إبراهيم قيس جركس - جدليّة السّلطة والشرعيّة: منظور اجتماعي وسيكولوجي وأخلاقي

السلطة والشرعية

السلطة والشّرعيّة مفهومان يُستخدمان بطريقة متبادلة عادةً، لكنّهما يتمتّعان بمعنيين مختلفين ضمن السّياق السّياسي. يشير مفهوم السّلطةإلى القوّة التي يمتلكها الأفراد والمؤسّسات لاتخاذ قرارات وفرضها، بينما يشير مفهوم الشرعيّة إلى قبول تلك السّلطة من قِبَل من يخضعونلها.

السلطة هي القوّة أو الحقّ لاتّخاذ القرارات وفَرضها. ويمكن للقوّة أن يمتلكها أفراد، أو مؤسّسات كالحكومات، أو جماعات كالمحاكمومجموعات الضغط. يمكن أن تُمارَس السلطة بالإكراه أو الإجبار، كاستخدام القوّة أو التهديد بالعقاب، أو بالإقناع، كالالتماس للتقاليد أوالأعراف أو استخدام اللغة والخطاب. تتمركز السّلطة عادةً في الأنظمة السّياسيّة في مؤسّسات الدولة، بمختلف سلطاتها القضائيةوالتشريعي والتنفيذية.

بمعنى آخر، تشير الشّرعيّة إلى قبول السّلطة من قِبَل جميع أولئك الخاضعين لها.

ليس من الضرور أن تكون الشرعية مرتبطة بمصدر السلطة، أو الطرق المُتّبعة في تطبيقها، بل بالأحرى بتصوّر تلك السلطة كمفهوم عادل أوصالح. يمكن أن تقوم الشرعيّة على عدّة عوامل، من بينها، التقاليد والأعراف، والقانون، والتدابير الديمقراطيّة، أو الفعالية المُتَصَوّرة للسّلطةفي تحقيق أهدافها.

إنّ العلاقة بين السّلطة والشرعيّة معقّدة للغاية. يمكن تصوّر السّلطة بدون شرعيّة، كما في حالات الدكتاتورية أو المستَبدّ الذي يمسك بزمامالقوّة أو بالإكراه دون موافقة الشعب أو رضاه. بطبيعة الحال تكون هذه الأنظمة غير مستقرّة، وغالباً ما تقود إلى ثورة أو تمرّد إذا لم يعترفالشعب بشرعيّة السلطة.

ويمكن تصوّر الشرعية أيضاً بدون سلطة، كما في حال الأعراف والأنماط الاجتماعية، أو أنظمة الحكم غير الرّسميّة.

قد لا يكون لهذه الأنظمة مصدراً رسمياً للسّلطة، كحكومة مثلاً، لكنّها مقبولة من قِبَل الشعب على أنّها شرعيّة لأنّها تبدو عادلة وفعّالة.

في الأنظمة السّياسيّة، شرعيّة السّلطة ضروريّة من أجل الحفاظ على الاستقرار وتجنّب النّزاعات. عندما يقبل الشعب بسلطة ما على أنّهاشرعيّة، فمن المرجّح أن يطيعوا جميع الأوامر والقرارات الصادرة عنها، حتّى وإن لم يوافقوا عليها. الأمر الدي يسهّل على الحكومات فرضقوانينها وسياساتها، والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. من ناحية أخرى، عندما لا تُعتَبَر السلطة شرعيّة، من المرجّح أكثر أن يقاومهاالشعب أو يتحدّاها، الامر الذي يؤدّي إلى غليان اجتماعي، أو يولّد العنف، أو ينتهي بثورة حتّى.

إنّ مفهوم الشّرعيّة حيويٌ جداً من أجل أنظمة الحكم الديمقراطية. في أيّ نظامٍ ديمقراطي، تستوحى السلطة من الشعب، الذي ينتخبمرشّحيه الذين يتّخذون القرارات بالنّيابة عنه.

إنّ شرعيّة هؤلاء المُرشّحين قائمة على تصوّر الشعب بأنَّ قراراتهم صائبة وعادلة. إذا لم يقبل الشعب سلطة مرشّحيهم المنتخبين، قد يختارحجب الثقة عنهم وإخراجهم من مناصبهم، أو ينخرط في أعمال احتجاج أو عصيان مدني.



السلطة وعلم النفس



السّلطة مفهومٌ تمّ استكشافه وتحليله من قبل عدّ تخصّصات متنوّعة، بما في ذلك علم النفس. من منظور نفسي، تشير السّلطة إلى القوّة أوالسيطرة التي يمارسها فرد أو مجموعة على الآخرين. يمكن أن تستند هذه السّلطة إلى عوامل مختلفة، مثل الوضع الاجتماعي، أو الخبرة،أو المنصب القيادي. كان سيغموند فرويد من أكثر الشّخصيات نفوذاً في مجال علم النّفس والذين استكشفوا مفهوم السّلطة. كان فرويدمهتمّاً بفهم الأسس النّفسيّة للسّلطة وتأثيرها على الأفراد والمجتمع. وقد اقترح في عمله أنَّ السّلطة متجذّرة في تجارب الطّفولة، وتَمثّلالشّخصيات الأبويّة. وفقاً لفرويد، يطوّر الأطفال إحساساً بالسّلطة بناءً على تجاربهم مع والديهم أو مقدّمي الرعاية لهم. وتشكّل هذهالتّجارب فهمهم لما يشكّل السّلوك المَقبول، وعواقب العصيان وعدم الامتثال.

يعتقد فرويد أنّ إدراك شخصيّات السّلطة يلعب دوراً مهمّاً في تشكيل شخصيّة الفرد وسلوكه. وأشار إلى أنّ الأفراد الذين استوعبواشخصيّات السّلطة في الطفولة كانوا أكثر عرضةً للامتثال لرموز السّلطة في مرحلة البلوغ ، حتى لو لم يتمتّعوا بالشّرعيّة أو يستحقّون هذهالسّلطة. ويمكن رؤية هذا الامتثال في أماكن مختلفة، مثل مكان العمل، أو الحكومة، أو المؤسّسات الدّينيّة. وأحد المفاهيم الأساسيّة التيطوّرها فرويد لفهم السّلطة كانت فكرة "الأنا العليا". الأنا العليا هي أحد مكوّنات النّفس التي تمثّل السّلطة الأبويّة الدّاخليّة. إنّها مسؤولة عنتنظيم سلوك الفرد، وفرض المعايير الأخلاقيّة. وفقاً لفرويد، الأنا العليا هي قوّة جبّارة يَصعُب مقاومتها. الأفراد الذين يتمتّعون بأنا عليامتطوّرة هم أكثر عرضةً للامتثال لرموز السّلطة، والالتزام بالأعراف الاجتماعيّة.

بحث فرويد أيضاً مفهوم “الشّخصيّة السّلطوية”. يتميّز هذا النمط من الشخصيات بالالتزام الصّارم بالسّلطة، والرّغبة القويّة في فرضالنّظام والانضباط والسّيطرة، والميل نحو العدوان تجاه أولئك الذين يتحدّون السّلطة أو يهدّدونها. ووفقاً لفرويد، إنّ الشخصية السلطويّة هينتيجة تجارب الطفولة من آباء وأمّهات صارمين، ومُعاقِبين في حالة الخروج عن السلطة وشقّ عصا الطاعة.

تمّ انتقاد مفهوم الشخصيّة السلطوية بسبب قدرتها على إضفاء الطابَع المرضي على الأفراد الذين يُظهرون سِماتً شخصيّة معيّنة. إلا أنّهيظلُّ أداةً مفيدةً لفهم الأسس النفسيّة للسّلطة وتأثيرها على الأفراد والمجتمع.

عالم نفساني آخر لا يقلّ أهميةً عن فرويد درس مفهوم السلطة هو ستانلي ميلغرام.



اشتهر ميلغرام بتجاربه في طاعة السّلطة، التي اختبرت حدود استعداد الأفراد للامتثال لشخصيّات السّلطة، حتى عندما تتعارض أفعالهممع قِيَمهم الأخلاقيّة. تضمّنت تجارب ميلغرام مشاركين طُلِبَ منهم صَعق "المتعلّم" بصدمات كهربائيّة ("المتعلّم" الذي كان في الواقع عضواًمن أعضاء طاقم التّجربة) وفي كلِّ مرَّةٍ يجيب المتعلّم على سؤالٍ بشكلٍ غير صحيح تزداد حدّة الصّدمات مع كل إجابة خاطئة، ويبدأ المتعلّمفي النّهاية بالصّراخ من الألم، والتوسّل لوقف التّجربة. وعلى الرّغم من هذه المناشدات والتوسّل، استمرّ معظم المشاركين في زيادة الصّدماتحتّى نهاية التّجربة، بتوجيهٍ من الشّخص المسؤول الذي يجرى التّجربة. أظهرت تجارب ميلغرام التّأثير القوي للسّلطة على سلوك الأفراد،حتّى في المواقف التي تتعارض فيها أفعالهم مع قيمهم الأخلاقيّة.

كما أظهروا إمكانيّة تخلّي الأفراد عن مسؤوليّتهم الشّخصية ودورهم في حضور شخصيّات سلطويّة.



السّلطة وعلم الاجتماع

السّلطة مفهومٌ حاسمٌ في علم الاجتماع، لأنّها تشير إلى القوّة التي يمتلكها الأفراد أو المؤسّسات على الآخرين. من منظور علم الاجتماع،إنّ السّلطة ليست مجرّد مسألة قوّة جسديّة أو إكراه، بل هي عمليّة اجتماعيّة معقّدة تنطوي على الشّرعيّة، والتقاليد، والمعايير الثقافيّة.

كان ماكس فيبر من أكثر علماء الاجتماع الألمانيّين تأثيراً في موضوع السّلطة. لقد عرّف السّلطة بأنّها القدرة على حمل الناس على القيامبأشياء لا يفعلونها لولا ذلك، من خلال استخدام الإكراه أو الشّرعيّة.

حدّد فيبر ثلاثة أنواع من السّلطة الشّرعيّة: تقليديّة، وجذّابة، وعقلانيّة قانونيّة. تستند السّلطة التّقليديّة على العادات والتّقاليد والتّاريخ. وترتبطعادةً بمجتمعات ما قبل الحَداثة، حيث غالباً ما يُحتَفَظ بالسّلطة من قِبَل الملوك أو الرّؤساء أو القادة التّقليديّين الآخرين الذين يُعتقد أنّهميمتلكون حقاً إلهياً أو موروثاً في الحكم. في المجتمعات التقليديّة، غالباً ما تقوم السّلطة على الرّوابط العائليّة أو القبليّة، أو تنتقل بالوراثة أوالتّعيين.

من ناحية أخرى، تستند السّلطة الكاريزمية على الصّفات والقدرات الشّخصية للقائد الفرد. غالباً ما يُنظَر إلى القادة الكاريزماتيين على أنّهميتمتّعون بقدرة خاصّة على إلهام الآخرين وتحفيزهم، وتستند سلطتهم إلى مقدرتهم على إيصال رؤية أو أيديولوجية لها صدى لدى أتباعهم. وتشمل الأمثلة على القادة الكاريزماتيين: الأنبياء، والثوريين، والقادَة السياسيين، والمتحدثين التحفيزيين.

تستند السّلطة القانونيّة العقلانيّة على القواعد واللوائح والقوانين. وترتبط عادةً بالمجتمعات الحديثة، حيث تتولّى السّلطة مؤسّسات مثلالحكومات والبيروقراطيات والأنظمة القانونية. في المجتمعات القانونيّة العقلانية، تستند السلطة على الاعتقاد بأنّ السلطة يجب أن تمارسوفقاً للقواعد والإجراءات المعمول بها، وليس من خلال الوسائل الشّخصيّة أو التعسفيّة.

يسلّط تصنيف فيبر للسّلطة الضّوء على الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها إضفاء الشرعيّة على السّلطة في مختلف المجتمعات.

غالباً ما ترتبط السّلطة التقليدية بالمجتمعات التي تقوم على القرابة والرّوابط الأسريّة، وبينما من المرجّح أن تظهر السّلطة الكاريزميّة فيأوقات الأزمات، أو التّحوّل الاجتماعي. من ناحية أخرى، ترتبط السّلطة القانونيّة العقلانيّة بظهور المؤسسات البيروقراطية الحديثة، وازديادأهمية المعايير والإجراءات القانونيّة.

ومع ذلك، تمّ انتقاد تصنيف فيبر للسّلطة لكونه شديد التبسيط، وفشل في فهم الطرق المعقدة التي تعمل بها المجتمعات المعاصرة. فعلىسبيل المثال، يجادل بعض العلماء بأنّ السّلطة التقليدية والقيادية تستمرّ في أداء أدوار مهمّة في المجتمعات الحديثة، لا سيما في مجالالثقافة الشّعبيّة وسياسة المشاهير.

أضِف إلى ذلك، استكشف علماء الاجتماع أيضاً العلاقة بين السّلطة والتفاوت الاجتماعي. ففي العديد من المجتمعات، ترتبط السّلطةارتباطاً وثيقاً بالمكانة الاجتماعيّة، والثروة، والامتيازات.

غالباً ما يستغلّ أولئك الذين يمتلكون السّلطة سلطتهم للحفاظ على التسلسل الهرمي الاجتماعي القائم وتعزيزه، ممّا قد يؤدّي إلى أنماط منالتهميش والاضطهاد لأولئك الذين يفتقرون إلى السّلطة.

علاوة على ذلك، درس علماء الاجتماع أيضاً دور المقاومة، والنّزاعات حول السّلطة. غالباً ما يتحدّى الأفراد والجماعات المهمّشة أو المُضطّهدةسلطة أولئك الذين يمسكون بزمام السّلطة، من خلال الاحتجاجات والتمرّد والمقاومة والحركات الاجتماعيّة. إذ يمكن أن تؤدّي أشكال الخلافهذه إلى تغييرات في المعايير الاجتماعيّة وعلاقات القوّة، فضلاً عن ظهور أشكال جديدة من السّلطة والشرعيّة.



السّلطة والأخلاق

السّلطة والأخلاق مفهومان متشابكان بعمق، حيث أنّ الاعتبارات الأخلاقيّة التي تنطوي عليها ممارسة السّلطة لها آثار طويلة المدى علىالأفراد والمجتمع ككل. أولاً، يجب أن نحدّد ما المقصود بمصطلح السّلطة. يشير مفهوم السّلطة إلى "سلطة أو حقّ إصدار الأوامر، واتّخاذالقرارات، وفرض الطاع. إنّه مفهومٌ منتشرٌ في المجتمع الحديث، مع شخصيات ذات سلطة تتراوح من المسؤولين الحكوميّين، وضباط إنفاذالقانون، إلى الآباء والمعلّمين.

ومع ذلك، إنّ ممارسة السّلطة تثير أسئلة أخلاقيّة، لا سيما عندما يتعلّق الأمر بقضايا السّلطة والسّيطرة. السّؤال المعياري المتعلّق بالسلطةهو عمّا إذا كان أولئك الذين يشغلون مناصب في السّلطة لديهم التزام أخلاقي باستخدام سلطتهم بطريقة مسؤولة وأخلاقية، وليس بشكلاعتباطي او تعسّفي.

من الاعتبارات الأخلاقيّة الأساسية التي ينطوي عليها ممارسة السّلطة مسألة الشّرعيّة. السّلطة الشرعيّة هي فكرة أنّ الأفراد في مواقعالسّلطة لديهم حقّ أخلاقي في اتخاذ القرارات وإعطاء الأوامر، بناءً على دورهم داخل أي نظام اجتماعي أو سياسي معيّن.

تثير مسألة السّلطة أيضاً قضايا السّلطة والسّيطرة. غالباً ما يتمتّع من هم في مناصب سلطوية بالقدرة على اتخاذ قرارات تؤثّر على حياةالآخرين، ويمكن إساءة استخدام هذه السلطة واستغلالها بسهولة. لذلك من الضروري أن يستخدم من هُم في مواقع السّلطة سلطتهمبطريقة مسؤولة وأخلاقيّة، مع ضمان عدم إساءة استخدام سلطتهم، أو الانخراط في سلوكيّات ضارّة بمن هم تحت سلطتهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى