إياد يونس عريبي - جماعة الروّاد.. صفحة فنية مشرقة

إن الظروف التي أعقبت الحرب العالمية الثانية اتسمت بحدّة الصراع بين أساليب الفنانين وتطلعاتهم، وغدت المعضلات التشكيلية ذات وجود مؤثر في دفع الحركة وجذبها سلباً وإيجاباً، ونشأ من كل ذلك تبرعم نوعي وانشطارات شكلية وتحولات مضمونة، فالحرب لم تستمر على أرض العراق، إلا لمدة قصيرة جداً تقرب من الشهر، إلا أنه انعكس بلا شك،

على العمل الفني بل على الأسلوب الفني الذي اصبح هو الآخر أسلوباً مختزلاً لمشاعر الفنان الى حد اللحظة الزمنية الحاضرة ورهافة الإحساس باللون والخط والشكل، وانعكاسها على طبيعة العلاقات الإنسانية وظروفها الاقتصادية والاجتماعية، فتقبّل الأسلوب الانطباعي وما بعده اضحى بمثابة انعكاس تلقائي للقلق وعدم الاستقرار الذي ألهب من الوعي القومي والاجتماعي بل ومن التباين الطبقي والاقتصادي أيضاً.
هذه الأساليب تمثّل العلاقة بين التبدلات المادية من جهة والتبدلات الفكرية من جهة أخرى، ومدى انطباق الثانية على الأولى، ومن هنا فإن الخلود الى الاستقرار النسبي لأعوام ما بعد الحرب، وما رافقته من اتساع الهوّة في التناقض الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وعلاقة الشعور الإنساني ما بين قوى الشعب والوعي بالاستقلال الداخلي جاء نتيجة من نتائج هذا الاستقرار، وكل ذلك كان سيؤدي الى تغير جذري جديد في العلاقات الإنسانية.
تشجع فائق حسن بتسمية جماعته، كأوّل جماعة فنية في تأريخ العراق المعاصر عام 1947 باسم البدائيين ترجمة عن ثقافته الفرنسية وقتذاك (سوسايتيبريميتيف) الاسم الذي مبدئياً اثار ضحك جماعته، إلا أنه ذكر، أن كل فن أصيل لم يتأثر بعوامل خارجية هو فن بدائي، ومع ذلك اقترح يوسف داود، اسم جماعة الروّاد التي تعني الباحثين المتجوّلين عند إقامة أول معرض لهم، نسبة الى ارتياد أماكن العراق شمالاً وجنوباً بحثاً ودرسه للبيئة العراقية والإنسان العراقي وظروفه المختلفة. إن هذا المعرض لم يقام في عام 1950، في قاعة معينة وإنما في بيت أحد هذه الجماعة وهو (خالد القصاب) وكان قد أقيم بعد ثلاثة أعوام من الصمت التام لمعارض جمعية أصدقاء الفن، التي كان من أبرز أعضائها فائق حسن وخالد القصاب وزيد صالح ويوسف عبد القادر واسماعيل الشيخلي وفاروق عبد العزيز ونوري مصطفى بهجت وعيسى حنا وجواد سليم، الذي انضم بعد عام 1949, والمهندس العسكري عبد الله العمري.
كتبت لوحة للتعريف بالمعرض تتوسطها علامة (S.P) فأصبح P رمزاً لعلم الجماعة في الرحلات، وS للدلالة على طرق الريف الملتوية، وهذه الحروف هي اختصار لاسم جمعية البدائيين، وتوافدت على المعرض يوم الافتتاح جموع المدعوين من النقّاد واعضاء الهيئة الدبلوماسية، ومحبّي الفنون، إذ بقي المعرض مفتوحاً لثلاثة أيام وشاهده أكثر من خمسمئة شخص، كان للمعرض وقع كبير على مشاهديه، بعد أن عانت بغداد من سبات فني لأكثر من أربعة أعوام.
غدا المعرض نقطة تحول في تأريخ الفنون التشكيلية في العراق، فقد شجّع نجاحهُ جماعة الروّاد لإقامة أربعة وعشرين معرضاً سنوياً على مدى الأعوام التالية، كما أن المعرض الأول هذا ضمن للروّاد مكانة تأريخية، فقد كان الروّاد أول جماعة فنية في تأريخ الفن المعاصر في العراق، وذلك ما شجّع فنانين آخرين على تشكيل تكتلات مماثلة وجماعات مهمة أخرى، وعند نهاية العرض، صدرت منظمة اليونسكو لجماعة الروّاد رسالة وصفت فيها الروّاد بأنهم أهمّ جماعة فنية في العراق وأكثرهم فاعلية، وعرضت عليهم المشاركة في (البينالة العالمي في فينيسيا) وكان هذا تقديراً لم تكن تتوقعه.
لو اطلعنا على تطورات الرؤية الفنية لجماعتي البدائيين والروّاد، منذ النشأة لوجودنا أن بذورها كامنة لدى فائق حسن، المؤسّس الأول، ثم لدى زيد صالح وإسماعيل الشيخلي اللذين وجدا في محمود صبري مؤشراً جديداً ساعد في ظهور جماعة الروّاد في الخمسينيات، بمظهر الجماعة المواكبة للواقع الحديث، وحفلت شخصية جماعة البدائية كل من تطلعات فائق حسن، وظروف الحرب العالمية الثانية والاغتراب والعزلة المنهكة.
عندما عاد إسماعيل الشيخلي من باريس بعد دراسته في معهد البوزار، كان الروّاد قد بلغوا الذروة في حماسهم للتجريد، وكان محمود صبري منذ عام 1950 قد أضاف لتقاليد الروّاد ثقافته الجديدة، ومفادها أن دور الفنان هو اكثر من أن يعيش اغترابه في مجتمعه قانعاً من حياته الخاصة في محيط عائلي ثقافي على مستوى متقدّم من الإنسانية والمعرفة، فكان عليه أن يخرج بتجاربه في الرسم الى محيطه الاجتماعي الأرحب لرسم حياة الناس في المدينة، ويكفُّ عن رسم بيئة هؤلاء الناس في الضواحي، وهكذا سيُسهم كلٌ من إسماعيل الشيخلي ومحمود صبري، في مجال التعبير الاجتماعي ليرسما حياة الناس وتطلعات الإنسان العراقي في مدينة بغداد، قبل سواها من المدن، ضاربين صفحاً بالرؤية البدائية لجماعتهما عبر الحائط، وهذا ما توضحهُ بالضبط رسومهما في بداية الخمسينات وحتى نهايتها.
أضحت مدة الخمسينيات مرحلة جديدة لجماعة الروّاد التي اكتسبت هذه التسمية منذ 22 كانون الأول عام 1950، حيث أقيم أوّل معرض في بيت الدكتور خالد القصاب، وقد شارك فيه عدد من جماعة بغداد للفن الحديث التي تجلّت فيما بعد كلورنا وجواد سليم، ونستطيع أن نلمس منذ البداية وضوح الرؤية الاجتماعية والبدائية معاً في معارضها لهذه المرحلة.
منذ مطلع الخمسينيات، تأثر الفن العراقي وعنى باتخاذ الواقع الحياتي موضوعاً له، وذلك عن طريق الرؤية الفنية التي رأتها جماعة الروّاد أي بالبحث عن واقع الإنسان والبيئة العراقية، بالخروج الى الطبيعة ورسمها عن طريق مناخ انساني. أراد فائق حسن زعيم هذه الجماعة، أن يجعله مناخاً انتقائياً شاملاً، سفرات الى الضواحي للرسم، وسماع الموسيقى والرقص، وغيرها من الموضوعات، كما أن محمود صبري من طرف آخر، طرح مفهومه الواقعي البدائي حينما رسم موضوعات المدنية، كالمقاهي والمحلات والأطفال وغيرها.
خلق التطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري في العراق مواضع جديدة وظروفاً جديدة، كما أدى الى انبعاث مفاهيم، وفلسفات ومواقف جديدة لدى الناس ومنهم الفنانون، وبديهي أن تبعث في أوضاع كهذه ضرورة التغيّر في الأشكال الفنية القديمة التي لم تعد ملائمة أو وافية للتعبير عن التناقضات الجديدة، والاستعانة عنها بأشكال اكثر ملائمة، وهكذا نرى في الفنانين أفراداً وجماعات، اندفاعاً في الاتجاهات المختلفة للفنانين، وفي تجارب شكلية متنوعة لأنهم على حد قولهم، يرغبون في التوصل الى شيء إن هذا الشعور في الواقع ليس، إلاّ وجهاً آخر لحقيقة مادية هي أن الأهداف الجديدة التي أخذ الفنانون يضعونها لأنفسهم، والتي تنعكس عن التطورات الاقتصادية والفكرية والاجتماعية، أخذت تتطلب شكلاً آخر للتعبير يناسبها، إلا أن التناقض يكمن في وجود علاقات اجتماعية سائدة تتصادم والأوضاع المادية الجديدة التي خلقتها هذه التطورات.
إن العراق مقبل على تقدّم كبير في حياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولابد أن يترك هذا التقدم طابعه التأثيري في انتاج الفنانين، ولابد من جهة أخرى، أن يستلهم الفنانون العراقيون هذه الحياة الجديدة، وأن يخلعوا طابعهم العراقي الخاص، كما أن هناك مرحلة يجب أن يعمل لها الفنان العراقي تتعلق بصلته بالجمهور غايتها تنمية الذوق الفني لدى الجمهور، وذلك لا يتم بغير التقرب من هذا الجمهور، من مشاغله وأحاسيسه عن طريق التعبير عن موضوعات عامة وخاصة تتصل بحياته اليومية اتصالاً مباشراً، بحيث تجذبه الى الجمهور من واقعه على أن لا يجعل هذا الإنتاج في الوقت الحاضر اكثر من الغاية التي توخاها، وهي إنماء الذوق الفني والحساسية والشعور الفني لديه.
اقامت جماعة الروّاد معرضها السادس عام 1958، فقد وصف هذا المعرض بأنه قدّم انتاجاً معبّراً عن محيطهم، وارتباطاً وثيقاً بالتربة التي ترعرعوا فيها، وادراكاً عميقاً للعصر المضطرب الذي يعيشون فيه، وعلى كل حال، فإن جماعة الروّاد في مرحلة الخمسينيات، تبدو وكأنها تركت مصيرها لتلقائية التعبير الحسّي وذاتية التعبير الإنساني، ولم تعد تصلح في أوقات لاحقة للحفاظ على هدفها في التعبير الاجتماعي، وبصورة عامة تركت الحبل على الغارب لأعضائها في التمادي بذاتية التعبير الى حدّ كبير.

عن رسالة (الجمعيات الاجتماعية والدينية والفنية وأثرها الثقافي في بغداد 1933-1958)

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الجماعات والمدارس والحركات والصالونات الأدبية
المشاهدات
455
آخر تحديث
أعلى