر من تحمس لكتابات سعيد – كان يحرضه لكي يستمر في طريقه القديم لكنه فضل الخروج منه، ربما أحس بأن هذا الطريق لا يؤدي إلى الشارع العمومي، وإنما يؤدي إلى حارة مسدودة. فكتب عن الحي الذي نشأ وقضى فيه طفولته وشبابه قصصا واقعية عادية. واعتقد أنه لو تمسك بطريقته الأولى في الكتابة لحقق لنفسه مكانة أكبر وأهم، فقد كان متفردا ومتميزا فيها، وكانت الضبابية التي يصنعها تمزج الحقيقية بالخيال، والواقع بالأسطوري.
وأشاع البعض في الإسكندرية، بأنني غير متميز في كتابة القصة القصيرة، وظهرت مجلة إبداع التي كان يرأس تحريرها الدكتور عبد القادر القط فأعطانا فرصة العمر، ونشر لي الكثير من القصص القصيرة، وقد كتبت قصة بعنوان " البيت المهجور " تحكي عن زوجة تتشاجر مع زوجها في المساء، فيصر على طردها قبيل الفجر، فتخرج مضطرة من البيت إلى بيت أهلها في آخر الشارع، ولابد لها من أن تمر أمام خرابة ( بيت كبير عالي البنيان، ليس له مالك، فسرق اللصوص نوافذه وأبوابه، وحطموا سلمه، فاتخذها الصعاليك مقرا لهم، ينامون فيه، ويحرقون نشارة الخشب وقش الأرز ليبيعونهما إلى بائع الشاي ليخلطه بشايه ويغشه) عندما وصلتْ الزوجة إلى هذا البيت المهجور، تلقفتها مخلوقات، وصعدت بها أعلى البناية، ومارست الجنس معها، هي لم تر منهم شيئا، ولا تعرف إن كانوا بشرا أم عفاريت. بعد أن قضوا حاجتهم منها، أنزلوها إلى أرض الشارع، فعادت إلى بيت أمها، ولم تحك لها عما حدث، وبعد الظهر جاء زوجها لأخذها فعادت معه، وعادت إلى حياتها العاداية .
أعتقد أن هذه القصة هي بداية التحول في كتاباتي للقصة القصيرة، فمزجت فيها بين ما يحدث الآن وبين الماضي، وجعلتهما يتعاملان وكأنهما شيء واحد. وهذا ما فعلته في قصصي الأخرى التي نشرتها في مجلة إبداع، " حفل زفاف في وهج الشمس" و" الكابوس " و " بجوار الرجل المريض " وقد اتصل بي المخرج السينمائي أحمد رشوان طالبا مني أن يحول قصة بجوار الرجل المريض إلى فيلم روائي قصير، فسألته: أين قرأتها؟ قال في مجلة إبداع، قلت له: سأرسل لك المجموعة القصصية المنشور بها القصة وستجدها كلها تصلح أفلاما روائية قصيرة، وأرسلت إليه مجموعة حفل زفاف في وهج الشمس بالبريد، فاتصل بي وقال لي : القصة الأولي في المجموعة : الكابوس قد حولتها الممثلة دنيا إلى فيلم روائي قصير، وأعطاني رقم تليفونها، فسألتها: أين قرأت القصة؟ فأعطتني رقم تليفون السيناريست أحمد عبد الفتاح، وعندما اتصلت به قال لي: أخيرا لقيت مؤلف القصة! وحكي لي ما حدث، فقد قرر الدكتور رفيق الصبان القصة عليهم في قسم السيناريو بمعهد السينما، وطلب منهم أن يحولوها إلى فيلم روائي قصير، وبعد أن تخرج أحمد عبد الفتاح من المعهد، قدم الفيلم إلى الممثلة دنيا التي تدرس الإخراح في المعهد، ولابد لها من مشروع تخرج. قال لي أنه بحث عن المؤلف، قالوا له في الأول إنها لبهاء طاهر، وقالوا له إنها للدكتور مصطفى الضبع، وتم عرض الفيلم دون أن يذكروا اسمي عليه.
وقدم أحمد رشوان فيلمه المأخوذ عن قصتي بجوار الرجل المريض، وعرض باسم الصباح التالي؛ في مصر وخارج مصر، وحقق شهرة كبيرة .وقال لي أحمد رشوان إن الذي شده للقصة استخدام الفلاش باك .
لقد أصدرت خمس مجموعات قصصية هي:
الاختيار، وحفل زفاف في وهج الشمس، و " وجوه " و " الطيور " و" حجرة وحيدة " . لكن أقرب مجموعة إلى قلبي هي " حفل زفاف في وهج الشمس " . فقد حققت فيها ما أود أن أجده في المجموعات القصصية، أن تكون القصص ذات اتجاه متقارب، وتمثل في مجملها رؤية واحدة، تقترب من الرواية.
وقد فازت مجموعة وجوه بجائزة أفضل مجموعة قصصية مطبوعة – مسابقة نادي القصة بالقاهرة – عام 2003.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى